ابو عبد الله الحسين بن احمد بن الحجاج النيلي البغدادي الامامي الكاتب الفاضل من شعراء أهل البيت ، كان فرد زمانه في وقته. يقال انه في الشعر في درجة امرئ القيس وانه لم يكن بينهما مثلهما. كان معاصرا للسيدين وله ديوان شعر كبير عدة مجلدات ، وجمع الشريف الرضي رحمه الله المختار من شعره سماه (الحسن من شعر الحسين) وكان ذلك في حياة ابن الحجاج ، وفي أمل الأمل للحر العاملي قال: كان إمامي المذهب ويظهر من شعره أنه من اولاد الحجاج بن يوسف الثقفي وعدّه ابن خلكان وابو الفداء من كبّار الشيعة ، والحموي في معجم الأدباء يقول: من كبار شعراء الشيعة ، وآخر من فحول الكتّاب ، فالشعر كان أحد فنونه كما أن الكتابة إحدى محاسنه الجمّة وعدّه صاحب رياض العلماء من كبراء العلماء وكان ذا منصب خطير وهو توليه الحسبة ببغداد ـ والحسبة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس كافّة ولا تكون إلا لوجيه البلد ولا يكون غير الحر العدل والمعروف بالرأي والصراحة الخشونة بذات الله ومعروفا بالديانة موصوفا بالصيانة بعيدا عن التهم ، وشاعرنا ابن الحجاج قد تولاها مرة بعد أخرى ، قالوا إنه تولى الحسبة مرتين ببغداد ، مرة على عهد الخليفة العباسي المقتدر بالله ، واخرى أقامه عليها عز الدولة في وزارة ابن بقيّة الذي استوزره عز الدولة سنة 362 وتوفي سنة 367 والغالب على شعره الهزل والمجون ، وكان ذا استرسل فيهما فلا يجعجع به حضور ملك أو هيبة أمير ، كما أن جلّ شعره يعرب عن ولائه الخالص لأهل البيت والوقيعة في مناوئيهم.
ومن شعره قصيدته الغراء التي أنشدها في حرم أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام وأولها: وقال يرثي الحسين عليه السلام
يا صاحب القبّة البيضا على النجف | مَـن زار قبرك واستشفي لديك شُفي |
زوروا أبـا الـحسن الـهادي لعلكم | تـحظون بـالأجر والأقبال والزلف |
زوروا لمن تسمع النجوى لديه فمن | يـزره بـالقبر مـلهوفا لـديه كُفي |
إذا وصـلت فـأحرم قـبل تـدخله | مـلبيا واسـع سـعيا حـوله وطُف |
حـتى إذا طـفت سـبعا حول قبته | تـأمّل الـباب تِـلقا وجـهه فـقف |
وقـل : سـلام من الله السلام على | أهـل الـسلام وأهل العلم والشرف |
إنـي أتـيتك يـا مولاي من بلدي | مـستمسكا من حبال الحق بالطرف |
راج بـأنك يـا مـولاي تـشفع لي | وتـسقني مـن رحيق شافي اللهف |
لأنـك الـعروة الـوثقى فمن علقت | بـها يـداه فـلن يـشقى ولم يخَف |
وإن أسـماءك الـحسنى إذا تـليت | عـلى مريض شفي من سقمه الدنف |
لأن شـأنك شـأن غـير مـنتقص | وإن نـورك نـور غـير مـنكسف |
وإنـك الآيـة الكبرى التي ظهرت | لـلعارفين بـأنواع مـن الـطرف |
هــذي مـلائكة الـرحمن دائـمة | يـهبطن نـحوك بالألطاف والتحف |
كـالسطل والـجام والمنديل جاء به | جـبـريل لا أحـد فـيه بـمختلف |
كـان الـنبي إذا اسـتكفاك معضلة | مـن الامـور وقد أعيت لديه كُفي |
وقـصّة الـطائر المشويّ عن أنسٍ | تـخبر بما نصّه المختار من شرف |
والحب والقضب والزيتون حين أتوا | تـكرّماً مـن إله العرش ذي اللطف |
والـخيل راكـعة فـي النقع ساجدة | والمشرفيات قد ضجّت على الحجف |
بـعثت أغـصان بانٍ في جموعهم | فـأصبحوا كـرمادٍ غـير مـنتسف |
لـو شئت مسخهم في دورهم مسخوا | أو شئت قلت لهم: يا أرض انخسفي |
والـموت طـوعك والأرواح تملكها | وقـد حـكمت فـلم تظلم ولم تجف |
لا قـدّس الله قـوما قـال قـائلهم: | بـخ بـخ لك من فضل ومن شرف |
وبـايـعوك "بـخمٍّ" ثـم أكّـدها | "مـحمد" بـمقال مـنه غير خفي |
عـاقوك واطـرّحوا قول النبي | ولم يـمنعهم قـوله: هـذا أخي خلَفي |
هـذا ولـيكم بـعدي فـمن علقت | بـه يـداه فـلن يـخشى ولم يخف |
قال الشيخ الأميني سلمه الله ان السلطان عضد الدولة بن بويه لما بنى سور المشهد الشريف ودخل الحضرة الشريفة وقبّل اعتابها واحسن الأدب فوقف ابو عبد الله الحسين بن الحجاج بين يديه وأنشد هذه القصيدة فلما وصل منها الى الهجاء أغلظ له الشريف سيدنا المرتضى ونهاه أن ينشد ذلك في باب حضرة الإمام عليه السلام فقطع عليه فانقطع فلمّا جنّ عليه الليل رأى إبن الحجّاج الإمام عليّا عليه السلام في المنام وهو يقول: لا ينكسر خاطرك فقد بعثتا المرتضى علم الهدى يعتذر إليك فلا تخرج إليه حتى يأتيك، ثم رأى الشريف المرتضى في تلك الليلة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة صلوات الله عليهم حوله جلوس فوقف بين أيديهم وسلم عليهم فحس منهم عدم إقبالهم عليه فعظم ذلك عنده وكبر لديه فقال: يا مواليّ أنا عبدكم وولدكم ومواليكم فبمَ استحققت هذا منكم؟ فقالوا: بما كسرت خاطر شاعرنا أبي عبد الله إبن الحجاج فعليك أن تمضي إليه وتدخل عليه وتعتذر إليه وتأخذه وتمضي به إلى مسعود بن بابويه وتعرّفه عنايتنا فيه وشفقتنا عليه ، فقام السيد من ساعته ومضى إلى أبي عبد الله فقرع عليه الباب فقال إبن الحجاج: سيدي الذي بعثك إليّ أمرني أن لا أخرج إليك, وقال: إنه سيأتيك، فقال: نعم سمعاً وطاعة لهم. ودخل عليه واعتذر إليه ومضى به الى السلطا وقصا القصّة عليه كما رأياه فأكرمه وأنعم عليه وخصّه بالرتب الجليلة وأمر بأنشاد قصيدته.
وله من قصيدة ردّ بها على قصيدة ابن سكرة محمد بن عبد الله بن محمد الهاشمي البغدادي من ولد علي بن المهدي العباسي وقد تحامل بها على آل رسول الله صلى الله عليه وآاه وسلم فقال ابن الحجاج في الرد عليه.
لا أكذب الله إن الصدق ينجيني يد الامير بحمد الله تحييني الى ان قال
فـما وجـدت شـفاءً تـستفيد بـه | إلا ابـتـغاءك تـهجو آل يـاسين |
كـافاك ربـك إذ أجـرتك قـدرته | بـسبّ أهـل الـعلا الغر الميامين |
فـقر وكـفر هـميع أنـت بينهما | حـتى الـممات بـلا دنيا ولا دين |
فـكان قـولك فـي الزهراء فاطمه | قـول امـرئ لهج بالنصب مفتون |
عـيّرتها بـالرحا والـزاد تطحنه | لا زال زادك حـبّاً غـير مطحون |
وقـلت : إن رسـول الله زوّجـها | مـسكينة بـنت مـسكين لـمسكين |
كذبت يابن التي باب إستها سلس | الأ غـلاق بـالليل مـفكوك الزرافين |
سـتّ النساء غداً في الحشر يخدمها | أهـل الـجنان بحور الخرّد العين |
فـقلت: إن أمـير الـمؤمنين بغى | عـلى مـعاوية فـي يـوم صفين |
وإن قـتل الـحسين الـسبط قام به | فـي الله عـزمٌ إمـام غير موهون |
فـلا ابـن مـرجانة فـيه بمحتقب | إثـمَ الـمسيء ولا شـمرٌ بملعون |
وإن أجـر ابـن سعدٍ فيه استباحته | آل الـنـبوة أجـر غـير مـمنون |
هـذا وعـدت الـى عـثمان تندبه | بـكل شـعر ضعيف اللفظ ملحون |
فصرت بالطعن من هذا الطريق | الى مـا ليس يخفى على البُله لمجانين |
وقلت: أفضل من يوم "الغدير" | إذا صـحّت روايـته يـوم الـشعانين |
ويـوم عـيدك عـاشورا تـعدّ له | مـا يـستعد الـنصارى لـلقرابين |
تـأتي بـيوتكم فـيه العجوز وهل | ذكر العجوزو سوى وحي الشياطين |
عـانـدت ربـك مـغتراً بـنقمته | وبـأس ربـك بـأسٌ غير مأمون |
فقال : كن أنت قرداً في استه ذنب | وأمـر ربـك بـين الكاف والنون |
وقـال : كـن لي فتى تعلو مراتبه | عـند الـملوك وفي دور السلاطين |
والله قـد مـسخ الأدوار قـبلك في | زمـان مـوسى وفـي أيام هارون |
بـدون ذنـبك فـالحق عندهم بهم | ودع لـحاقك بـي إن كنت تنويني |
قلنا سابقا ان السيد الشريف الرضي قد جمع شعر ابن الحجاج ورتبه على الحروف فقال ابن الحجاج يشكر السيد ـ كما في الجزء الاخير من ديوانه ـ قوله
أتـعرف شعري الى مَن ضوي | فـأضحى عـلى مـلكه يحتوي |
إلـي الـبدر حـسناً إلى سيدي | الـشريف أبي الحسن الموسوي |
أبـا حوا دم المقتول بالطف بعدما | سقوه كؤس الموت بالبيض والاسل |
وتالله مـا أنـساه بـالطف صائلا | كما الليث في سرب النعاج اذا حمل |
يُـنهنه عـنه الـقوم يُـمناً ويسرة | ويـصبر للحرب الشنيع اذا اشتعل |
فـلهفي لـمن كـان النبي قلوصه | فيا خير محمول ويا خير مَن حمل |
يـقـبّل فــاه مـرةً بـعد مـرّة | ويـنكته أهـل الـبدائع والـزلل |
والقصيدة تربو على الستين بيتا. جاء في أوله
دع الـمرهفات البيض والطعن بالاسل | وسل عن دمي في مذهب الحب لِم يحِل |
فـمـا لـلصفاح الـمشرفيات والـقنا | فـعال كـفعل الاعـين النجل والمقل |
فـما الـبيض إلا البيض يلمعن كالدُما | ويـشرقن كـالاقمار فـي حلل الحلل |
فخلّ حديث الطعن والضرب في الوغا | فـما لـك فـيها ناقة لا ولا جمل1 |
لم يختلف اثنان في تاريخ وفاته وانها في جمادي الآخرة سنة 391 بالنيل وهي بلدة على الفرات بين بغداد والكوفة وحمل الى مشهد الامام موسى الكاظم عليه السلام ودفن فيه ، وكان أوصى أن يدفن هناك بحذاء رجلي الامام عليه السلام ويُكتب على قبره (وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد) ورثاه الشريف الرضي بقصيدة توجد في ديوانه ومنها:
نـعَوه على حُسن ظني به | فـلله مـاذا نـعى الناعيان |
رضـيع ولاءٍ لـه شـعبة من | القلب مثل رضيع اللبان |
وما كنتُ احسب أن الزمان | يـفلّ بضارب ذاك اللسان |
لـيبكِ الزمان طويلا عليك | فقد كنتَ خفَة روح الزمان |
وبرهن الشيخ الاميني أن الرجل عمّر عمراً طويلا تجاوز المائة سنة رحمه الله وأجزل ثوابه.
* ادب الطف ـ الجزء الثاني155-160.
1- عن المجموع الرائق المخطوط للسيد احمد العطار ص 207