عن أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام): «إنّ مَن صرّحتْ له العِبَرُ عمّا بين يدَيه من المَثُلات، حجزتْهُ التّقوى عن تَقحُّمِ الشُبُهات».[1]
يتحدّثُ الإمامُ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) في هذا النصِّ عن بابٍ من أبوابِ تحصينِ النفسِ من الوقوعِ فيما لا ينبغي لها، وهو التقوى. ولكن للوصول إلى هذه التقوى طريقٌ، وهو الاعتبار؛ ولذا نتحدّثُ أوّلاً عن الاعتبار، وثانياً عن التقوى.
1. الاعتبار: وهو النظرُ إلى الأمثالِ الموجودةِ وما نزلَ من عقوباتٍ وعذابٍ إلهيَّين على مَن خالفَ خطَّ الطاعةِ والالتزامِ بأوامرِ اللهِ عزّ وجلّ؛ وذلك لأنَّ للهِ في الأُممِ سنناً لا تختصُّ بها، بل هي سُنَنٌ وقوانينُ عامّةٌ في الحياةِ تجري على الحاضرينَ كما جرت على الماضين، قال تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ﴾.[2]
2. التقوى: إنّ ما تُورِثُه حالةُ الاعتبارِ هو الاجتنابُ عن الدخولِ في الشبهاتِ دون رَويّةٍ أو نظرٍ وتأمُّل. والشبهةُ هي الأمورُ الباطلةُ التي تَشبَهُ الحقّ، فالتقوى تمنعُه؛ لأنَّها تنأى به عن الوقوعِ في المحرّمات، ففي الروايةِ عن رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله): «حَلَالٌ بَيِّنٌ، وحَرَامٌ بَيِّنٌ، وشُبُهَاتٌ بَيْنَ ذَلِكَ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ، ومَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ، وهَلَكَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُ».[3]
وعنْ فُضَيلِ بنِ عيّاض عن أبي عبدِ اللهِ الصادقِ (عليه السلام): قال: قلتُ له: مَنِ الورعِ منَ النّاس؟ قال (عليه السلام): «الذي يتورّعُ من محارمِ الله، ويجتنبُ هؤلاء، فإذا لم يتَّقِ الشّبهاتِ وقعَ في الحرام وهو لا يعرِفُه»[4].
يقولُ الإمامُ الخمينيُّ (قُدِّسَ سِرُّه): «نجِدُ الكثيرَ مِن ذوي الوسوسةِ التي لا مبرّرَ لها، والجهلةِ المتنسِّكين، لا يحتاطونَ في مواضعَ يجِبُ الاحتياطُ فيها أو يُستَحَبّ. هل سمعتَ أحداً يعيشُ حالةَ الوسوسةِ في الشبهاتِ الماليّة؟ مَن مِن الوسواسيِّينَ دفعَ الزكاةَ والخمسَ مراتٍ عديدة؟ وذهبَ إلى الحجِّ لأداءِ الواجبِ مرّاتٍ متكرّرة؟ وأعرضَ عن الطعامِ المشتَبَه؟ لماذا كانتْ أصالةُ الحِلِّيَّةِ في الأطعمةِ المشتبهةِ جاريةً وأصالةُ الطهارةِ في مشكوكِ النجاسةِ غيرَ جارية؟ هذا المسكينُ الذي يرى نفسَه محتذياً حذوَ الإمامِ المعصومِ (عليه السلام)، وآخذاً دينَه منه، لا يتّقي لدى التصرّفِ في الأموال، ولا يحتاطُ تُجاهَ الطعام، بل يتّكِلُ على قاعدةِ أصالةِ الطهارةِ ويأكُل، ثمَّ يقومُ ويغسلُ فمَه ويدَيه. إنّه حينَ الأكلِ يتمسّكُ بأصالةِ الطهارة، وبعد أن يشبَعَ يقول: كلُّ شيءٍ نَجِس!».[5]
وكمثالٍ لاجتنابِ الشبهات، يقولُ الإمامُ الخمينيُّ (قُدِّسَ سِرُّه): «إنَّ تعويدَ النفسِ على الغِيبةِ في الأحوالِ الجائزة، يضرُّ بحالِها أيضاً؛ لأنَّ النفسَ تميلُ نحو الشرورِ والقبائح، فمِنَ المحتملِ أنْ ينجرَّ الإنسانُ رويداً رويداً من المواردِ الجائزةِ إلى مرحلةٍ أخرى، وهي المواردُ المحرّمة، كما أنّ الدخولَ في الشبهاتِ غيرُ محمود، رُغمَ جوازِه؛ لأنّها حِمى المحرّمات، ومن الممكنِ أنّ الاقتحامَ في الحِمى يُفضي إلى الدخولِ في المحرّمات. يجب على الإنسانِ -مهما أمكنَ- أن يُبعِدَ النفسَ عن الغيبةِ في الأحوالِ المسموحة، ويحترِزُ عن الأمورِ التي يَحتملُ أن يكون فيها طغيانٌ للنفس».[6]
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص57.
[2] سورة آل عمران، الآية 137.
[3] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج1، ص168.
[4] الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج16، ص258.
[5] -الأربعون حديثاً، الإمام الخمينيّ، الحديث 25، ص 367- 368.
[6] الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، الحديث 19، ص 292- 293.