بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله وأعزّ المرسلين، سيّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، نرفع أسمى آيات التهنئة والتبريك، بذكرى الولادة المباركة لسيّدة نساء العالمين السيّدة الزهراء (عليها السلام)، ولحفيدها الإمام الخمينيّ العظيم (قُدِّس سرُّه)، في العشرين من جمادى الآخرة.
كما نتقدّم أيضاً بالتهاني والتبريكاتِ في الذكرى السنويَّة الرابعة لشهادة القائد الحاجّ قاسم سليمانيّ والقائد الحاجّ أبي مهدي المهندس ورفاقِهما.
إنّ سيرةَ سيّدة نساء العالمين السيّدة الزهراء (عليها السلام) مدرسةٌ متكاملة في مختلف أبعاد الحياة، للرجال والنساء؛ كانت خيرَ سندٍ لأبيها رسولِ الله (صلّى الله عليه وآله) في تبليغ الدعوة الإسلاميّة، تتحمّل أذى مشركي قريش مع الثلّة القليلة من المؤمنين في شعب أبي طالب، وتتكبّد عناءَ الهجرة من مكّة إلى المدينة، وثمّة مواقف كثيرة تدلّ على مدى عظمتها ومكانتها، «ففضلُ فاطمة (عليها السلام) مشهور، ومحلُّها من الشرف من أظهر الأمور، كان النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) يعظّم شأنَها، ويرفع مكانَها، وكان يكنّيها بأمِّ أبيها، ويُحِلُّها من محبّته محلّاً لا يقاربها فيه أحد، ولا يوازيها»[1].
وقد سأله أميرُ المؤمنين (عليه السلام) يوماً، فقال: «يا رسولَ الله، أنا أَحَبُّ إليك أم فاطمة؟»، فقال: «أنت عندي أعزُّ منها، وهي أحبُّ منك»[2].
ولقد وقفَت أيضاً إلى جانب أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي أرسى دعائمَ الإسلام، مجاهدةً صابرةً عابدة.
يقول عنها الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه): «إنّ مختلفَ الأبعاد التي يمكن تصوُّرها للمرأة وللإنسان، تجسّدَت في شخصيّةِ فاطمة الزهراء (عليها السلام). لم تكن الزهراءُ امرأةً عاديّةً، كانت امرأةً روحانيّة، كانت إنساناً بتمام معنى الكلمة، نسخةً إنسانيّةً متكاملة، امرأةً حقيقيّةً كاملة... الإنسانَ الكامل.
هي كائنٌ ملكوتيّ، تجلّى في الوجود بصورة إنسان... فقد اِجتمعت في هذه المرأة جميعُ الخصال الكماليّة المتصوَّرة للإنسان وللمرأة.
إنّها المرأة التي تتحلّى بجميع خصال الأنبياء (عليهم السلام)، المرأة التي لو كانت رجلاً لكانت نبيّاً، لو كانت رجلاً لكانت بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله)»[3].
وفي ما يأتي، نسلِّط الضوءَ على بعضٍ من هذه الخصال، بقليلٍ من التأمّل في بعض محطّات حياتها (عليها السلام).
نِعمَ الزوجة
بدايةً في حياتها الزوجيّة، إذ كان بيتُ أمير المؤمنين والسيّدة الزهراء (عليهما السلام) أروعَ نموذج في الصفاء والإخلاص والمودّة والرحمة، تعاونا بوئام وحنان على إدارة شؤونه وإنجاز أعماله، ولقد كانت (عليها السلام) تُشجّع زوجَها، وتُسكّن جراحَه، وتُخفّف عنه آلامَه وتعبَه، حتّى قال (عليه السلام): «ولقد كنتُ أنظر إليها، فتُكشَفُ عنّي الغمومُ والأحزانُ بنظري إليها»[4].
كانت (عليها السلام) تبذل قصارى جهدِها في إسعاد أُسرتها، ولم تستثقل أداءَ مهام بيتها، برغم الصعوبات والمشاقّ كلِّها، حتّى أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) رقَّ لحالها وامتدح صنعَها، وقال لرجلٍ من بني سعد: «ألا أحدّثُك عنّي وعن فاطمة الزهراء؟ إنّها كانت عندي، فاستقَت بالقربة حتّى أثّر في صدرِها، وطحنت بالرحى حتّى مَجِلَت يداها، وكسحت البيت حتّى اغبرّت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتّى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضررٌ شديد»[5].
وقد رُوي أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دخل على أمير المؤمنين والسيّدة الزهراء (عليهما السلام)، وكانا يتشاركان أعمالَ المنزل، فوجدهما يطحنان في الجاروش، فقال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله): «أيّكما أعيى؟»، فقال عليّ (عليه السلام): «فاطمة، يا رسول الله»، فقال (صلّى الله عليه وآله): «قومي يا بُنيّة»، فقامت، وجلس النبيُّ (صلّى الله عليه وآله) موضعَها مع عليٍّ (عليه السلام)، فواساه في طحن الحبّ[6].
ولقد عبّر رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن مكانة هذين الشريكَين وعظمتهما في تقديم النموذج الأمثل للحياة الزوجيّة؛ إذ لمّا كانت ليلةُ زفافِهما، أتى (صلّى الله عليه وآله)، وأخذ عليّاً (عليه السلام) بيمينه وفاطمة (عليها السلام) بشماله، وضمّهما إلى صدره، فقبّل ما بين أعينِهما، وأخذ بيد فاطمة فوضعها في يد عليّ، وقال: «بارك اللهُ لكَ في ابنةِ رسولِ الله»، وقال (صلّى الله عليه وآله): «يا عليّ، نِعْم الزوجة زوجتك!»، وقال: «يا فاطمة، نِعْم البعل بعلك!»[7].
إيثارها
ومن صفاتها وخصائصها النقيّة التي تحلّت بها (عليها السلام)، إيثارها وهذه الأسرةَ التي كوّنتها مع أمير المؤمنين (عليه السلام). والإيثار من الصفات الكريمة التي تؤدّي إلى سمُوّ الإنسان، وتكامل شخصيّته ونكرانه لذاته، وتفانيه في سبيل الحقّ والخير، وقد عُني به الإسلام عنايةً بالغة، وأثنى على مَنْ يتخلّق به، قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[8].
ولا يوجد أجلى مصداقاً للآية الشريفة سوى أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، الذين آثروا غيرَهم على أنفسهم، وقد عرض القرآنُ الكريم صوراً من إيثارِهم، ومنها في سورة الإنسان، التي تحكي قصّة الإطعام؛ إذ صاموا (عليهم السلام) وفاءً بالنذر لشفاء الإمامَين الحسنين (عليهما السلام)، ثمّ أنفقوا طعامَهم الوحيد إلى ثلاثة محتاجين، يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «كَانَ عِنْدَ فَاطِمَةَ (عليها السلام) شَعِير،ٌ فَجَعَلُوهُ عَصِيدَةً، فَلَمَّا أَنْضَجُوهَا وَوَضَعُوهَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، جَاءَ مِسْكِينٌ، فَقَالَ الْمِسْكِينُ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَطْعِمُونَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فَأَعْطَاهُ ثُلُثَهَا، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ يَتِيمٌ، فَقَالَ الْيَتِيمُ: رَحِمَكُمُ اللَّهُ، أَطْعِمُونَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، فَقَامَ عَلِيٌّ (عليه السلام) فَأَعْطَاهُ ثُلُثَهَا الثَّانِيَ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ أَسِير،ٌ فَقَالَ الْأَسِيرُ: يَرْحَمْكُمُ اللَّهُ، أَطْعِمُونَا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، فَقَامَ عَلِيٌ (عليه السلام) فَأَعْطَاهُ الثُّلُثَ الْبَاقِيَ، وَمَا ذَاقُوهَا»[9].
فنزلَت في ذلك آياتٌ كريمة تتحدّث عن فضلهم، وتبيّن قِمّةَ الإيثار والتقوى، وتقدّمهم نموذجاً يُحتذى وقدوةً للبشريّة، تهتدي بهم الأجيال وتسير على نهجهم، قال تعالى: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا﴾[10].
عبادتها
وممّا ورد في صفاتها وخصائصها أيضاً، العبوديّة لله تعالى بأرقى درجاتها. والعبوديّة بمعناها العامّ، هي الخضوع والانقياد والطاعة للمعبود، وقد كانت السيّدة الزهراء (عليها السلام) بهذا المعنى العابدة لله تعالى، حتّى كانت من المطهَّرين، يقول سبحانه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾[11]، فهي من أصحاب الكساء الذين أذهب اللهُ عنهم الرجسَ، وطهَّرهم تطهيراً. ومن أسمائها التي أطلقها رسولُ الله عليها «الطاهرة»، فهي الطاهرة المعصومة من الرجس والذنوب، بل إنّ اللهَ يرضى لرضاها، كما ورد في الكثير من الأحاديث والروايات الشريفة.
والعبادة بمفهومها الخاصّ، والتي تعني الالتزام بما فرضه الله تعالى من تشريعات، والتي هي وسائل تقرّبٍ وعروجٍ إليه تعالى، كالصلاة والصيام والحجّ... فقد رُوي عن الحسن البصريّ قولُه في السيّدة الزهراء (عليها السلام): «ما كان في الدنيا أعبدُ من فاطمة (عليها السلام)، كانت تقوم حتّى تتورَّمَ قدماها»[12].
وعن الإمام الصادق (عليه السلام)، عن آبائه، عن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، قال: «رأيتُ أمّي فاطمة (عليها السلام) قامَت في محرابِها ليلةَ جمعتها، فلم تزل راكعةً ساجدة، حتّى اتّضح عمودُ الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات، وتُسمّيهم، وتُكثِر الدعاءَ لهم، ولا تدعو لنفسِها بشيء! فقلتُ لها: يا أمّاه، لِم لا تَدْعِينَ لنفسِك كما تَدْعِينَ لغيرِك؟ فقالت: يا بُنيَّ، الجار ثمّ الدار»[13].
مفطومةٌ من الشرّ
في الختام، يقول الإمام الصادق (عليه السلام) لأحدهم: «أتدري أيُّ شيءٍ تفسيرُ فاطمة؟»، قال: أخبرني يا سيّدي، قال: «فُطِمَت من الشرّ»، ثمّ قال: «لولا أنّ أميرَ المؤمنين (عليه السلام) تزوّجها، لما كان لها كُفوٌ إلى يوم القيامة على وجه الأرض، آدم فمَن دونه»[14].
وكان هذا الاسم محبوباً عند أهل البيت (عليهم السلام)، يحترمونه ويحترمون مَن سُمِّيَت به. سأل الإمامُ الصادق (عليه السلام) أحدَ أصحابه، وقد رزقه اللهُ بنتاً: «ما سمَّيتها؟»، قال: فاطمة، قال: «آهٍ آه... أمّا إذا سمَّيتها فاطمة، فلا تسبَّها ولا تلعنْها ولا تضربْها»[15].
[1] عليّ بن أبي الفتح الإربليّ، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة، ج2، ص90.
[2] المصدر نفسه.
[3] راجع: الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)، صحيفة الإمام، ج7، ص250 (من كلمةٍ بمناسبة يوم المرأة، بتاريخ 16/05/1979م).
[4] الخوارزميّ، المناقب، ص353.
[5] الشيخ الصدوق، مَن لا يحضره الفقيه، ج1، ص320.
[6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج43، ص51.
[7] المصدر نفسه، ج43، ص96.
[8] سورة الحشر، الآية 9.
[9] القمّيّ، تفسير القمّيّ، ج2، ص399.
[10] سورة الإنسان، الآيات 6 - 8.
[11] سورة الأحزاب، الآية 33.
[12] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج43، ص76.
[13] الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج1، ص182.
[14] الشيخ الصدوق، الخصال، ص414.
[15] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج6، ص49.