رَوى أنسُ بنُ مالكٍ، فقالَ: سَمِعْتُ بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ وَإِلَّا صَمَّتَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلّى الله عليه وآله) يَقُولُ فِي حَقِّ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام): «عُنْوَانُ صَحِيفَةِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُبُّ عَلِيٍّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)»[1].
لا شكَّ في أنَّ المحبّةَ تترسّخُ بالمعرفةِ الصحيحةِ بمولانا أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام)، ويشيرُ الإمامُ الخامنئيُّ (دام ظلّه) إلى بعضِ خصائصِ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام):
1. المدرسةُ المتكاملةُ: إنَّ وجودَ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) يُعدُّ درساً خالداً لا يُنسى لكلِّ الأجيالِ البشريّةِ من جهاتٍ عدّةٍ، وفي الظروفِ والأوضاعِ المختلفةِ، سواءٌ في عملِهِ الفرديِّ والشخصيِّ، أم في محرابِ عبادتِهِ، أم في مناجاتِهِ، أم في زهدِهِ، أم في فنائِهِ في ذكرِ اللهِ، أم في جهادِهِ معَ النفسِ والشيطانِ والدوافعِ النفسانيّةِ والمادّيّةِ.
لا تزالُ كلماتُ أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام) تصدحُ وتملأُ آفاقَ عالمِ الخلقةِ والحياةِ الإنسانيّةِ: «يَا دُنْيَا... غُرِّي غَيْرِي»[2]؛ أيّتُها الزخارفُ الدنيويّةُ والزبارجُ المليئةُ بالجاذبيّةِ، وكلُّ أنواع ِالزبارجِ التي تجذبُ أقوى البشرِ، اذهبي إلى شخصٍ آخرَ لتخدعيهِ، إنَّ عليّاً أكبرُ وأقوى وأسمى من هذهِ الأمورِ».
2. ترسيخُ القيَمِ الإنسانيّةِ: «إذا كانَت مفاهيمُ الحقِّ والعدلِ والإنسانيّةِ، وغيرُها منَ المفاهيمِ الّتي لها قيمةٌ إنسانيّةٌ بالنسبةِ إلى أصحابِ الفهمِ في هذا العالمِ، قد بقيَت وازدادَت قوّةً ورسوخاً يوماً بعدَ يومٍ؛ فذلكَ بسببِ تلكَ المجاهداتِ والتضحياتِ. لو لم يكنْ أمثالُ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ (عليه السلام) -والّذينَ هم عبرَ تاريخِ البشريّةِ قلّةٌ نادرةٌ– لما كانَ اليومَ لأيّةِ قيمةٍ إنسانيّةٍ من وجودٍ، ولما كانَت هذهِ العناوينُ الجذّابةُ للناسِ تمتلكُ أيّةَ جاذبيّةٍ، ولما كانَ للبشرِ حياةٌ وحضارةٌ وثقافةٌ وآمالٌ وقيَمٌ وأهدافٌ ساميةٌ».
3. ميزانُ الحقِّ والباطلِ: «لقد قاتلَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) ثلاثةَ معسكراتٍ بثلاثةِ خطوطٍ منفصلةٍ، همِ الناكثونَ والقاسطونَ والمارقونَ. وكلُّ واحدةٍ من هذهِ الوقائعِ تدلُّ على تلكَ الروحِ الرفيعةِ للتوكّلِ على اللهِ والإيثارِ والبعدِ عنِ الأنانيّةِ والإنّيةِ في أميرِ المؤمنينَ (عليه السلام). وفي النهايةِ استُشهدَ على هذا الطريقِ، حتّى قيلَ بشأنِهِ: إنَّ عدلَ عليٍّ (عليه السلام) قد قتلَهُ. لو لم يكنْ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) مريداً للعدالةِ، وعمَدَ بدلَ ذلكَ إلى رعايةِ هذا وذاكَ، وتقديمِ الشأنيّةِ والمقامِ والشخصيّةِ على مصالحِ العالِم الإسلاميِّ، لكانَ أكثرَ الخلفاءِ نجاحاً وقدرةً، ولما وَجدَ لهُ معارضاً، لكنَّ أميرَ المؤمنينَ (عليه السلام) هوَ ميزانُ الحقِّ والباطلِ؛ ولهذا كانَ (عليه السلام) يتحرّكُ وفقَ جوهرِ التكليفِ، من دونِ أيّةِ ذرّةٍ من تدخّلِ الأنا والمشاعرِ الشخصيّةِ والمنافعِ الذاتيّةِ، وقد تحرّكَ على هذا الطريقِ الّذي اختارَهُ».
4. أعلى البذلِ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ: «هذهِ الآيةُ الشريفةُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾[3]، نزلَت في أميرِ المؤمنينَ. وتأويلُ هذهِ الآيةِ هوَ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ (عليه الصلاة والسلام). تقولُ الآيةُ: إنَّ بينَ الناسِ مَن يبيعُ نفسَهُ ووجودَهُ؛ أي أعزَّ ما عندَ الإنسانِ، هذا الرأسمالُ العزيزُ الوحيدُ الّذي لا يمكنُ جبرانُهُ -بحيثُ إنَّكَ لو قدّمتَهُ لن يكونَ بعدَها عنهُ بديلٌ- فبعضٌ يقدّمُ هذا الرأسمالَ، وهذا الموجودَ، دفعةً واحدةً من أجلِ الحصولِ على رضا اللهِ لا غير. ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي﴾ يعني يبيعُ، يقدّمُ، ﴿نفسَهُ﴾ يعني وجودَهَ، ﴿ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ﴾ أي إنَّهُ لا يوجدُ مقصدٌ دنيويٌّ أو نزعةٌ أو دافعٌ ذاتيٌّ، إنّما فقط وفقط الحصولُ على رضا اللهِ. وفي مقابلِ مثلِ هذا الإيثارِ وهذهِ التضحيةِ، فإنَّ اللهَ لا يمكنُ أن يكونَ من دونِ ردِّ فعلٍ يناسبُها، ﴿وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾. ومصداقُهُ الكاملُ هوَ أميرُ المؤمنينَ عليٌّ بنُ أبي طالبٍ (عليه السلام)».
نباركُ لصاحبِ العصرِ والزمانِ (عجّلَ اللهُ تعالى فرجَهُ) ولوليِّ أمرِ المسلمينَ (دامَ ظلُّه) وللمجاهدينَ جميعاً، ذكرى الولادةِ العطرةِ لأميرِ المؤمنينَ عليٍّ بنِ أبي طالبٍ (عليه السلام).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج39، ص229.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص480، الحكمة 77.
[3] سورة البقرة، الآية 207.









