بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم محمّد بن عبد الله، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
بدايةً، نُعزّي وليَّ أمر المسلمين الإمامَ الخامنئيَّ (دام ظلّه)، ومراجعنا وقادتنا العظام، والأمّةَ الإسلاميّةَ جمعاء، بذكرى رحيل الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) في الثالث من حزيران عام 1989م.
هذا الإمام العظيم الذي يقول فيه الإمامُ الخامنئيُّ (دام ظلّه): «إنّ الخريطةَ الّتي رسمها الإمام لم تكن نتاجَ فكر إنسانٍ فقط، لقد كان مؤيَّداً من عند الله، قطعاً ويقيناً، إنّ الإمامَ العظيمَ نفسَه كان يعرف ذلك، ويقرّ ويعلن ويقول: «إنّ كلَّ ما جرى، قد تمَّ بيد القدرة الإلهيّة»[1].
وأيضاً، نحن على أعتاب أسبوع الأسرة، والّذي يبدأ في الخامس والعشرين من ذي القعدة، وينتهي في الأوّل من ذي الحجّة، ذكرى زواج أمير المؤمنين (عليه السلام) من السيّدة الزهراء (عليها السلام)؛ لذا وجمعاً بين هاتين المناسبتين، نتكلّم على رؤية الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) للأسرة الإسلاميّة، ونبيّن أبرز ما جاء في كلماته حولها.
للأسرة مكانةٌ اجتماعيّة خاصّة؛ إذ إنّها تشكّل الحجرَ الأساس والنواةَ الأولى في تكوين المجتمع الإنسانيّ؛ لذا كانت وما تزال محطَّ اهتمام الأنبياء والأولياء والعاملين على صلاح المجتمع وهدايته وحمايته.
وقد أعطى الإسلامُ الأسرةَ اهتماماً خاصّاً، وقيمةً معنويّةً رفيعةً، وجعل لها تعاليم وإرشادات عديدة، حاثّاً المسلمين على التزويج وبناء الأسرة الصالحة، مبيّناً كونَهُ من المستحبّات الأكيدة، بل عدّه أحبَّ بناءٍ إلى الله عزّ وجلّ، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «ما بُني بناءٌ في الإسلام أحبُّ إلى الله من التزويج»[2].
والإمام الخمينيّ (قُدِّسَ سرُّه)، أحد أبرز علماء الإسلام، الّذين أولوا اهتماماً خاصّاً وعنايةً بالغةً بالأسرة وتشكيلها، يرى أنّ الدينَ الإسلاميَّ هو البرنامج الأكمل للحياة الفرديّة والاجتماعيّة، فيقول: «الإسلام قد وضع برنامجاً دقيقاً ومفصّلاً لحياة الإنسان الفرديّة، بدءاً من المرحلة السابقة لولادته، ومروراً بجميع المراحل الّتي يُمضيها ضمن العائلة. كما وضع البرامج لمجتمع العائلة، وعيّن الأحكامَ والقوانينَ لكلِّ جوانبها ومراحلها، ثمّ يتابع الإنسانَ بعد خروجه من العائلة للدخول في مجال التعليم، وحتّى دخوله المجتمعَ الكبير، ووضع القوانينَ الّتي تنظِّم حياة المجتمع المسلم، بل وحتّى القوانين والبرامج الّتي تُنظِّم علاقةَ الدولة الإسلاميّة مع سائر الدول والشعوب. ذلك كلّه له أحكام في الشريعة المطهَّرة»[3].
الزواج منشأ الحياة الاجتماعيّة
وإنّ الحياةَ الاجتماعيّةَ لا تتحقّق إلّا من خلال الزواج، الّذي هو أمرٌ فطريّ، تحتاج إليه المخلوقات كافّة، فلا مجال لتأسيس المجتمع إلّا من خلال شريكٍ في الحياة، يعملان على تأسيس الأسرة، ومن ثَمَّ تأسيس المجتمع، والإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) يبيّن أنّه ثمّة شروط حدّدها الإسلام ليضمن بناء الأسس السليمة للعائلة، وبالتالي ضمان تأسيس المجتمع الصالح، يقول (قُدِّس سرُّه): «أمّا الإسلام، فهو يحدِّد لكلٍّ من والدَيه قبل زواجهما الشروطَ الّتي يجب توفّرها في الطرف الآخر. والسبب هو أنّ هذين الزوجين هما منشأ ظهور فرد واحد أو مجموعة من الأفراد، والإسلام يريد أن يكونوا من الصالحين في المجتمع؛ ولتحقيق ذلك يحدِّد الصفاتِ اللازمةَ في الزوجة والزوج، والأعمالَ والأخلاقَ الّتي ينبغي توفّرها في الأسرة الّتي تربّيا فيها، ويحدِّد أسلوبَ تعاملهما بعد الزواج وآدابَ الولادة وحضانةَ الطفل. والهدف من هذه الآدابِ كلِّها هو أن تكون ثمرةُ هذا الزواج موجوداً صالحاً للمجتمع، وليتمَّ بذلك إصلاح أوضاع العالم كلِّه»[4].
عوامل تشكيل الأسرة
فالإمام (قّدِس سرُّه) يبيّن أنّه ثمّة عوامل ينبغي أن تتصدرّ تشكيلَ الأسرة الصالحة، بعد تأكيده ضرورة ذلك، وأوّلها العناية بعمليّة اختيار الشريك المؤسِّس، إذ ثمّة شروط ينبغي توافرها لضمان بقاء الأسرة واستمرارها، وعدم تعرّضها للتفكّك والانهيار، والالتفات إلى المزايا الّتي يتمتّع بها كلٌّ منهما.
ثمّ بعد ذلك يرى الإمام (قُدِّس سرُّه) أنّ لمرحلة ما بعد الزواج أهمّيّةً خاصّة، في ما يتعلّق بروابط الزوجين في ما بينهما، وباقي المراحل التي تتبع ذلك، من انعقاد النطفة ومرحلة الحمل والسلوك والتغذية حتّى الولادة والعناية بالطفل... فذلك كلُّه مقدّمةٌ لولادة إنسانٍ، ثمّ خضوعه لتربية فرديّةٍ صالحة، تجعل منه إنساناً صالحاً في مجتمعه، وفي صلاح ذلك صلاح العالم بأسره؛ إذ إنّ الإنسان الّذي ينشأ في أسرةٍ سليمة، له دورٌ أساس في سلامة حياة الآخرين.
«هذا نظر الإسلام للإنسان، أن يكون الزوج المنتخَب صالحاً، ليأتي منه إنسان صالح؛ وأن تكون المرأة المنتخَبة صالحةً أيضاً، ليأتي من هذين الزوجين إنسان، ثمّ بأيِّ أدبٍ يجب أن تكون؟ وعلى أيِّ أدب يجب أن يكون هذا الزواج؟ وفي أيّ حالٍ وأدبٍ يجب أن يتمّ التلقيح؟ وما الآداب الخاصّة بالحمل؟ وما آداب الرضاعة بعدئذٍ؟ هذه الأمور كلّها جاءت بها أديان التوحيد الّتي أسماها الإسلام لتصنع الإنسان»[5].
لقد كان الإمام (قُدِّس سرُّه) يرى أنّ الحلَّ للكثير من المشاكل والمصاعب الّتي يعيشها الإنسان يبدأ من تشكيل أسرةٍ سليمة، تُعنى بتربية الإنسان تربيةً صالحةً، ثمّ ينطلق بعدها إلى فضاء المدرسة الأوسع، ثمّ عند بلوغه يتوجّه إليه الخطاب بمراعاة الأوامر والنواهي الصادرة عن الشارع المُقدّس، يقول (قُدِّس سرُّه): «هذا ما تقوم به شريعة الإسلام الهادفة إلى تربية الإنسان الحقيقيّ؛ ولذلك بدأَت بالتمهيد لذلك حتّى قبل انعقاد نطفته، فمدَّت توجيهاتها لما قبل الزواج وآدابه، ثمّ عيّنَت آداب الولادة وما بعدها خلال الرضاعة ومعاملة الوالدَين للطفل، رضيعاً وصبيّاً في المدرسة الابتدائيّة وصفات معلّميه ومربّيه فيها. ثمّ توجّه الخطاب إليه هو نفسه عند بلوغه الاستقلال والاعتماد على نفسه، فشرَّعَت الأعمال والفرائض التي يجب عليه القيام بها. والهدف من ذلك كلِّه أن يتربّى جميع أفراد المجتمع تربيةً صالحة»[6].
محوريّة دور الأمّ
وعلى الرغم من تأكيد الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه) دورَ الأب والأم في تأسيس الأسرة النموذجيّة، وأن يتربّى الأولاد في أحضان أمّهاتهم وتحت رعاية آبائهم بشكلٍ مناسب ومنهجٍ سليم، إلّا أنّه كان يرى أنّ للأم على وجه الخصوص دوراً بالغاً وشديدَ الحساسيّة، ويرى أنّ خدمة الأم للمجتمع هي أعلى من خدمة المعلّم، بل وأعلى من خدمة أيِّ شخصٍ آخر، يقول (قُدِّس سرُّه): «دور المرأة في المجتمع أسمى من دور الرجل؛ لأنّ النساءَ فضلاً عن كونهنّ فئةً نشيطةً في جميع النواحي، فإنّهنّ يربّين الفئات الفعّالة الأخرى في أحضانهنّ. خدمة الأم للمجتمع أعلى من خدمة المعلِّم، وهي أعلى من خدمة أيّ شخص آخر، وهذا هو ما كان يريده الأنبياء. كانوا يريدون أن تكون النساءُ فئةً تربّي المجتمع»[7].
كما يرى أنّ حضنَ الأم خيرُ مدرسةٍ له؛ إذ إنّ ما يمكن أن يتلقّاه الطفل من أمّه لا يتلقّاه من أحدٍ غيرِها، فوظيفتها الإلهيّة تربية الإنسان: «يُعَدّ حضنُ الأم خيرَ مدرسةٍ يمكن للطفل أن يتربّى فيها، فما يسمعه الطفلُ من أمّه غير الّذي يسمعه من معلِّمه، فهو يتقبّل من أمّه أكثر ممّا يتقبّل من أبيه أو معلّمه؛ ولذلك فإنّ وظيفةَ الأم وظيفةٌ إلهيّة إنسانيّة نبيلة، ألا وهي تربية الإنسان»[8].
الأسرة مصنع الإنسان العادل
لقد رسم الإسلام، برأي الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، السلوكَ الإنسانيّ، وبيّن الأخلاقَ الّتي ينبغي التحلّي بها في العلاقات بين أفراد الأسرة والعائلة، وجعل آداباً لذلك، فالإسلام هدفه بناء الإنسان الصالح وتربيته على كافّة الأصعدة، والأسرة هي المصنع الأوّل لذلك: «الإسلام ينظِّم شأنَك حتّى وأنت في بيتك وحيداً؛ بمعنى أنّه يحدِّد سلوكَك هناك أيضاً، ويبيّن الأخلاقَ الّتي يجب أن تتحلّى بها، وكيف يجب أن تستفيدَ من قوّتك العقليّة وطبيعة سلوكيّاتك، والآداب الّتي ينبغي أن تتعامل في ضوئها مع أطفالك، وكيف يتعامل الابن مع أبيه وأمّه وبالعكس، والأخ مع أخيه، وأفراد العائلة في ما بينهم، ومع العوائل الأخرى، فقد حدّد الإسلام آداباً لهذه الشؤون كلّها... الإسلام دين الجميع؛ أي إنّه جاء لتربية كلّ البشر وفقاً للصورة الّتي يريد من العدالة، بحيث لا يعتدي إنسان على آخر، ولا بمقدار أنملة، لا يعتدي إنسانٌ على ولده أو زوجته، ولا تعتدي الزوجة على زوجها، ولا أحد الأخوين على الآخر، ولا الرفاق بعضهم على بعض، إنّه يريد تربية إنسانٍ عادلٍ بكلِّ معنى الكلمة، يكون تفكيرُه وعقلُه عقلَ إنسان، وكذلك ظاهرُه ظاهراً إنسانيّاً ومؤدّباً بالآداب الإنسانيّة، وهذا ما يريد الإسلامُ تحقيقَه»[9].
[1] من كلامٍ للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، بتاريخ 04/06/2014م.
[2] الشيخ الطبرسيّ، مكارم الأخلاق، ص196.
[3] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، ج2، ص31.
[4] المصدر نفسه، ج5، ص223.
[5] المصدر نفسه، ج8، ص315.
[6] المصدر نفسه، ج5، ص 224.
[7] المصدر نفسه، ج14، ص157.
[8] المصدر نفسه، ج9، ص233.
[9] المصدر نفسه، ج4، ص324.