الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين

العدد 1696 04 جمادى الثانية 1447هـ - الموافق 25 تشرين الثاني 2025م

عرفتُ الله

التعبويُّ العاملُ للهِ عزَّ وجلَّعقلانيّة الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرُّه)مراقبات

العدد 1695 28 جمادى الأولى 1447هـ - الموافق 19 تشرين الثاني 2025م

يوم تعبئة المستضعفين

تحصينُ الأسرارِالقدرة على التشخيص من مظاهر البصيرةمراقباتبِقَلْبٍ سَلِيمٍفاطمةُ (عليها السلام) نورُ العبادة
من نحن

 
 

 

التصنيفات

العدد 1696 04 جمادى الثانية 1447هـ - الموافق 25 تشرين الثاني 2025م

عرفتُ الله

تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

الحمد لله الّذي خلق الخلق بقدرته، ودبّر الكون بحكمته، وصرف الأمور بعلمه، فلا يقع في ملكه إلّا ما أراد، ولا يجري على خلقه إلّا ما قدّر، نحمده على آلائه التي لا تُحصى، وعلى نعمائه التي لا تُستقصى، ونسأله توفيق الشاكرين وصبر المحتسبين.

وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، أرسله رحمةً للعالمين، وهادياً للسالكين، وشاهداً على الخلق أجمعين. اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، سفن النجاة، ومصابيح الدجى، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

افتتح أهل البيت (عليهم السلام) باب معرفة الله على أساسٍ من التأمّل في واقع الإنسان نفسه، وما يطرأ عليه من أحداث، وما يعترضه من غايات. ومن أبلغ كلماتهم في ذلك، ما رُوي عن الإمام الصادق (عليه السلام): «سمعتُ أبي يحدّث عن أبيه (عليه السلام)، أنّ رجلاً قام إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال له: يا أمير المؤمنين، بمَ عرفتَ ربّك؟ قال: بفسخ العزم ونقض الهمم؛ لمّا أن همَمْتُ فحال بيني وبين همّي، وعزمتُ فخالف القضاء عزمي، فعلمتُ أنّ المدبِّر غيري، قال: فبماذا شكرت نعماه؟ قال: نظرتُ إلى بلاءٍ قد صرفه عنّي وأبلى به غيري، فعلمتُ أنّه قد أنعم عليَّ، فشكرتُه، قال: فبماذا أحببتَ لقاءَه؟ قال: لمّا رأيتُه قد اختار لي دينَ ملائكته ورسله وأنبيائه، علمتُ أنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني، فأحببتُ لقاءَه»[1].

أيّها الأعزّاء، إنّ هذه الكلمات العلويّة لهي منهجٌ كاملٌ في معرفة الله، وشكره، ومحبّته.

معرفة الله عبر تدبيره
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «بفسخ العزم ونقض الهمم… فعلمتُ أنّ المدبِّر غيري».

إنّ الإنسان يخطّط ويعزم، ويظنّ أنّ الإرادة بين يديه، ثمّ يواجه في واقعه ما يخالف مخطّطاته وعزمه، فيكتشف أنّ قدرته محدودة، وأنّ فوق إرادته إرادةً أعلى تحكمها. وحين يذوق طعم العجز أمام ما يجري عليه، يتفتّح في قلبه باب المعرفة؛ ليدرك أنّ هنالك تقديراً محيطاً بكلّ شيء، كما يقول تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾[2].

فالإنسان قد يَهمّ بأمرٍ ما، لكنّه لا يملك القدرة على إمضائه وحده، وبهذا يدعونا الإمام (عليه السلام) إلى أن نعرف الله عبر التجربة اليوميّة في أحداث حياتنا ومسارها، وما يطرأ فيها من تغيّر ووقائع، وليس فقط عبر التأمّل الفكريّ وحده؛ ولذلك يقول تعالى أيضاً: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾[3]؛ أي إنّ في الوكالة الإلهيّة تدبيراً وإشرافاً على كلّ ما يجري في حياة الخلق.

وفي السياق نفسه، يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «القلوب بيد الله، وكلّ الإرادات مقهورةٌ لإرادته»[4].

شكر الله بالالتفات إلى النعم الخفيّة
ويتابع أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً: «نظرتُ إلى بلاءٍ قد صرفه عنّي وأبلى به غيري، فعلمتُ أنّه قد أنعم عليَّ، فشكرتُه».

إنّ في هذه الكلمة تربيةً روحيّةً عظيمة؛ إذ إنّ الناس غالباً لا ينتبهون إلى النعم إلّا حين يملكونها أو حين يفقدونها؛ أمّا الإمام (عليه السلام) فيلفت إلى نوعٍ آخر من النعم، قد لا يلتفت إليه الكثيرون، وهو نعمة دفع البلاء قبل نعمة جلب الخير؛ فكم من بلاءٍ كان يمكن أن يصيبنا، لكنّ الله بلطفه صرفه عنّا من حيث لا نعلم، فكان ذلك نعمةً تستوجب الشكر، مثلها مثل النعم الظاهرة، وربّما أعظم؛ فالسلامة نعمة، وستر الله علينا نعمة، وحماية الله لنا من الشرور نعمة؛ لذلك يقول تعالى: ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾[5]، وقال أيضاً: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾[6].

وفي السنّة النبويّة، نقرأ حديثاً عظيماً يعلّمنا شكر نِعَم الله الخفيّة، عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «مَن أصبح معافىً في جسده، آمناً في سربه، عنده قوت يومه، فكأنّما خيرت له الدنيا»[7].

وليس من النعم الخفيّة ما يدفعه الله عن أبداننا فقط، بل ما يصرفه عن قلوبنا أيضاً، وإلى هذا المعنى يشير الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) قائلاً: «نشكر الله أنّه لم يبتلِنا بسوء الظنّ به ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾[8]، ولم يجعلنا منهم»[9].

إذاً، أن يحميَك الله من مصيبة، فهو قد أنعم عليك، وعندما يُنجيك من شرٍّ كنت غافلاً عنه، فذلك من أعظم النعم، سواءٌ أكان ذلك في الجسد، أو في الرزق، أو في القلب والإيمان.

محبّة لقاء الله
وفي الجواب الثالث يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «لمّا رأيتُه قد اختار لي دينَ ملائكته ورسله وأنبيائه، علمتُ أنّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني، فأحببتُ لقاءَه».

تكشف هذه الكلمات نوعاً راقياً من العلاقة مع الله؛ فالإمام (عليه السلام) لا ينظر إلى الدين على أنّه مجرّد أوامرٍ ونواهٍ، ولا ينظر إلى طاعة الله على أنّها ثمنٌ للنجاة من العقاب، ليست مع الله علاقة خوفٍ أو هروبٍ من الحياة وعبئها. إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يعلّمنا أن ننظر إلى العلاقة مع الله على قاعدة أنّه تعالى قد اختار المؤمن ليكون من أهل طاعته، كما اختار الملائكة والرسل والأنبياء، ومن ذاق حلاوة هذا الاختيار، عرف أنّ الله لا ينسى عباده، وأنّه ما منحهم الإيمان إلّا ليرفعهم ويقرّبهم، فتنشأ في القلب علاقة حبٍّ لا تقوم على الخوف وحده، بل على شكر المنعم الذي بدأ بالمحبّة قبل التكليف، كما قال تعالى: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾[10].

إنّ الدين ليس حملاً يُثقِل الإنسان، بل هو كرامةٌ تهديه إلى قرب الله، ويجعل طاعته تبجيلاً لمن أكرمه، وامتناناً لمن اصطفاه، ومحبّةً لمن ابتدأه بالرحمة قبل الأمر، وبالاختيار قبل الواجب. ومن يفهم الإيمان بهذا المعنى، لا يهرب من الدنيا ليعرف الله، بل يحبّ الله وهو يعمل فيها ويجاهد فيها ويعطي فيها؛ لأنّ قلبه مطمئنٌ بأنّ الذي أكرمه بالإيمان لن ينساه أبداً، يقول تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾[11].

بين المعرفة والشكر والمحبّة
تقدّم لنا كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاث محاور، تشكّل منهاجاً ربّانيّاً في بناء علاقة الإنسان بربّه: المعرفة والشكر والمحبّة.

فحين يقول (عليه السلام) إنّ انفساخ العزائم وتبدّل الهمم يدلّ على الله، فإنّه يفتح لنا باب المعرفة؛ إذ لا يدرك المؤمن حقيقة ربوبيّة الله إلّا عندما يرى أنّ قدرته مقهورة تحت سلطان الإرادة الإلهيّة، فيتواضع قلبه لمن بيده الأمر كلّه.

وحين يشير (عليه السلام) إلى صرف البلاء عن الإنسان باعتباره نعمة، فإنّه يضعنا أمام باب الشكر؛ فالمؤمن لا يشكر الله على ما يناله من الخير الظاهر فقط، بل يشكره أيضاً على ما يدفعه الله عنه من الشرور من حيث لا يعلم؛ إذ يرى في هذه الرحمة الخفيّة لطفاً وحفظاً ورعايةً إلهيّة.

ثمّ يكشف لنا عن باب المحبّة الحقيقيّة؛ فبعد أن يعرّفنا الإمام (عليه السلام) الله من خلال تدبيره، ويعلّمنا شكر النعم الظاهرة والخفيّة، يفتح أمامنا باب محبّة الله المبنيّة على اليقين بأنّ الإيمان نفسه نعمةٌ واختيارٌ إلهيّ. فمن أكرمه الله بأن جعله من أهل دينه، فلأنّه شاء له القرب والرفعة، لا لأنّه أراد تكليفه فحسب. ومع هذه المعرفة، يدرك المؤمن أنّ الله لا ينسى عباده، وأنّه اختار لهم الخير قبل أن يطلب منهم العمل.

لننظر إلى حياتنا على ضوء هذه الرواية، ولنجدد معرفتنا بالله من خلال ما يجري علينا، ونشكره على ما نعلم وما لا نعلم، ونحبّه لأنّه اختار لنا دينه، فبالمعرفة يكون التواضع، وبالشكر يولَد الرضا، وبالمحبّة تكتمل الطاعة ويزدهر اليقين.


[1] الشيخ الصدوق، الخصال، ص33.
[2] سورة التكوير، الآية 29.
[3] سورة الزمر، الآية 62.
[4] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 15/10/2012م.
[5] سورة إبراهيم، الآية 34.
[6] سورة البقرة، الآية 152.
[7] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص469.
[8] سورة الفتح، الآية 6.
[9] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 08/01/2013م.
[10] سورة المائدة، الآية 54.
[11] سورة البقرة، الآية 165.

25-11-2025 | 17-07 د | 9 قراءة


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net