لقدْ سارَ الرَّكْبُ الحُسَينيُّ باتِّجاهِ كربلاءَ، وكانَ الإمامُ الحسينُ (صلواتُ اللهِ عليه) يدعو الناسَ في الطريقِ إلى نُصرَتِهِ والمسيرِ معَهُ، مُبيِّناً أسبابَ نهضتِهِ وقِيامِهِ. والجميعُ يُدرِكُ أنَّها دعوةُ حقٍّ، ولكنَّ الناسَ كانَتْ ضمنَ أحدِ نَموذجَيْن: الاستجابةِ أوِ الرَّفْض.
1. نَموذجُ الاستجابة: زُهَيْرُ بنُ القَيْنِ البَجَليّ، بعثَ إليهِ الإمامُ الحسينُ (عليه السلام) رسولاً يدعوهُ ليلتقيَ بهِ، فَكرِهَ زهيرٌ اللقاء، فقالَتْ لهُ امرأتُهُ: سبحانَ اللَّهِ، أيبعثُ إليكَ ابنُ رسولِ اللَّهِ ثمَّ لا تأتيهِ؟! لوْ أتيتَهُ فَسمعْتَ مِن كلامِهِ، ثمَّ انصرفْتَ. فأتاهُ زهيرٌ، فما لبِثَ أنْ جاءَ مُسْتبشِراً، قدْ أشرقَ وجهُهُ، فأمرَ بفُسطاطِهِ وثَقَلِهِ ورَحلِهِ ومَتَاعِهِ، فَقُوِّضَ، وحُمِلَ إلى الحسينِ (عليه السلام).
ثمَّ ودّعَ زوجتَه، وقالَ لِمَنْ كانَ معَهُ منْ أصحابِهِ: مَنْ أحبَّ منكُم أن يتبعَني، وإلّا فهوَ آخرُ العَهْدِ، ثمَّ قالَ: إنِّي سأُحَدِّثُكُم حديثاً: إنَّا غزونا البحرَ، ففَتَحَ اللهُ علينا، وأصبْنا غنائمَ، فقالَ لنا سلمانُ الفارسيُّ (رضيَ اللهُ عنهُ): أفرِحْتُم بما فَتَحَ اللهُ عليكُم وأصبْتُم منَ الغنائمِ؟! قلْنا: نعمْ، فقالَ: إذا أدرَكْتُم شبابَ آلِ محمّدٍ، فكونوا أشدَّ فرحاً بقتالِكُم معَهُم ممّا أصبتُم منَ الغنائمِ[1].
وفي ليلةِ العاشرِ، كان زُهَيْرٌ المُبادِرَ لمُخاطبةِ الحسينِ (عليه السلام) بإعلانِ الثباتِ على العهدِ معَهُ، فقالَ: واللهِ، لو كانتِ الدنيا باقيةً، وكنّا فيها مُخَلَّدين، إلّا أنَّ فِراقَها في نَصْرِكَ ومُواسَاتِك، لآثَرْنا النُّهوضَ معَكَ على الإقامةِ فيها[2].
2. نَموذجُ الرَّفْض: عُبَيْدُ اللهِ بنُ الحُرِّ الجُعفيّ، فقدِ التقى بهِ الإمامُ الحسينُ (عليه السلام)، وقالَ لهُ: «أنا أدعوكَ في وقتي هذا إلى توبةٍ تَغسِلُ بها ما عليكَ منَ الذنوبِ، وأدعوكَ إلى نُصرتِنا أهلَ البيتِ؛ فإنْ أُعطِينا حقَّنا، حَمِدْنا اللهَ على ذلكَ وقَبِلْناه، وإنْ مُنِعْنا حقَّنا، ورُكِبْنا بالظُّلمِ، كُنتَ من أعواني على طَلَبِ الحقِّ».
فقالَ عبيدُ اللهِ بنُ الحُرّ: واللهِ، يابنَ بنتِ رسولِ الله! لوْ كانَ لكَ بالكوفةِ أعوانٌ يُقاتلونَ معَكَ، لكنتُ أنا أشدَّهُم على عدوِّك، ولكنِّي رأيتُ شيعتَكَ بالكوفةِ وقدْ لَزِموا منازلَهُم خوفاً منْ بني أُميّةَ ومنْ سيوفِهِم، فأنشُدُكَ باللهِ أنْ تَطلبَ منِّي هذهِ المنزلةَ! وأنا أُواسِيكَ بكلِّ ما أقدرُ عليه، وهذهِ فَرَسي مُلجَمةٌ، واللهِ، ما طَلَبْتُ عليها شيئاً إلّا أذَقتُهُ حياضَ الموتِ، ولا طُلِبتُ وأنا عليها فَلُحِقْتُ، وخُذْ سَيْفي هذا، فواللهِ، ما ضربْتُ به إلّا قَطَعْت.
فقالَ لهُ الحسينُ (عليهِ السلامُ): «يابنَ الحُرِّ، ما جِئْناكَ لفرسِكَ وسيفِكَ، إنّما أتيناكَ لنسألَكَ النُّصرةَ، فإنْ كنتَ قدْ بَخِلْتَ علينا بنفسِكَ، فلا حاجةَ لنا في شيءٍ منْ مالِكَ، ولم أكنْ بالذي أتَّخِذُ المُضِلِّينَ عضُداً؛ لأنِّي قدْ سمعْتُ رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ) وهوَ يقولُ: مَنْ سَمِعَ داعيةَ أهلِ بيتي، ولم يَنصُرْهُم على حقِّهِم، إلّا أَكَبَّهُ اللهُ على وجهِهِ في النارِ»[3].
ويَظهرُ بوضوحٍ أنَّ الموقفَ الصادرَ منَ الناصِرِ والخاذلِ نابعٌ تماماً منَ النَّظَرِ إلى الدنيا والآخرةِ، فحيثُ نَظَرَ الخاذلُ إلى الدنيا، ولم يرَ أنَّ الأمورَ تسيرُ وفقَ مصالحِهِ فيها، كان الخُذلانُ قرارَهُ؛ وأمّا مَنْ نَظَرَ إلى الآخرةِ، وعَلِمَ أنّها الحياةُ الحقيقيّةُ، فقدِ اختارَها على الدنيا، وأقدَمَ على نُصرةِ الحسينِ (صلواتُ اللهِ عليهِ).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] راجع: الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج2، ص73.
[2] الشيخ محمّد السماويّ، إبصار العين في أنصار الحسين (عليه السلام)، ص162.
[3] أحمد بن أعثم الكوفيّ، الفتوح، ج5، ص74.