الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين

العدد 1609 17 شهر رمضان 1445 هـ - الموافق 28 آذار 2024 م

أوصيكُم بتقوى الله

الأيّامُ كلُّها للقدسِخطاب الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مختلف فئات الناساغتنام فرصة التوبةمراقباتسُلوك المؤمِنمراقباتفَلا مَنْجَى مِنْكَ إلاّ إِلَيْكَمراقباتالمعُافَاة في الأَديانِ والأَبدان
من نحن

 
 

 

التصنيفات
الإمام الجواد عليه السلام نبع الجود والكرم
تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

                                               بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
من الثابت تاريخياً أن الإمام الجواد عليه السلام لم يعش طويلا، فقد رحل عن الدنيا وهو في ريعان الشباب، فقد أتم عقده الخامس والعشرين، أو تجاوزه ببضعة أشهر وأياماً على بعض الروايات، ومثل هذه السن لا تتيح للإنسان أن يقوم بنشاطات وفعاليات كبيرة على مسرح الحياة، أو أن يغيّر واقعاً أو يضع أُطروحة رسالية هادفة يطبقها على الواقع المعاش. وطبيعي أنّ الإنسان يبدأ بالتفاعل مع الحياة، ويؤثر على المجتمع اعتباراً من عقده الثاني، هذا إذا كان صاحب مواهب وإبداعات فكرية. لكننا نرى إمامنا جواد الأئمة صلوات الله عليه وهو في مطلع هذه المرحلة من العمر قد شكّل تاريخاً حافلا بالأحداث والمواقف الباهرة والكرامات العجيبة.

ومع ذلك فإنني أعتقد - وهو اعتقاد كثير من المؤرخين والباحثين - أن ما ورد عنه عليه السلام، وما نقلته كتب التاريخ والحديث، لا يعدو كونه فقرة من فقرات حياته القصيرة والمليئة بالحوادث الكبيرة، فلا شكّ أنّ كثيراً من تراث أئمة أهل البيت عليهم السلام، وجوانب مهمة من حياتهم عليهم السلام قد ضاعت، إما حرقاً أو صودرت من قبل الناصبين بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العداء، هذا من ناحية المدونات التاريخية والحديثية، أو أنها بقيت حبيسة صدور أصحاب الأئمة وشيعتهم حتى قضى عليهم حكام الجور الظلمة، الذين كانوا يتتبعون آثار أئمة أهل البيت عليهم السلام ليطمسوها، ويلاحقون أصحابهم وشيعتهم قتلا وسجناً وتشريداً.

ولا يخفى أنّ الحكام العباسيين الذين تعاقبوا على الحكم بعد المعتصم الذي استدعى الإمام الجواد عليه السلام إلى بغداد، ثم دبّر أمر قتله بالسم بواسطة زوجه أم الفضل، كانوا لا يتوانون في طمس آثار ومعالم آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، خاصة المتوكل الحاقد على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبنائه من السادة العلويين، حتى ورد في الأخبار أنه قام بحرث قبر الإمام الحسين عليه السلام، وفتح ماء الفرات عليه، فحار الماء حول القبر الشريف. وقد ظنّ أنه يستطيع بعمله هذا أن يمحو آثار وذكر أهل البيت عليهم السلام. وبموت هذا الطاغية تنفّس العلويون الصعداء، وشعروا بتخفيف الوطأة، ورفع كابوس الإرهاب، والمطاردة، والتنكيل عنهم. وهذا الذي ذكرناه إنما هو نموذج على سبيل المثال لا الحصر، ولو اطّلعت على التاريخ الحقيقي لما عاناه أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم؛ لهالتك المشاهد، ولامتلأت رعباً من كثرة المصائب، وشدة الأحداث، وفظاعة المجازر التي ارتكبها حكام بني أمية، وبني العباس وغيرهم بحقهم على مرّ التاريخ منذ يوم السقيفة المشؤوم وإلى يومنا هذا الذي جاوزنا فيه القرن الخامس عشر من الهجرة.

وكل تلك السنون الطوال مرّت ثقيلة حُبلى بالأحداث الرهيبة، والتضييق، والملاحقة لشيعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وآله. ورغم كل ذلك فقد برز لأهل البيت عليهم السلام ومن شايعهم تاريخ حافل بالمواقف المشرفة، والصمود على العقيدة، والتضحية من أجل الدين والمبادئ، في مقابل كل انحراف عن الدين، واعتداء على الحرمات والمقدسات، وقد شهد بذلك العدو، والمخالف والمؤالف. ولقد تسنّم تأريخ أهل البيت الحافل ذري العلياء، وقمة المجد، وسوف يبقى درةً بيضاء في غرة العصور مهما تعاقبت، وحتى ظهور مهديّهم الموعود، وعندها يبدأ تاريخ جديد لحياة البشرية في ظل العدل والخير والصلاح. وسيرة الجواد عليه السلام هذه هي إحدى تلكم الدرر الناصعة في جبين التأريخ، مع قصر عمرها، واقتضاب في التدوين أو ضياع أو محو أو إتلاف، تعمّداً حيناً، وتهاوناً حيناً آخر، وخوفاً أحياناً أُخر.

"الجواد"أشهر ألقابه عليه السلام
المشهور والمتواتر من ألقابه عليه السلام: الجواد، وكل آبائه أجواد، وأبنائه أجاويد. وقطعاً كان الإمام محمد بن علي عليه السلام كريماً، سمح العطاء، ذو يد بيضاء. فمن ناحية أنّ الإمام لم يكن محتاجاً إلى المال البتة لما كان فيه من وفور النعم من مطعم ومسكن وملبس، فهو صهر الخليفة وقد أنزله المأمون بالقرب من داره أيام إقامته في بغداد، لكنّ ذلك لا يعني أنه عليه السلام كان يطيب له ذلك العيش الناعم الرغيد، فقد عبر عن لواعجه واشتياقه للعودة إلى المدينة، بل وتفضيله خبز الشعير، وملح جريش وهو في حرم جدّه الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ما هو عليه من نعيم ورفاهية في الحياة وهو مجاور المأمون العباسي الذي ما استقدمه إلى بغداد وأفاض عليه من لذيذ العيش ونعومته، إلاّ ليكون المهيمن عليه، والمطّلع على شؤون الإمامة، ولكي يحدّ من تحركات الإمام وسط الأمة أولا. وثانياً: أراد أن يصرف الإمام الشاب عليه السلام بهذا الترف الدنيوي الذي هيأه له عن رسالته التبليغية الهادية للأمة وتوعيتها على حقائق دينها وعقائدها.

وكان يجبره أحياناً على أمور يأباها الإمام عليه السلام ؛ لأنها لا تتفق وخلقه السامي، ولا تنسجم مع رسالته. ومن ناحية أُخرى كانت تصل الإمام أموال طائلة من الحقوق والوجوه الشرعية، ولما لم يكن الإمام محتاجاً للأموال لتمرير أمور معاشه، إذ كان يقنع من عيشه بخبز شعير وملح. إذاً فأين كانت تذهب هذه الأموال؟ لم يذكر التاريخ أنّ الإمام خلّف تركة عظيمة من الأموال التي كانت لديه، وهي التقاطة يبحث عنها الحكام أو الكتّاب على الأقل لتوظيفها لمصالحهم السياسية أو العقائدية. وهو ما لم نجد له أثراً في سيرة أئمتنا عليهم السلام. وعليه فمن بديهة القول أنّ الإمام كان يعطي.. يتصدق.. يجري المعاش.. يغني شيعته، أو قل ما شئت من أصناف العطايا والمواهب من الأموال التي كانت تصل إليه، فكان عليه السلام يوزعها ويضعها في مواضعها من مستحقيها.

والذي تقدم يعتبر استدلالا منطقياً وتاريخياً على كرم الإمام عليه السلام وجوده. أما الشواهد التاريخية، فلا يوجد لدينا غير بضعة شواهد نقلها لنا الرواة، وهي لا تتناسب قطعاً مع لقب الجواد إذا أردنا منها تعداد وإحصاء الموارد التي كان الإمام عليه السلام يجود بها فرداً فرداً. أما إذا أردنا منها نماذج مما وصلنا عن البذل والعطاء الذي جاد به الجواد عليه السلام، فاستحق أن يلقب بهذا اللقب، فنستطيع أن نكوّن من تلك الروايات المعدودات صورة واضحة المعالم والأبعاد لمقدار وكيفية جود الإمام عليه السلام.

فقد روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن أحمد بن محمد بن أبي نصر الكوفي البزنطي المتوفّى سنة (221 ه‍)، وهو ممن أجمع الرجاليون على تصحيح ما يصح عنه؛ لوثاقته، وأقروا له بالفقه. وكان ممن لقي الإمامين الرضا والجواد عليهما السلام. وكان في بادئ أمره واقفياً ثم رجع بالقول بالإمامة وحسُن إيمانه. قال: قرأت كتاب أبي الحسن الرضا إلى أبي جعفر عليه السلام:"يا أبا جعفر بلغني أن الموالي إذا ركبت أخرجوك من الباب الصغير وانما ذلك من بخل لهم، لئلا ينال منك أحد خيراً فأسألك بحقي عليك لا يكن مدخلك ومخرجك إلاّ من الباب الكبير، وإذا ركبت فليكن معك ذهب وفضة ثم لا يسألك أحد إلاّ أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبرَّه فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً، والكثير إليك، ومن سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسة وعشرين ديناراً والكثير إليك، إنّي إنما أريد أن يرفعك الله فأنفق ولا تخش من ذي العرش إقتاراً"1.

وفي الثاقب في المناقب عن الخرائج روي عن إسماعيل بن عباس الهاشمي، قال: جئت إلى أبي جعفر عليه السلام يوم عيد فشكوت إليه ضيق المعاش فرفع المصلّى، فأخذ من التراب سبيكة من ذهب فأعطانيها، فخرجت بها إلى السوق فكان فيها ستة عشر مثقالا من الذهب 2.

وأتاه عليه السلام رجل فقال له: أعطني على قدر مروّتك، فقال:"لا يسعني". فقال: على قدري. قال:"أما ذا فنعم؛ يا غلام أعطه مئة دينار"3.

وفي كتاب الدلائل لأبي جعفر الطبري نقل هذه الرواية، وقد أوردناها أيضاً في معاجز الإمام وكراماته، فنقل بسنده عن المنخّل بن علي قوله: لقيت محمد بن علي بسرّ من رأى، فسألته النفقة إلى بيت المقدس، فأعطاني مئة دينار، ثم قال لي:"غمض عينيك"، فغمضتهما، ثم قال:"افتح"، فإذا أنا ببيت المقدس تحت القبة، فتحيرت في ذلك 4.

قال الحميري: وقال لي أبو هاشم: وأعطاني أبو جعفر ثلاثمائة دينار وأمرني أن أحملها إلى بعض بني عمه وقال:"أما إنه سيقول لك دلني على حريف يشتري لي بها متاعاً فدله عليه". قال: فأتيت بالدنانير فقال لي: يا أبا هاشم دلني على حريف يشتري بها متاعاً، ففعلت.

وروى الكليني في الكافي في باب الفيء والأنفال عن علي بن إبراهيم، عن أبيه قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل، وكان يتولّى له الوقف بقم، فقال: يا سيدي اجعلني في عشرة آلاف درهم في حلّ، فإني أنفقتها. فقال عليه السلام له:"أنت في حلّ". فلما خرج صالح، قال أبو جعفر عليه السلام:"أحدهم يثب على أموال حق آل محمد وأيتامهم، ومساكينهم، وفقرائهم، وأبناء سبيلهم، فيأخذه ثم يجيء فيقول: اجعلني في حلٍّ، تراه ظن أني أقول: لا أفعل؟! والله ليسألنهم الله يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثاً"5.

وروى ابن الجوزي في تاريخه المنتظم، فقال بلغنا عن بعض العلويين أنه قال: كنت أهوى جارية بالمدينة، وتقصر يدي عن ثمنها، فشكوت ذلك إلى محمد بن علي بن موسى الرضا، فبعث فاشتراها سراً. فلما بلغني أنها بيعت ولم أعلم أنه اشتراها، زاد قلقي. فأتيته فأخبرته ببيعها، فقال: من اشتراها؟ قلت: لا أعلم. قال: فهل لك في الفرجة؟ قلت: نعم. فخرجنا إلى قصر له عنده ضيعة فيها نخل وشجر، وقد قدم إليه فرشاً وطعاماً، فلما صرنا إلى الضيعة أخذ بيدي ودخلنا، ومنع أصحابه من الدخول، وأقبل يقول لي: بيعت فلانة ولا تدري من اشتراها؟ فأقول: نعم وأبكي، حتى انتهى إلى بيت على بابه ستر، وفيه جارية جالسة على فرش له قيمة، فتراجعت، فقال: والله لتدخلن، فدخلت، فإذا الجارية التي كنت أحبها بعينها، فبهتّ وتحيّرت. فقال: أفتعرفها؟ قلت: نعم. قال: هي لك مع الفرش 6 والقصر والضيعة والغلة والطعام، وأقم بحياتي معها، وأبلغ وطرك في التمتع بها. وخرج إلى أصحابه فقال: أما طعامنا فقد صار لغيرنا، فجددوا لنا طعاماً، ثم دعا الأكّار 7 فعوّضه عن حقّه من الغلة حتى صارت لي تامة ثم مضى 8. هكذا يكون الجود والكرم وإلاّ فلا.

وأخيراً فقد جاء في كتاب الوافي بالوفيات أنه عليه السلام لمّا كان مقيماً في بغداد كان يرسل بعطاياه السنوية إلى فقراء المدينة، فتوزّع عليهم. وفي ذلك يقول الراوي: وكان يبعث إلى المدينة في كل عام بأكثر ألف ألف [ مليون ] درهم 9.

الحاج حسين الشاكري - بتصرّف


1-راجع الأنوار البهية: ص 220.
2-الثاقب في المناقب: ص 526.
3-كشف الغمة: 3 / 158.
4- دلائل الإمامة: ص 399 ح 351.
5-أصول الكافي: 1 / 548 ح 27.
6 - في المصدر: فرض، ولم أجد له معنى. والكلام الذي يليه يشير إلى أنّه فرش له قيمة، كأن يكون سجادة ثمينة أو غيرها من أنواع البسط.
7 - المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 11 / 62 حوادث سنة 220 هـ‍.
8 - الأكّار: الفلاّح الذي يحرث الأرض.
9 - الوافي بالوفيات / الصفدي: 4 / 105.

17-10-2012 | 05-50 د | 1865 قراءة


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net