بسم الله الرحمن الرحيم
هناك سؤال يقول:
كيف نفسر اختصاص أمير المؤمنين "عليه السلام"، بكرامة الولادة في الكعبة، دون رسول
الله "صلى الله عليه وآله"؟!
ونقول في جوابه ما يلي:
إننا قبل كل شيء، نحب التذكير بأن بين النبوة والإمامة، والنبي والإمام، فرقاً،
فيما يرتبط بترتيب الأحكام الظاهرية على من يؤمن بذلك وينكر، ومن يتيقن ويشك، ومن
يحب ويبغض..
فأما بالنسبة للنبوة والنبي "صلى الله عليه وآله"، فإن أدنى شك أو شبهة بها، وكذلك
أدنى ريب في الرسول "صلى الله عليه وآله" يوجب الكفر والخروج من الدين، كما أن بغض
الرسول "صلى الله عليه وآله" بأي مرتبة كان، يخرج الإنسان من الإسلام واقعاً،
ويلحقه بالكفر، وتترتب عليه أحكامه في مرحلة الظاهر، فيحكم عليه بالنجاسة، وبأنه لا
يرث من المسلم، وبأن زوجته تبين منه، وتعتد، وبغير ذلك..
وأما الإمامة والإمام "عليه السلام"، فإن الحكمة، والرحمة الإلهية، وحب الله تعالى
للناس، ورفقه بهم، قد اقتضى: أن لا تترتب الأحكام الظاهرية على من أنكر الإمامة، أو
شك فيها، أو في الإمام "عليه السلام"، أو قصر في حبه.. ولكن بشرطين..
أحدهما: أن يكون ذلك الإنكار، أو الشك، أو التقصير ناشئاً عن شبهة، إذ مع
اليقين بثبوت النص وفي دلالته، يكون المنكر أو الشاك مكذباً لرسول الله "صلى الله
عليه وآله"، راداً على الله سبحانه، ومن كان كذلك فهو كافر جزماً..
الثاني: أن لا يكون معلناً ببغض الإمام، ناصباً العداء له، لأن الناصب حكمه
حكم الكافر أيضاً..
النبي (صلى الله عليه وآله) لا يقتل أحداً؛ لماذا؟:
وبعدما تقدم نقول:
لا ريب في أن قيام الإسلام وحفظه يحتاج إلى جهاد وتضحيات، وأن في الجهاد قتلاً
ويتماً، ومصائب ومصاعب، ولم يكن يمكن لرسول الله "صلى الله عليه وآله" أن يتولى
بنفسه كسر شوكة الشرك، وقتل فراعنته وصناديده.. لأن ذلك يوجب أن ينصب الحقد عليه،
وأن تمتلئ نفوس ذوي القتلى ومحبيهم، ومن يرون أنفسهم في موقع المهزوم، بغضاً له،
وحنقاً عليه..
وهذا يؤدي إلى حرمان هؤلاء من فرصة الفوز بالتشرف بالإسلام، وسيؤثر ذلك على تمكّن
بنيهم، وسائر ذويهم ومحبيهم من ذلك أيضاً.. فقضت الرحمة الإلهية أن يتولى مناجزتهم
من هو كنفس الرسول "صلى الله عليه وآله"، الذي يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله،
ألا وهو أمير المؤمنين "عليه السلام"..
واقتضت هذه الرحمة أيضاً رفع بعض الأحكام الظاهرية دون الواقعية المرتبطة بحبه
وبغضه، وبأمر إمامته "عليه السلام"، تسهيلاً من الله على الناس، ورفقاً بهم رفعها
عن منكر إمامته "عليه السلام"، وعن المقصر في حبه، ولكن بالشرطين المتقدمين وهما:
وجود الشبهة وعدم نصب العداء له، لأنه مع عدم الشبهة يكون من قبيل تعمد تكذيب
الرسول "صلى الله عليه وآله"، ومع نصب العداء يتحقق التمرد والرد على الله سبحانه،
كما قلنا..
معالجة قضايا الروح والنفس:
ثم إن معالجة قضايا الحب والبغض، والرضا والغضب، والإنفعالات النفسية، تحتاج إلى
اتصال بالروح، وبالوجدان، وإلى إيقاظ الضمير، وإثارة العاطفة، بالإضافة إلى زيادة
البصيرة في الدين، وترسيخ اليقين بحقائقه..
وهذا بالذات هو ما يتراءى لنا في مفردات السياسة الإلهية، في معالجة الأحقاد التي
علم الله سبحانه أنها سوف تنشأ، وقد نشأت بالفعل، كنتيجة لجهاد الإمام علي "عليه
السلام"، في سبيل هذا الدين..
ونحن نعتقد: أن قضية ولادة الإمام علي "عليه السلام" في جوف الكعبة، واحدة من
مفردات هذه السياسة الربانية، الحكيمة، والرائعة..
ولادة علي (عليه السلام) في الكعبة صنع الله:
ويمكن توضيح ذلك بأن نقول:
إن ولادته "عليه السلام"، في الكعبة المشرفة، أمر صنعه الله تعالى له، لأنه يريد أن
تكون هذه الولادة رحمة للأمة، وسبباً من أسباب هدايتها.. وهي ليست أمراً صنعه
الإمام علي "عليه السلام" لنفسه، ولا هي مما سعى إليه الآخرون، ليمكن اتهامهم بأنهم
يدبرون لأمر قد لا يكون لهم الحق به، أو اتهامهم بالسعي لتأييد مفهوم اعتقادي، أو
لواقع سياسي، أو الانتصار لجهة أو لفريق بعينه، في صراع ديني، أو اجتماعي، أو غيره..
ويلاحظ: أن الله تعالى قد شق جدار الكعبة لوالدته "عليه السلام" حين دخلت، وحين
خرجت، بعد أن وضعته في جوف الكعبة الشريفة..
وقد جرى هذا الصنع الإلهي له "عليه السلام" حيث كان لايزال في طور الخلق والنشوء في
هذا العالم الجديد.. ليدل دلالة واضحة على اصطفائه تعالى له، وعنايته به..
وذلك من شأنه أن يجعل أمر الإهتداء إلى نور ولايته أيسر، ويكون الإنسان في إمامته
أبصر..
ويتأكد هذا الأمر بالنسبة لأولئك الذين سوف تترك لمسات ذباب سيفه "ذي الفقار"
آثارها في أعناق المستكبرين والطغاة من إخوانهم، وآبائهم، وعشائرهم، أو من لهم بهم
صلة أو رابطة من أي نوع..
الرصيد الوجداني آثار وسمات:
ثم إن هذا الرصيد الوجداني، قد هيأه الله لهم ليختزنوه في قلوبهم وعقولهم من خلال
النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد فضل علي "عليه السلام" وإمامته، ثم جاء الواقع
العملي ليعطيها المزيد من الرسوخ والتجذر في قلوبهم وعقولهم من خلال مشاهداتهم،
ووقوفهم على ما حباه الله به من ألطاف إلهية، وإحساسهم بعمق وجدانهم بأنه وليد
مبارك، وبأنه من صفوة خلق الله، ومن عباده المخلصين.
وذلك سيجعلهم يدركون: أنه "عليه السلام"، لا يريد بما بذله من جهد وجهاد في مسيرة
الإسلام، إلا رضا الله سبحانه، وإلا حفظ مسيرة الحياة الإنسانية، على حالة السلامة،
وفي خط الاعتدال.. لأنها مسيرة سيكون جميع الناس بدون استثناء عناصر فاعلة ومؤثرة
فيها، ومتأثرة بها..
وبذلك يصبح الذين يريدون الكون في موقع المخاصم له "عليه السلام"، أو المؤلب عليه،
أمام صراع مع النفس ومع الوجدان، والضمير، وسيرون أنهم حين يحاربونه إنما يحاربون
الله ورسوله.. ويسعون في هدم ما شيده للدين من أركان، وما أقامه من أجل سعادتهم،
وسلامة حياتهم، من بنيان..
ولادة علي (عليه السلام) في الكعبة لطف بالأمة:
فولادة الإمام علي "عليه السلام"، في الكعبة المشرفة، لطف إلهي، بالأمة بأسرها، حتى
بأولئك الذين وترهم الإسلام، وهو سبيل هداية لهم ولها، وسبب انضباط وجداني، ومعدن
خير وصلاح، ينتج الإيمان، والعمل الصالح، ويكف من يستجيب لنداء الوجدان، عن الإمعان
في الطغيان، والعدوان، وعن الإنسياق وراء الأهواء، والعواطف، من دون تأمل وتدبر..
وغني عن البيان، أن مقام الإمام علي "عليه السلام" وفضله، أعظم وأجل من أن تكون
ولادته "عليه السلام"، في الكعبة سبباً أو منشأً لإعطاء المقام والشرف له.. بل
الكعبة هي التي تعتز، وتزيد قداستها، وتتأكد حرمتها بولادته فيها صلوات الله وسلامه
عليه..
وأما رسول الله "صلى الله عليه وآله"، فإن معجزته الظاهرة التي تهدي الناس إلى الله
تعالى، وإلى صفاته، وإلى النبوة، وتدلهم على النبي، وتؤكد صدقه، وتلزم الناس كلهم
بالإيمان به، وتأخذ بيدهم إلى التسليم باليوم الآخر إن هذه المعجزة هي هذا القرآن
العظيم، الذي يهدي إلى الرشد من أراده، والذي لا بد أن يدخل هذه الحقائق إلى القلوب
والعقول أولاً، من باب الاستدلال، والانجذاب الفطري إلى الحق بما هو حق.. من دون
تأثر بالعاطفة، وبعيداً عن احتمالات الإنبهار بأية مؤثرات أخرى مهما كانت..
إذ إن القضية هي قضية إيمان وكفر، وحق وباطل، لا بد لإدراكهما من الكون على حالة من
الصفاء والنقاء، وتفريغ القلب من أي داع آخر، قد يكون سبباً في التساهل في رصد
الحقيقة، أو في التعامل مع وسائل الحصول عليها، والوصول إليها..
فالله لا يريد أن تكون مظاهر الكرامة، سبباً في إعاقة العقل عن دوره الأصيل في
إدراك الحق، وفي تحديد حدوده، وتَلَمُّس دقائقه، وحقائقه والتبيُّن لها إلى حد تصير
معه أوضح من الشمس، وأبين من الأمس..
ولذلك فإن الله تعالى لم يصنع لرسوله "صلى الله عليه وآله"، ما يدعوهم إلى تقديسه
كشخص، ولا ربط الناس به قبل بعثته بما هو فرد بعينه، لا بد لهم من الخضوع والبخوع
له، وتمجيد مقامه، لأن هذا قد لا يكون هو الأسلوب الأمثل، ولا الطريقة الفضلى، في
سياسية الهداية الإلهية إلى الأمور الإعتقادية، التي هي أساس الدين، والتي تحتاج
إلى تفريغ النفس، وإعطاء الدور، كل الدور، للدليل وللبرهان، وللآيات والبينات، وإلى
أن يكون التعاطي مع الآيات والدلائل بسلامة تامة، وبوعي كامل، وتأمل عميق، وملاحظة
دقيقة..
وهذا هو ما نلاحظه في إثارات الآيات القرآنية لقضايا الإيمان الكبرى، خصوصاً تلك
التي نزلت في الفترة المكية للدعوة. فإنها إثارات جاءت بالغة الدقة، رائعة في
دلالاتها وبياناتها، التي تضع العقل والفطرة أمام الأمر الواقع الذي لا يمكن القفز
عنه، إلا بتعطيل دورهما، وإسقاط سلطانهما، لمصلحة سلطان الهوى، ونزوات الشهوات،
والغرائز..
وهذا الذي قلناه، لا ينسحب ولا يشمل إظهار المعجزات والآيات الدالة على الرسولية،
وعلى النبوة، فإنها آيات يستطيع العقل أن يتخذ منها وسائل وأدوات ترشده إلى الحق،
وتوصله إليه.. وتضع يده عليه.. وليست هي فوق العقل، ولا هي من موجبات تعطيله، أو
إضعافه.
* العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى العاملي - بتصرّف