بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على خير خلقه محمّد، وآله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى شهيدنا الأسمى سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، وإلى الأمّة الإسلاميّة جمعاء، نرفع أسمى آيات العزاء بذكرى شهادة أمير المؤمنين سيّد الأوصياء الإمام عليّ بن أبي طالبٍ (عليه السلام).
عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، يسأل رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن، أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عزّ وجلّ، ثمّ بكى، فقلت: يا رسول الله، ما يُبكيك؟! فقال: يا عليّ، أبكي لما يُستحَلّ منك في هذا الشهر؛ كأنّي بك وأنت تصلّي لربّك، وقد انبعث أشقى الأوّلين والآخِرين، شقيق عاقر ناقة ثمود، فضربك ضربة على قرنك، فخضّب منها لحيتك»، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «فقلت: يا رسول الله، وذلك في سلامة من ديني؟ فقال: في سلامة من دينك»[1].
أمير المؤمنين )عليه السلام( سراج العابدين
عباد الله، في هذه الأيّام المباركة من شهر رمضان، وفي العشر الأواخر منه، أيّام العتق من النار، حيث تعلو الأرواح وترتقي القلوب، كانت شهادة إمام المتّقين، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي جسّد أرقى معاني العبوديّة الحقّة لله عزّ وجلّ، وكانت حياته كلّها لله؛ قيامه وقعوده، سعيه وجهاده، كلامه وصمته، حتّى قال فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «يا عليّ، ما عرف الله إلّا أنا وأنت...»[2].
لقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مثالاً في العبادة والخضوع بين يدي الله تعالى، خضوعاً حقيقيّاً بين يدي العزيز الجبّار، كيف لا؟ وهو الذي كان إذا حضر وقت الصلاة، تلوّن وتزلزل، فقيل له ما لك؟! فيقول: «جاء وقت أمانةٍ، عرضها الله تعالى على السماوات والأرض والجبال، فأبَيْنَ أن يحملْنَها، وحملها الإنسان في ضعفه، فلا أدري أحسن إذا ما حملت أم لا»[3].
كان (عليه السلام) يقوم الليل، ويكثر من السجود، ويخلو بربّه، وهو القائل: «طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا، وعَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا، وهَجَرَتْ فِي اللَّيْلِ غُمْضَهَا، حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا، وتَوَسَّدَتْ كَفَّهَا، فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ، وتَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ، وهَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ، وتَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ»[4].
وعن الإمام الباقر (عليه السلام)، عن أبيه الإمام زين العابدين (عليه السلام)، أنّه قال له: «يا بُنيّ، أعطني بعض الصحف التي فيها ذكر عبادة عليّ (عليه السلام)، فأعطيتُه منها صحيفة، فنظر في شيء منها، ثمّ وضعها بين يديه، وقال: ومَن يقوى على عبادة عليّ»[5].
ليلة القدر وضرورة اغتنامها
حريّ بنا أن نقتدي بإمامنا (عليه السلام)، ونتأسّى به في علاقته بالله تعالى، فنتوجّه إليه تعالى في أفضل الليالي في هذا الشهر الشريف، ألا وهي ليلة القدر التي عدّها خيراً من ألف شهر. هي ليلةٌ أجزل فيها تعالى الخير والبركة، وفتح باب توبته وغفرانه، ورسمها لتكون ليلة تقديرٍ لأمور عباده، ثمّ دعانا تعالى وأرشدنا إلى ذلك الفضل العميم، وكذلك النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة المعصومون (عليهم السلام)، أرشدونا إلى أهمّيّة هذه الليلة وكيفيّة إحيائها، سواءٌ أكان على الصعيد المعنويّ أم الشكليّ.
ولم يكتفِ أهل العصمة بالقول، فهم لا يقولون ما لا يفعلون، بل ترجموا ذلك في سيرتهم وتعاملهم مع ليلة القدر، ما يُنبئ بأهمّيّتها العظمى، فقد كانت السيّدة فاطمة (عليها السلام) لا تدع أحداً من أهلها ينام تلك الليلة[6]، وتداويهم بقلّة الطعام، وتتأهّب لها من النهار، وتقول: «محرومٌ من حُرِم خيرها»[7].
ورُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه سُئل عن قول الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، قال: «نعم، هي ليلة القدر، وهي في كلّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم يُنزَّل القرآن إلّا في ليلة القدر، قال الله عزّ وجلّ: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، قال: يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل؛ خير وشرّ وطاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق، فما قُدّر في تلك الليلة وقُضي فهو المحتوم، ولله عزّ وجلّ فيه المشيئة»[8].
الاعتكاف في العشر الأواخر
ومن الأعمال العظيمة التي ينبغي أن يحرص عليها المؤمنون في هذه الليالي المباركة، سنّة الاعتكاف، فقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إذا دخلت العشر الأواخر شدّ مئزره، واعتكف في المسجد، متفرّغاً للعبادة والذكر والدعاء.
فالاعتكاف فرصة عظيمة لتهذيب النفس، والتفرّغ للعبادة، وهو تربية للروح على الطاعة والخشوع، يسترجع الإنسان فيه نشاطه الروحيّ والمعنويّ، إذ يقضي أيّاماً ضمن شروط وأحكام محدّدة، يعيش فيها حالة من التفكّر بالله تعالى، منقطعاً فيها عن متعلّقات الدنيا وانشغالاتها.
عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: «اعتكاف عشر في شهر رمضان يعدل حجّتين وعمرتين»[9]. وقد ورد في سيرته (صلّى الله عليه وآله) أنّه عمل بهذه السنّة وداوم عليها، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «كان رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله) إذا دخل العشر الأواخر، ضُربَت له قبّة شعر، وشدّ المئزر»[10]، بل ونجد حرصه (صلّى الله عليه وآله) على عدم فوات هذا العمل، وإن فات عنه فإنّه يعمد إلى قضائه، فعن الإمام الرضا (عليه السلام): «كانت بدر في رمضان، فلم يعتكف النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا كان من قابل اعتكف عشرين يوماً من رمضان؛ عشراً لعامهِ، وعشراً قضاءً لما فاته»[11].
إنّ الاعتكاف هو فرصة للاختلاء بالله تعالى، وإلى هذا الأمر يشير الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «الاعتكاف عبارة عن حجز النفس وحبسها في مكان محدّد، وتقييد هذه النفس وإيجاد حدود لها. والعكوف يعني الإغلاق والإقفال وحصر النفس في نقطة معيَّنة؛ لكي تتحقَّق خلوةٌ في القلب، فيتمكّن الإنسان من أن يجد فرصة للاتّصال المباشر والعلاقة النقيّة مع ربّ العالَمين»[12].
كما يحذّر (دام ظلّه) من أيّ عمل يمكن أن يؤثّر سلباً على هذه الغاية، فيقول: «إنّ الاعتكاف الذي يمارسه الشباب، هو في الحقيقة اختلاء بالله عزّ وجلّ... إنّه عمل فرديّ أكثر من كونه عملاً جماعيّاً. هو عمل فرديّ يهدف إلى إيجاد صلةٍ بين العبد وبين ربّه. فلا ينبغي أن تكون البرامج الجماعيّة في مراكز الاعتكاف، بحيث تؤثّر سلباً على لذّة الاختلاء بالله والارتباط الفرديّ والقلبيّ به»[13].
عباد الله، هذه أيّام عظيمة وليالٍ مباركة، فمن فاته ما مضى من شهر رمضان فليغتنم ما بقي، وليكثر من الطاعات والعبادات، وليحيِ هذه الليالي المباركة بالصلاة والقيام وتلاوة القرآن والدعاء.
[1]الشيخ الصدوق، الأمالي، ص155.
[2] السيّد الأسترآبادي، تأويل الآيات الظاهرة في فضائل العترة الطاهرة، ص139.
[3]ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج1، ص389.
[4]السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص420، الكتاب 45.
[5] النعمان المغربيّ، شرح الأخبار، ج3، ص272.
[6] فمن إحيائها البقاء على يقظة حتّى طلوع الفجر.
[7] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج94، ص10.
[8] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص157.
[9] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج94، ص130.
[10] السيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، ج9، ص50.
[11] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج2، ص184.
[12] صدى الولاية، العدد 195، رجب 1440هـ، باقة من كلمات الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) حول الاعتكاف.
[13] المصدر نفسه.