الحمد لله الذي لا يظلمُ الناسَ شيئاً، ولكنّ الناسَ أنفسَهُم يظلمون، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، القائلُ في محكم كتابه: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾[1]، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، نبيُّ الرحمة والعدل والكرامة، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الذين أقاموا موازين العدل، وحملوا راية المظلومين في وجه الطغاة والجبّارين.
المعادلة القرآنيّة في صراع المستكبرين والمستضعفين
لقد وضع القرآن الكريم معادلةَ الصراع في الحياة البشرية بشكلٍ واضحٍ ودقيق، محدِّداً طرفَي المواجهة الحقيقيّة بين فريقَين لا ثالث لهما: فريق الطغاة المستكبرين الذين يسعَون في الأرض فساداً، ويستعبدون الناس بسطوتهم وجبروتهم، وفريق المستضعفين المؤمنين الذين يحملون راية الحقّ، ويصبرون على البلاء بثباتٍ وإيمانٍ ويقينٍ بنصر الله.
إنّها ليست معادلةً عابرةً أو حالةً ظرفيّة، بل هي التعبير الأعمق عن جوهر حركة التاريخ، وعن الصراع الأزليّ بين الحقّ والباطل، والعدل والظلم، والنور والظلمات. فحيثما وُجِد الطغيان والاستكبار، وُجِد في قباله الإيمان والمقاومة، وحيثما حاول الباطل أن يمدّ ظلَّه، نهض الحقّ ليبدّده.
وهذا الصراع، كما يصفه القرآن، ليس مفاجئاً ولا جديداً، بل هو سُنّةٌ من سنن الله في الأمم، تتكرّر بأشكالٍ مختلفة، ولكنّ نتيجتَها واحدة، وهي أنّ الغلبة في نهاية المطاف لأهل الإيمان، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾[2].
إنّه وعدٌ إلهيٌّ قاطعٌ لا يتخلّف، وقانونٌ ربّانيٌّ ثابتٌ لا يتبدّل، يُؤكّد أنّ الموازين المادّيّة مهما مالت لصالح الظالمين، فإنّ سنّة الله في نصرة الحقّ تبقى هي الغالبة، وأنّ التاريخ في جوهره مسيرةٌ نحو انتصار الإيمان على الطغيان، مهما طال الطريق أو اشتدّت الفتن.
الاستضعاف طريقٌ إلى التمكين
يُبيّن القرآن الكريم أنّ المستضعفين هم أولئك الذين تعرّضوا لظلم المستكبرين وتسلّطهم، فحيل بينهم وبين مقدّراتهم، وكانوا أهل قلّة وضعف في الوسائل وضعفٍ في الإمكانات، لكنّهم حملة الحقّ، وهبهم الله قوّة الإيمان والثبات، وجعل في استضعافِهم طريقَ التمكين وبذرة النصر، قال عزّ وجلّ: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾.
فالمستضعَفون، لفظٌ أُطلِق -في الشائع- على مَن هم أدنى مرتبةً من الآخرين، أو على الفئات التي تتعرّض للأذى والقهر من المستكبرين في الأرض، ولا حول لها ولا قوّة، فتخضع وتسكت، ولكن في الواقع هم ليسوا ضعفاء، بل تمّ استضعافهم من قِبل الآخرين، بالتكبّر والتعالي والظلم والتعدّي والتضييق والحرمان... والإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) يرفض هذا المعنى، ويراه مخالفاً لتعريف القرآن الكريم له، فيقول: «المستضعَفون هم أئمّة عالم البشريّة وقادته الكامنين، هذا هو معنى المستضعَفين؛ الأشخاص الذين سيرثون الأرض، وكلّ ما هو موجود عليها... المستضعَف هو الوريث الكامن للعالم، خليفة الله الكامن على الأرض، والإمام والقائد الكامن لعالم البشريّة»[3].
فلسطين نموذج المستضعفين
وإنّ فلسطينَ اليوم هي من أبرز مصاديق استضعاف المستكبرين للمؤمنين والمجاهدين؛ شعبٌ محاصرٌ، يُمنَع عنه الغذاء والكهرباء والدواء، ويُعمل على إبادته، لكنّه لم يُمنَع من الإيمان والعزيمة، يقف أمام آلة الحرب الصهيونيّة المدعومة من قوى الاستكبار العالميّ، صامداً لا يُبدّل تبديلاً، يقاتل دفاعاً عن مقدّساته وكرامته الإنسانيّة، فصار صوت المستضعفين في وجه الطغاة، وصورة الصبر في زمن القهر.
وهكذا تتجلّى سنّة الله في هذا الزمان؛ من يقف مع المظلومين يقف مع الحقّ، ومن يبرّر للظالمين يقف في صفّ الباطل، مهما تلثّم بشعاراتٍ إنسانيّة زائفة.
زيف الحضارة الغربيّة
أيّها الإخوةُ الأعزّاء،
لقد كشفت هذه المواجهةُ حقيقةَ الحضارة الغربيّة التي تتغنّى بالدفاع عن حقوق الإنسان، فإذا بها تصمت أو تبرّر جرائم الاحتلال في غزّة، وتغضّ الطرف عن تجويع الأطفال والنساء وقتلهم وتهديم بيوتهم فوق رؤوس ساكنيها.
حضارةٌ ترفع شعار الحرّيّة، وتمنع صوت الأحرار من الظهور، وتُغلق منابر الإعلام في وجه الحقيقة، وتُسخِّر أدواتها لتشويه المقاومة وتلميع المحتلّ.
فأين إنسانيتُها المزعومة؟ وأين شعاراتُها الّتي صدّعوا بها آذانَ العالم؟
لقد سقطَتْ أقنعتُها في وجه دماء الأطفال، وسجّل التاريخ أنّ «طوفان الأقصى» أسقط جدرانَ الزيف في حضارةٍ لا تعرف إلّا منطق التعدّي والظلم.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «إنّ الانتصار الكبير للشعب الفلسطينيّ هو إراقة ماء الوجه للغرب وأميركا، وفضح ادّعاءاتهم الكاذبة كافّة المتعلّقة بحقوق الإنسان. بات الجميع يعلمون الآن حقيقة أنواع التظاهر هذه وشعارات حقوق الإنسان وأمثالها، فقد انكشف الوجه القبيح للوحش الأميركيّ والبريطانيّ المشؤوم أمام شعوب العالم أجمع»[4].
الحقّ لا يُقاس بالقوّة
أيّها المؤمنون،
لقد وعد الله تعالى في آياتٍ كثيرةٍ من كتابه العزيز، أنّ أهل الحقّ وأنصار الإيمان هم المنتصرون في النهاية، وإنْ قدّموا التضحيات الجِسام، فإنّهم لا يُهزَمون أبداً؛ لأنّهم يسيرون في خطّ الله وسُنَنه الثابتة، قال تعالى: ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾[5]، وقال أيضاً: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾[6].
وهذا الوعدُ الإلهيّ ليس حدثاً تاريخيّاً مضى وانتهى، بل هو قانونٌ إلهيّ دائمٌ يتكرّرُ في كلّ زمانٍ ومكان، كلّما واجه الحقُّ الباطلَ، وكلّما وقف المؤمنون في وجه المستكبرين.
وقد نبّهَ القرآنُ الكريمُ إلى أنّ الظالمين، وإنْ مكروا وخطّطوا وتآمروا، فإنّ مكرَهم يحيقُ بهم، لأنّ سُنّة الله ماضيةٌ في إبطال كيدهم، قال تعالى: ﴿أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ﴾[7].
وإنّ الحقّ لا يُقاس بالقوّة المادّيّة، ولا بعدد الجيوش، ولا بحجم السلاح، بل يُقاس بثبات الموقف وصدق النيّة والإيمان بوعد الله، قال تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِين﴾[8]، فالمعيار في ميزان الله ليس عدد الرجال ولا ضخامة العتاد، بل الإخلاص والصبر والثقة بنصر الله.
وقد أكّدَ أئمّتُنا (عليهم السلام) هذا المعنى في كلماتِهم، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «ما ضَعُفَ بدنٌ عَمّا قَوِيَتْ عليه النيّة»[9]، فالقوّة الحقيقيّة ليست في الجسد ولا في السلاح، بل في إرادة الحقّ ونقاءِ النيّة.
إنّ هذه السنن الإلهيّة لا تتخلّف؛ فحيث يوجد مستضعفون مؤمنون يقفون بوجه المستكبرين، فثمّة وعد الله بالنصر والتمكين، وإن طال الطريق وكثُرت التضحيات: ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾.
[1] سورة القصص، الآية 5.
[2] سورة الصافّات، الآيات 171 - 173.
[3] من كلامٍ له (دام ظلّه) بتاريخ 27/11/2019م.
[4] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 23/12/2023م.
[5] سورة محمّد، الآية 7.
[6] سورة الحجّ، الآية 40.
[7] سورة الطور، الآية 42.
[8] سورة البقرة، الآية 249.
[9] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص408.