الصفحة الرئيسية
بحـث
تواصل معنا
Rss خدمة
 
  تحريك لليسار إيقاف تحريك لليمين

العدد 1678 27 محرم 1447هـ - الموافق 23 تموز 2025م

معركة صفّين

الثقةُ وسوءُ الظنِّكلمة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) في لقاء مع كبار مسؤولي السلطة القضائيّةغياب التبيين فرصة للعدوّمراقباتمراقباتالعمل بالكتاب في المجتمعوَبَادِرُوا الْمَوْتَ

العدد 1677 20 محرم 1447هـ - الموافق 16 تموز 2025م

الإمام زين العابدين (عليه السلام) إمامةٌ في قلب المحنة

مراقبات
من نحن

 
 

 

التصنيفات

العدد 1678 27 محرم 1447هـ - الموافق 23 تموز 2025م

معركة صفّين

تصغير الخط تكبير الخط أرسل لصديق

صراع الوعي وتزييف الحقائق
الحمد لله الهادي لمن استهدى، والمعين لمن اعتصم وتوكّل، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وآله الطيّبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[1].

أيّها المؤمنون،
على أعتاب شهر صفر، شهر آلام أهل البيت (عليهم السلام)، والذي تأتي في أوّله ذكرى واقعة صفّين سنة 37 للهجرة، وذكرى وصول رأس الإمام الحسين (عليه السلام) وموكب السبايا إلى دمشق الشام سنة 61 للهجرة!

محطّاتٌ لا تزال تُشبهُ حاضرنا، في ألوان الفتن، واستغلال الدين، وقلب الحقائق، وتشويه أوجه الصدق والحقّ، وزعزعة الثبات.

معركة صفّين: ظاهرها سيوف وباطنها تزييف
إنّ معركة صفّين لم تكن حرباً على الأرض فحسب، بل كانت حرباً على الوعي، استُخدمت فيها كلّ أدوات الخداع والتضليل والتلاعب بعقول الناس. لم يكن معاوية يواجه أمير المؤمنين (عليه السلام) بالسيف فقط، بل واجهه بشراء الذمم، وبثّ الإشاعات، وتوظيف الدين لخدمة الباطل، ورفع المصاحف كحيلة إعلاميّة كبرى تهدف إلى خلط الحقّ بالباطل، وتشويش البصائر، وزعزعة الموقف الحقّ.

وقد أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى هذا المستوى الخطير من المعارك، حين قال: «إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ، يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّه، ويَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالاً عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّه، فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ، لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ، ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ، انْقَطَعَتْ عَنْه أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ، ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ، فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِه، ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّه الْحُسْنى»[2].

فالصراع، كما يراه الإمام (عليه السلام)، صراع تزييف وتشويه، لا صراع سيوف فقط. وقد كان يحذّر من الفسّاق الذين يحملون الكتاب على آرائهم، ويعطفون الحقّ على أهوائهم.

يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، مبيّناً هذا: «كان من جُملة الأعمال المهمّة التي قام بها عمّار بن ياسر في حرب صفّين، تبيين الحقيقة؛ لأنّ التيّار المقابِل، وهو تيّار معاوية، كان يمتلك العديد من أبواق الإعلام والدعاية؛ وهو ما يسمّونه اليوم، الحرب النفسيّة. هذه ليست من الاختراعات الجديدة، إنّما اختلفَت الأساليب، وقد كانت منذ البداية. وقد كانوا ماهرين جدّاً في هذه الحرب النفسيّة. ينظر الإنسان في أعمالهم، فيرى أنّهم كانوا ماهرين في الحرب النفسيّة. إنّ تخريب الأذهان أسهل من بنائها»[3].

لقد كانت صفّين مختبراً مبكِّراً لحروب الوعي التي نعيشها اليوم؛ معارك تُدار من غرف السياسة والدين المزوَّر، قبل أن تُدار من ميادين القتال. تواطؤ إعلاميّ، وتسويق لمفاهيم مغلّفة كـ«الحياد» و«الإصلاح» و«مصلحة الشعب»، تماماً كما يُسَوَّق اليوم لحصار المقاومة وتجريمها تحت مسمّيات برّاقة.

هذا الأسلوب نفسه استمرّ في كلّ زمان، وقد بيّن الإمام الصادق (عليه السلام) في كلامٍ بليغٍ أسلوب المواجهة، وذلك عبر إيثار الحقّ وإن كان مضرّاً، على الباطل وإن كان نافعاً، وأن لا يسكت المرء عن منطق الحقيقة وعلومها، فقال (عليه السلام): «إنّ من حقيقة الإيمان أن تُؤثر الحقّ وإن ضرّك، على الباطل وإن نفعك، وأن لا يجوز منطقك علمك»[4].

فهذا الحديث يؤكّد ضرورة إعطاء الأسبقيّة للحقّ، وإن أضرّك، وعدم إخفاء المنطق والعلم؛ أي عدم تزييف الحقّ بخطاب باطل، أو التغطية على الحقيقة لأسباب أخرى. وهذا جوهر صراعنا اليوم: إذ تُموَّه الحقائق وتُخفى بالمزج بينها وبين الباطل، ويضعف المنطق أمام القوّة الإعلامية والسياسيّة.

وهكذا تتكرّر قواعد صفّين في معارك اليوم: الحرب على الوعي أوّلاً، ثمّ على الجبهات ثانياً. ولا عجب أن قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في ألم الواقع: «إنّ قول الحقّ لم يدع لي صديقاً»[5]؛ لأنّ حامل لواء الحقّ، في وجه جيوش التضليل، سيكون غريباً في زمانه، مُتَّهماً في صدقه، محاصراً في دعوته، كما كان أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكما هي حال المقاومة اليوم.

كلمة حقّ يُراد بها باطل
في صفّين، لم تكن المعركة مجرّد صدام عسكريّ، بل كانت مواجهةً بين الحقّ المبدئيّ والباطل المتستّر بالشعارات. كان الخطر الحقيقيّ ليس في سيوف العدوّ، بل في قدرته على تلبيس الباطل لبوسَ الحقّ، وترويج المفاهيم المنحرفة على أنّها دعوات إصلاح أو صيانةٍ للدين أو وحدةٍ بين المسلمين.

وقد لخّص أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا المشهد المعقّد بكلمة خالدة، تُعدّ قاعدةً لكلّ زمان، فقال: «كلمةُ حقٍّ يُراد بها باطل»[6]؛ أي إنّ المشكلة ليست في الشعار نفسه، بل في النوايا الخبيثة الكامنة خلفه، وفي السياق الذي يُستخدم فيه، وفي الغاية التي يُساق نحوها.

وهذا ما نشهده اليوم أيضاً: تُرفع شعارات برّاقة في ظاهرها، كالدعوة إلى «الوطنيّة»، «الحياد»، «الإصلاح الاقتصاديّ»، «الإنقاذ السياسيّ»، «حصريّة السلاح»، «قرار الحرب والسلم»... وهي في حقيقتها لا تعدو كونها تغطية ناعمة على مخطّطات لضرب المقاومة، وإضعاف الهويّة، وإعادة إنتاج التبعيّة.

إنّ كثيراً من الخطابات المعاصرة تمارس هذا النمط من الخداع اللفظيّ، بحيث تُلبَّس مشاريع الهيمنة على الشعوب بلباس التنمية، وتُخنق خيارات الاستقلال والممانعة تحت عناوين «العقلانيّة» و«تغليب المصلحة». وكأنّ صوت أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يزال يتردّد في وجه هؤلاء جميعاً، محذّراً من المفردات المزدوجة التي تُستخدم لتزييف وعي الجماهير وتحييدهم عن القضايا الأساسيّة.

فـ«كلمة الحقّ» إذا لم تُفهم في سياقها، وإذا لم تُربط بمقاصدها الواقعيّة، فإنّها تتحوّل إلى أداة تضليل، لا وسيلة هداية. ومن هنا، كانت بصيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) في تفكيك الخطاب وفضح نوايا أصحابه، درساً دائماً لكلّ من يسعى إلى الدفاع عن الحقّ في وجه أساليب التزييف والتمويه.

يتكلّمون على الوضع المعيشيّ والهدف هو سلاح المقاومة، يتكلّمون على الاستقرار والهدف هو نزع أوراق القوّة، يتكلّمون على الحياد والمراد منه الوقوف مع العدوّ من دون أن يُقال ذلك صراحة، يتكلّمون على الانتماء للوطن والهدف هو التخلّي عن الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، يتكلّمون على العروبة والهدف هو الالتحاق بركب التطبيع مع الدول العربيّة المطبّعة، يتكلّمون على السلام والهدف هو الاستسلام، يتكلّمون على القرارات الدوليّة والهدف هو التبعيّة للغرب!

وقد لخّص شهيد الأمّة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) الموقف سابقاً تجاه هذا التهديد، فقال: «مَن يضعنا بين خيار القتل بالسلاح أو الجوع، سيبقى سلاحنا في أيدينا»، وأكّد احتضانَ هذه البيئة للمقاومة: «إنّ مَن ينتظر تأليب بيئة المقاومة عليها سيفشل، وعليه أن ييأس»[7].

وما يجدر التوقّف عنده أنّ هذا الكلام الحازم من السيّد حسن نصر الله لم يُقَل في حالة ضعفٍ أو مأزق، بل قيل حين كانت المقاومة في موقع القوّة والتقدّم والانتصار، تملك زمام المبادرة، وتفرض معادلاتها. فإذا كان السيّد قد أعلن ذلك بوضوح آنذاك، فاليوم، ومع تزايد الضغوط الاقتصاديّة، واشتداد الحصار السياسيّ، وتكالب قوى الداخل والخارج على مشروع المقاومة، فإنّ هذا الموقف يُصبح آكد وأثبت وأشدّ صلابة؛ لأنّ التنازل تحت الضغط يعني منح العدوّ ثمرة الحصار، والرضوخ بعد الصبر، والتفريط بعد الصمود.

خيار المقاومة امتداد لأمير المؤمنين
إنّ المقاومة في وجه الطغيان والاحتلال ليست ترفاً سياسيّاً، بل هي امتداد لنهج أمير المؤمنين (عليه السلام)، الذي لم يتنازل، ولم يساوم، ولم يهادن، بل ثبت وهو يعلم أنّه يُحارب جيشاً فيه من يُصلّي ويصوم، ولكنّه على باطل.

يحذّرنا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فيقول: «إيّاك أن تحبّ أعداء الله، وتُصفي ودّك لغير أولياء الله؛ فإنّه مَن أحبّ قوماً حُشِر معهم»[8]؛ فلنكن مع مواقف المقاومة، لا مع منابر التزوير، ولنقف كما وقف أمير المؤمنين (عليه السلام)، لا كما وقف أشعث بن قيس وعمرو بن العاص...

لا ينبغي أن نسمح للفتن بأن تُربكَنا، ولا للمعيشة الضاغطة بأن تدفعنا لبيع الموقف، ولا لمنابر الكذب بأن تُملي علينا.

يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّما أخاف عليكم اثنتين: اتّباع الهوى وطول الأمل؛ أمّا اتّباع الهوى فإنّه يصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فيُنسي الآخرة»[9].

ختاماً: لقد أثمرت صفّين كربلاء؛ لأنّ التردّد في الموقف حينها مهّد لحكم يزيد بعدها؛ فلا ينبغي أن نسمح اليوم بتكرار الخطأ ذاته، فالتاريخ لا يرحم، والموقف يُكتب بدماء الشهداء لا بأقلام المرتزقة.

اللهمّ اجعلنا من الثابتين مع الحقّ، ولا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وانصرنا على القوم الظالمين، ووفّقنا لنكون من جنود صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه).


[1] سورة التوبة، الآية 32.
[2] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص88، الخطبة 50.
[3] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 27/07/2009م.
[4] البرقيّ، المحاسن، ج1، ص205.
[5] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص574.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص82، الخطبة 40.
[7] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، بتاريخ 16/06/2020م.
[8] الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص98.
[9] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص336.

23-07-2025 | 15-31 د | 156 قراءة


 
صفحة البحــــث
سجـــــــل الزوار
القائمة البريـدية
خدمــــــــة RSS

 
 
شبكة المنبر :: المركز الإسلامي للتبليغ - لبنان Developed by Hadeel.net