الحمد لله الذي أمر بالعدل والإحسان، ونهى عن الفحشاء والمنكر والطغيان، أحمده حمداً يليق بجلاله وكماله، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الذين جسّدوا العطاء بأبهى صوره وأكمل معانيه.
إلى مولانا صاحب العصر والزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء)، وإلى نائبه وليّ أمر المسلمين الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، وإلى مراجعنا وقادتنا العظام، نرفع أسمى آيات العزاء والتهنئة في آن، بذكرى شهادة سيّد شهداء الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، وارتقائه مع مجموعة من القادة، والقائد الجهاديّ الكبير الحاجّ علي كركي (أبو الفضل) والجنرال عبّاس نيلفروشان وثلّة من المجاهدين في الضاحية الجنوبيّة لبيروت في 27 أيلول 2024م، وكذلك شهادة سماحة الشيخ نبيل قاووق في اليوم التالي.
عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنَّ اللهَ كتبَ القتلَ على قومٍ والموتَ على آخرين، وكلٌّ آتيةٌ منيّتُهُ كما كتبَ اللهُ لكم، فطوبى للمجاهدينَ في سبيلِ اللهِ والمقتولينَ في طاعتِه»[1].
إنّ الحديث عن العطاء حديث عن جوهر الإنسان، وعن امتحانه الأعظم في هذه الحياة؛ فالإنسان فقير في أصل وجوده، وفقره هذا هو عنوان هوّيته وسبيل معرفته بربّه، وفي دعاء عرفة للإمام الحسين (عليه السلام) يقول: «إِلهِي، أَنا الفَقِيرُ فِي غِنايَ، فَكَيْفَ لا أَكُونُ فَقِيراً فِي فَقْرِي»[2]. إنّ شعور الإنسان بفقره واحتياجه هو الذي يحرّكه للبحث عن الغنى عند الغنيّ المطلق، ويمنعه من الغرور والتكبّر.
ولكن هذا الفقر نفسه يتحوّل إلى ابتلاء واختبار؛ فإمّا أن يستسلم الإنسان لشحّ نفسه، فيكون عبداً لهذه الدنيا بملذّاتها وشهواتها، وإمّا أن يسمو بإيمانه، فيجعل من وجوده فيها فرصة لخدمة القيم والمجتمع والدين. وهنا يأتي الامتحان الأعظم، وهو الإيثار، بأن يُؤثِر غيره على نفسه، وراحة الآخرين على راحته، حاملاً هموم بيئته وآلام قومه، فيكون بذلك مصداقاً للآية الكريمة التي يصف الله المؤمنين فيها بقوله: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[3].
نعم، إنّ الإيثار مرتبة راقية من مراتب البذل، ومنزلة عظيمة من منازل العطاء، وهو من محاسن الأخلاق الإسلاميّة، ومن أبرز الفضائل الإنسانيّة، وفيه يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الإيثار أعلى المكارم»[4] و«الإيثار أشرف الإحسان»[5].
وإنّ أرقى درجات الإيثار والتضحية هي أن يجود المرء بنفسه بين يدي وليّ الله وإمام عصره وزمانه، دفاعاً عن الإسلام والمسلمين، وقد وصفه تعالى بالفوز العظيم، إذ يقول: ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[6].
ولا يوجد معروف أو برّ فوق هذا الإيثار وهذه التضحية، فعن الإمام الصادق (عليه السلام): «قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): فوقَ كلِّ ذي برٍّ برٌّ، حتّى يُقتَلَ الرجلُ في سبيلِ اللهِ، فإذا قُتِلَ في سبيلِ اللهِ، فليسَ فوقَهُ برٌّ»[7].
بين الموت والشهادة
وفي عقيدتنا أنّ الموتَ جسرُ عبورٍ من هذه الدار الفانية إلى الدار الخالدة، والمجاهد ينظر إلى هذه الحياة في ضوء هذه العقيدة، فلا يخشى الموت، بل يستقبله بشوقٍ إذا ما تتطلّب الواجب منه ذلك. قد أعدّ نفسه لأيٍّ من أنواع الموت، ولكنّ عشقه أن يكون خروجه من هذه الدنيا عن طريق الشهادة، وأن تُختَم حياته بهذا الشرف العظيم، الذي يعبّر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن شوقه له، فيقول: «إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ. والَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِه، لأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّه»[8]، وفي عهده إلى مالك الأشتر، يسأل (عليه السلام) اللهَ لنفسهِ ولصاحبه مالك الأشتر الشهادةَ في سبيله، فيقول: «وأَنَا أَسْأَلُ اللَّه بِسَعَةِ رَحْمَتِه وعَظِيمِ قُدْرَتِه عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ، أَنْ يُوَفِّقَنِي وإِيَّاكَ لِمَا فِيه رِضَاه... وأَنْ يَخْتِمَ لِي ولَكَ بِالسَّعَادَةِ والشَّهَادَةِ»[9].
لذلك، فإنّ التسابقَ إلى الشهادة ناشئٌ من إدراك هذه الحقيقة، ألا وهي أنّها أفضلُ أنواع الموت بين يدي الله سبحانه، وهذا ما عبّرت عنه السيّدة زينب (عليها السلام) في كلامها على شهادة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه؛ إذ بيّنت حقيقة نظرة المؤمن إلى الشهادة، فقالت: «ما رأيتُ إلّا جميلاً»[10].
الشهداء أعظم نماذج العطاء
كما وإنّ بلوغ الأهداف الكبرى في الحياة يستلزم تضحياتٍ كبرى مكافئة لها، ولا ريب في أنّ سموّ الأهداف ونبل الغايات تقتضي سموّ التضحيات وشرفها ورقيّ منازلها، وإذا كان أشرف التضحيات وأسماها هو ما كان ابتغاء رضوان الله تعالى؛ فإنّ الذودَ عن حياض هذا الدين؛ والدفاع عن مقدَّساته يتبوّأُ أرفع درجات هذا الرضوان، ولقد جسّد شهداء المقاومة من المجاهدين والقادة على امتداد سنوات الجهاد وسوحه هذا الإيثار وهذه التضحية، ونالوا رتبة الشهادة، وعلى رأسهم شهيد الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، الذي اشترى الحياة الدينا بالآخرة، وباع روحه وجسده لله، ولم يرضَ بهذا العَرَض الأدنى، وتنبّه لتحذير الحقّ تعالى، فكان منطقه ولسان حاله ورسالته إلينا على الدوام: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾[11]، وإلى عدوّ الله وعدوّه كان لسانه أبداً: ﴿فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾[12].
إنّ العظمة لهذا القائد الفذّ، إنّما تنبع من أنّه قدّم عمراً مديداً في خدمة الدين والمسلمين، وقاد المجتمع في مدارج العزّة والكرامة والإباء، ثمّ ختم الله له بكرامة الشهادة، يقول الإمام الخمينيّ (قُدّس سرّه): «كم هم سعداءُ أولئكَ الَّذينَ يقضونَ عمراً طويلاً في خدمةِ الإسلامِ والمسلِمينَ، وينالونَ في نهايةِ عمرِهِم الفيضَ العظيمَ الَّذي يتمنَّاهُ كلُّ عشَّاقِ لقاءِ المحبوبِ! كم هم سعداءُ وعظماءُ أولئكَ الَّذينَ اهتمُّوا طيلةَ حياتِهِم بتهذيبِ النَّفسِ والجهادِ الأكبرِ، وفي نهايةِ أعمارِهِم التحقوا بركبِ الشُّهداءِ، معزَّزينَ، مرفوعي الرَّأسِ! كم هم سعداءُ وفائزونَ أولئكَ الَّذينَ لم يقعوا في شِباكِ الوساوسِ النَّفسيَّةِ وحبائلِ الشَّيطانِ طيلةَ أيَّامِ حياتِهِم، في بأسائِها وضرَّائِها، وخرقوا آخرَ الحُجُبِ بينَهم وبينَ المحبوبِ، وبِلِحاهُم المُخضَّبةِ بالدِّماءِ التحقوا بركبِ المجاهدينَ في سبيلِ اللهِ تعالى»[13].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج32، ص403.
[2] المصدر نفسه، ج95، ص225.
[3] سورة الحشر، الآية 9.
[4] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص19.
[5] المصدر نفسه، ص33.
[6] سورة التوبة، الآية 111.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص384.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص180، الخطبة 123.
[9] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص445، الكتاب 53.
[10] ابن نما الحلّيّ، مثير الأحزان، ص71.
[11] سورة غافر، الآية 39.
[12] سورة طه، الآية 72.
[13] الإمام الخمينيّ، صحيفة الإمام، ج17، ص47.