الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين

العدد 1609 17 شهر رمضان 1445 هـ - الموافق 28 آذار 2024 م

أوصيكُم بتقوى الله

الأيّامُ كلُّها للقدسِخطاب الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مختلف فئات الناساغتنام فرصة التوبةمراقباتسُلوك المؤمِنمراقباتفَلا مَنْجَى مِنْكَ إلاّ إِلَيْكَمراقباتالمعُافَاة في الأَديانِ والأَبدان
من نحن

 
 

 

التصنيفات
التفاخر بالأنساب وقيم الإسلام الحقة
تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

                                                     بسم الله الرحمن الرحيم

يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ1.

التقوى أغلى القيم الإنسانية:
الآية محل البحث تخاطب جميع الناس وتبين أهم أصل يضمن النظم والثبات، وتميز الميزان الواقعي للقيم الإنسانية عن القيم الكاذبة والمغريات الباطلة. فتقول: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا. والمراد ب‍ خلقناكم من ذكر وأنثى هو أصل الخلقة وعودة أنساب الناس إلى "آدم وحواء"، فطالما كان الجميع من أصل واحد فلا ينبغي أن تفتخر قبيلة على أخرى من حيث النسب، وإذا كان الله سبحانه قد خلق كل قبيلة وأولاها خصائص ووظائف معينة فإنما ذلك لحفظ نظم حياة الناس الاجتماعية! لأن هذه الاختلافات مدعاة لمعرفة الناس، فلو كانوا على شاكلة واحدة ومتشابهين لساد الهرج والمرج في المجتمع البشري أجمع. وقد اختلف المفسرون في بيان الفرق بين " الشعوب " جمع شعب - على زنة صعب - (الطائفة الكبيرة من الناس) و"القبائل" جمع قبيلة فاحتملوا احتمالات متعددة: قال جماعة إن دائرة الشعب أوسع من دائرة القبيلة، كما هو المعروف في العصر الحاضر أن يطلق الشعب على أهل الوطن الواحد. وقال بعضهم: كلمة "شعوب" إشارة إلى طوائف العجم، وأما "القبائل" فإشارة إلى طوائف العرب.

وأخيرا فإن بعضهم قال بأن "الشعوب" إشارة إلى انتساب الناس إلى المناطق "الجغرافية" و"القبائل" إشارة إلى انتسابهم إلى العرق والدم. لكن التفسير الأول أنسب من الجميع كما يبدو! وعلى كل حال فإن القرآن بعد أن ينبذ أكبر معيار للمفاخرة والمباهات في العصر الجاهلي ويلغي التفاضل بالأنساب والقبائل يتجه نحو المعيار الواقعي للقيم فيضيف قائلا: إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وهكذا فإن القرآن يشطب بالقلم الأحمر على جميع الامتيازات الظاهرية والمادية، ويعطي الأصالة والواقعية لمسألة التقوى والخوف من الله، ويقول إنه لا شئ أفضل من التقوى في سبيل التقرب إلى الله وساحة قدسه. وحيث إن "التقوى" صفة روحانية وباطنية ينبغي أن تكون قبل كل شئ مستقرة في القلب والروح، وربما يوجد مدعون للتقوى كثيرون والمتصفون بها قلة منهم، فإن القرآن يضيف في نهاية الآية قائلا: إن الله عليم خبير. فالله يعرف المتقين حقا وهو مطلع على درجات تقواهم وخلوص نياتهم وطهارتهم وصفائهم، فهو يكرمهم طبقا لعلمه ويثيبهم، وأما المدعون الكذبة فإنه يحاسبهم ويجازيهم على كذبهم أيضا.

القيم الحقة والقيم الباطلة:
لا شك أن كل إنسان يرغب بفطرته أن يكون ذا قيمة وافتخار، ولذلك فهو يسعى بجميع وجوده لكسب القيم... إلا أن معرفة معيار القيم يختلف باختلاف الثقافات تماما، وربما أخذت القيم الكاذبة مكانا بارزا ولم تبق للقيم الحقة مكان في قاموس الثقافة للفرد. فجماعة ترى بأن قيمتها الواقعية في الانتساب إلى القبيلة المعروفة، ولذلك فإنهم من أجل أن تعلو سمعة قبيلتهم وطائفتهم يظهرون نشاطات وفعاليات عامة ليكونوا برفعة القبيلة وسموها كبراء أيضا. وكان الاهتمام بالقبيلة والافتخار بالانتساب إليها من أكثر الأمور الوهمية رواجا في الجاهلية إلى درجة كانت كل قبيلة تعد نفسها أشرف من القبيلة الأخرى، ومن المؤسف أن نجد رواسب هذه الجاهلية في أعماق نفوس الكثيرين من الأفراد والمجتمعات!! وجماعة أخرى تعول على مسألة المال والثروة وامتلاكها للقصور والخدم والحشم وأمثال هذه الأمور، فتعدها دليلا على القيمة الشخصية وتسعى من أجل كل ذلك دائما. وجماعة تعتبر (المقامات) السياسية والاجتماعية العليا معيارا للشخصية والقيم الاجتماعية! وهكذا تخطو كل جماعة في طريق خاص وتنشد قلوبها إلى قيمة معينة وتعدها معيارها الشخصي!

وحيث إن هذه الأمور جميعها أمور متزلزلة ومسائل ذاتية ومادية وعابرة فإن مبدأ سماويا كمبدأ الإسلام لا يمكنه أن يوافق عليها أبدا.. لذلك يشطب عليها بعلامة البطلان ويعتبر القيمة الحقيقية للإنسان في صفاته الذاتية وخاصة تقواه وطهارة قلبه والتزامه الديني. حتى أنه لا يكترث بموضوعات مهمة كالعلم والثقافة إذا لم تكن في خط "الإيمان والتقوى والقيم الأخلاقية"... ومن العجيب أن يظهر القرآن في محيط يهتم بالقيمة القبلية أكثر من اهتمامه بالقيم الأخرى، إلا أن القرآن حطم هذه الوثنية وحرر الإنسان من أسر العرق والدم والقبيلة واللون والمال والمقام والثروة وقاده إلى معرفة نفسه والعثور على ضالته داخل نفسه وصفاتها العليا.

الطريف أن في ما ذكر في شأن نزول الآية محل البحث لطائف ودقائق تحكي عن عمق هذا الدستور الإسلامي. منها: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر "بلالا" بعد فتح مكة أن يؤذن، فصعد بلال وأذن على ظهر الكعبة، فقال "عتاب بن أسيد" الذي كان من الأحرار: أشكر الله أن مضى أبي من هذه الدنيا ولم ير مثل هذا اليوم.. وقال "الحارث بن هشام": ألم يجد رسول الله غير هذا الغراب الأسود للأذان؟! "فنزلت الآية الآنفة وبينت معيار القيم الواقعية"2. وقال بعضهم: نزلت الآية عندما أمر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بتزويج بعض الموالي من بنات العرب "والموالي تطلق على العبيد الذين عتقوا من ربقة أسيادهم أو على غير العرب (المسلمين)". فتعجبوا وقالوا: يا رسول الله أتأمرنا أن نزوج بناتنا من الموالي "فنزلت الآية وأبطلت هذه الأفكار الخرافية"3.

ونقرأ في بعض الروايات الإسلامية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب يوما في مكة فقال: "يا أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعاظمها بآبائها فالناس رجلان رجل بر تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله والناس بنو آدم وخلق الله آدم من تراب قال الله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"4. وقد جاء في كتاب "آداب النفوس" للطبري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم التفت إلى الناس وهو راكب على بعيره في أيام التشريق بمنى "وهي اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر " من ذي الحجة فقال: "يا أيها الناس! ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى ألا هل بلغت: قالوا نعم ! قال: ليبلغ الشاهد الغائب"5. كما ورد في حديث آخر بهذا المعنى ضمن كلمات قصيرة ذات معاني غزيرة أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن الله لا ينظر إلى أحسابكم ولا إلى أنسابكم ولا إلى أجسامكم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه وإنما أنتم بنو آدم وأحبكم إليه أتقاكم"6.

إلا أن العجيب أنه مع هذه التعليمات الواسعة الغنية ذات المغزى الكبير ما يزال بين المسلمين من يعول على الدم والنسب واللسان ويقدمون وحدة الدم واللغة على الأخوة الإسلامية والوحدة الدينية ويحيون العصبية الجاهلية مرة أخرى، وبالرغم من الضربات الشديدة التي يتلقونها من جراء ذلك، إلا أنهم حسب الظاهر لا يريدون أن يتيقظوا ويعودوا إلى حكم الإسلام وحظيرة قدسه ! حفظ الله الجميع من شر العصبية الجاهلية. إن الإسلام حارب العصبية الجاهلية في أي شكل كانت وفي أية صورة ليجمع المسلمين في العالم من أي قوم وقبيلة وعرق تحت لواء واحد! - لواء القومية ولا سواه - لأن الإسلام لا يوافق على هذه النظريات المحدودة ويعد جميع هذه الأمور وهمية ولا أساس لها حتى أنه ورد في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: " دعوها فإنها منتنة "7. ولكن لماذا بقيت هذه الفكرة المنتنة مترسخة في عقول الكثيرين ممن يدعون أنهم مسلمون ويتبعون القرآن والأخوة الإسلامية ظاهرا؟! لا ندري!! وما أحسن أن يبنى المجتمع على أساس معيار القيم الإسلامي إن أكرمكم عند الله أتقاكم وإن تطوى القيم الكاذبة من قومية ومال وثروة ومناطق جغرافية وطبقية عن هذا المجتمع.

أجل، التقوى الإلهية والإحساس بالمسؤولية الداخلية والوقوف بوجه الشهوات والالتزام بالحق والصدق والطهارة والعدل، هي وحدها معيار القيم الإنسانية لا غير، بالرغم من أن هذه القيم الأصيلة نسيت وأهملت في سوق المجتمعات المعاصرة وحلت محلها القيم الكاذبة. في نظام القيم الجاهلية الذي كان يدور حول محور "التفاخر بالآباء والأموال والأولاد" لم ينتج سوى حفنة سراق وناهبين، غير أنه بتبدل هذا النظام وإحياء أصل إن أكرمكم عند الله أتقاكم الكبير كان من ثمراته أناس أمثال سلمان وأبو ذر وعمار وياسر والمقداد. والمهم في ثورات المجتمعات الإنسانية هو الثورة على القيم " وإحياء هذا الأصل الإسلامي الأصيل! ونختتم كلامنا هذا بحديث للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال: "كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان"8.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل
الشيخ ناصر مكارم الشيرازي - بتصرّف


1-الحجرات: 13.
2-روح البيان، ج 9، ص 90، كما ورد في تفسير القرطبي، ص 6160، ج 9.
3 - المصدر السابق.
4- تفسير القرطبي، ج 9، ص 6161.
5-المصدر السابق، ص 6162، والتعبير " بالأحمر " في هذه الرواية لا يعني من بشرته حمراء بل من بشرته حنطية لأن أغلب الناس في ذلك المحيط كانوا بهذه الصفة ومن الطريف أن يطلق الأحمر على الحنطة أيضا.
6 - المصدر السابق.
7- صحيح مسلم طبقا لما نقل في ظلال الإسلام، ج 7، ص 538.
8-في ظلال القرآن، ج 7، ص 538.

21-02-2013 | 02-02 د | 2616 قراءة


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net