تقولُ الروايةُ: جَمَعَ [الإمامُ] الحُسَيْنُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أَصْحَابَهُ عِنْدَ قُرْبِ المسَاءِ، قالَ: «أُثْنِي عَلَى اللَّهِ أَحْسَنَ الثَّنَاءِ، وأَحْمَدُهُ عَلَى السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ... أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَصْحَاباً أَوْفَى ولاَ خَيْراً مِنْ أَصْحَابِي، ولاَ أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ ولاَ أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَجَزَاكُمُ اَللَّهُ عَنِّي خَيْراً... أَلَا وإِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَكُمْ، فَانْطَلِقُوا جَمِيعاً فِي حِلٍّ، لَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنِّي ذِمَامٌ، هَذَا اللَّيْلُ قَدْ غَشِيَكُمْ فَاتَّخِذُوهُ جَمَلاً»...
وَقَامَ إِلَيْهِ مُسْلِمُ بْنُ عَوْسَجَةَ، فَقَالَ: أَنُخَلِّي عَنْكَ، وَلَمَّا نُعْذِرْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَدَاءِ حَقِّكَ؟!... وَاللَّهِ، لَوْ عَلِمْتُ أَنِّي أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُحْرَقُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُذْرَى، يُفْعَلُ ذَلِكَ بِي سَبْعِينَ مَرَّةً مَا فَارَقْتُكَ حَتَّى أَلْقَى حِمَامِي دُونَكَ، وَكَيْفَ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا هِيَ قَتْلَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ هِيَ الْكَرَامَةُ الَّتِي لَا انْقِضَاءَ لَهَا أَبَداً[1].
لقدْ تَجَلّى شِعارُ «ما تَرَكْتُكَ يا حُسَيْن» في مظاهرَ مختلفةٍ، منها:
1. «هيهاتَ مِنّا الذِّلَّة»: يقولُ شهيدُنا الأسمى: نُكَرِّرُ سَوِيّاً، ويَسْمَعُنا العالَمُ، ونَحْسِمُ خِيارَنا، ونُجَدِّدُ عَهْدَنا مع الحُسَيْنِ الّذي وَقَفَ في مِثْلِ هذا اليومِ وَحيداً في مُواجَهَةِ ثلاثينَ أَلْفاً، وكانَ مِصْداقاً لأبيهِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ (عليهِ السّلام) الّذي كانَ يقولُ: «وَاللَّهِ، لَوْ لَقِيتُهُمْ فَرْداً، وَهُمْ مِلْءُ الْأَرْضِ، ما بالَيْتُ وَلا اسْتَوْحَشْتُ»[2]. عِندَما وُضِعَ الحُسَيْنُ بينَ خِيارَيْنِ، فاخْتارَ: «أَلَا إِنَّ الدَّعِيَّ بنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ»[3]. حتّى الأبَد، ومَهما تَكُنِ التَّحَدِّياتُ والأخطارُ، [فَإِنَّنا] نَقولُ لِكُلِّ الّذينَ يُراهِنونَ على إخافَتِنا أو إضْعافِنا أو تَهْديدِنا: نَحنُ أَصْحابُ أَبي عبدِ اللهِ الحُسَيْنِ (عليهِ السلام)، الّذي يقولُ: «هيهاتَ مِنّا الذِّلَّة»[4].
2. «لبَّيْكَ يا حُسَيْن»: يقولُ شهيدُنا الأسمى: يا إِخْواني ويا أَخَواتي، بَعْدَ أَنْ سَقَطَ الجَميعُ شُهَداءَ، وبَقِيَ الحُسَيْنُ وَحيداً، وَلَكِنَّهُ كانَ قَوِيّاً، صَلْباً، مُتَلَأْلِئاً، وَجَّهَ النِّداءَ. لَمْ يَكُنِ النِّداءُ لِلجَيْشِ الواقِفِ أَمامَه، وإِنَّما كانَ النِّداءُ لِكُلِّ أُولئكَ الّذينَ تَحْتَضِنُهُم طِوالَ التّاريخِ إلى يومِ القِيامَةِ أَصْلابُ الرِّجالِ وأَرْحامُ النِّساءِ. كانَ نِداؤهُ: «هَلْ مِنْ ناصِرٍ يَنْصُرُني؟»[5]. وسَيَبْقى الجَوابُ دائِماً وأَبَداً، بالدَّمْعِ، وبالدَّمِ، وبالرّوحِ، وبالمَوقِفِ، وبالفِكْرِ، وبالجِهادِ، وبالمُقاوَمَةِ: «لبَّيْكَ يا حُسَيْن».
3. «أَوَلَسْنا على الحَقّ؟»: يقولُ شهيدُنا الأسمى: في مِثْلِ هذا اليومِ، خَطَّ الحُسَيْنُ (عليهِ السلام) لِلأَجْيالِ طِوالَ التّاريخِ طَريقاً لِلْجِهادِ الماضي في أُمَّتِنا إلى يومِ القِيامَةِ، وفَتَحَ باباً لِلِاسْتِشْهادِ المُوصِلِ إلى اللهِ تعالى مِن أَقْصَرِ الطُّرُق. وتَبْقى كَلِماتُهُ وكَلِماتُ أَصْحابِهِ مُدَوِّيَةً في الآذانِ، والقُلوبِ، والعُقولِ، تُثَبِّتُ مَدْرَسَةَ الإِسْلامِ المُحَمَّديِّ الأَصيلِ. مِن ذلكَ، الشّابُّ عليٌّ الأَكْبَرُ وقَوْلُهُ: «أَلَسْنا على الحَقّ؟ إِذاً لا نُبالي، أَوَقَعْنا على المَوْتِ أَم وَقَعَ المَوْتُ علينا»[6].
4. «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنّا هذا القُرْبان»: يقولُ شهيدُنا الأسمى: إِلى تِلْكَ السَّيِّدَةِ العَظِيمَةِ الّتي فَقَدَتْ إِخْوَتَها، وأَحِبّاءَها، وأَولادَها، وأَبْناءَ إِخْوَتِها، في سَاعاتٍ قَليلَةٍ، وَلَكِنَّها بِقَلْبٍ راضٍ، وصابِرٍ، ومُحْتَسِبٍ، جَلَسَتْ عِندَ جَسَدِ سَيِّدِها وحَبِيبِها الحُسَيْن، وَلَمْ يَكُنْ لَها سِوى كَلِماتِ الرِّضا وطَلَبِ القَبولِ مِنَ الله. السَّيِّدَةُ زَيْنَبُ (عليها السّلام) بَعْدَ ساعاتٍ مِن مِثْلِ هذا اليومِ، تَجْلِسُ عِندَ الجَسَدِ المُقَطَّعِ المُدَمّى، وتَنْظُرُ إلى السَّماءِ، وتَقولُ: «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنّا هذا القُرْبان».
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص92 - 93.
[2] الثقفيّ، الغارات، ج1، ص319.
[3] المسعوديّ، إثبات الوصيّة، ص166.
[4] المصدر نفسه.
[5] راجع: العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج42، ص264.
[6] راجع: الشيخ المفيد، الإرشاد، ج2، ص82.