الحمد لله الذي جعل الحسين منارةً للهدى وسفينةً للنجاة، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطاهرين، ولا سيّما بقيّة الله في الأرضين، ولعنةُ الله على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
أيّها المؤمنون،
نستقبل في هذه الأيّام أوائلَ شهر محرّم الحرام؛ إذ تدقّ القلوبُ بنبض الحزن والولاء، ونحن نعيش بداية عاشوراء، عاشوراء التي لم تكن لحظةً تاريخيّةً منصرمة، بل صارت وجداناً نابضاً في قلب الأمّة، وصوتاً صارخاً في وجه الظالمين، وموقفاً خالِداً يتكرّر في كلّ عصر، ومع كلّ طاغية ويزيد.
نهضةُ كربلاء: إعلانٌ للكرامة
وقف الإمام الحسين (عليه السلام) في وجه حكمٍ ظالمٍ مستبدّ، ينتهكُ الدين، ويشوّهُ سيرة النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، ويُذِلّ الأمّة؛ ليقول كلمة حقٍّ في وجه سلطانٍ جائر، ليؤسّس بدمه قاعدةً خالدةً للإنسانيّة: أنّ الدين لا يُفصل عن السياسة، وأنّ الصمت أمام الظلم مشاركة فيه، وأنّ الكرامة فوق الحياة نفسها.
لقد كان خروجُ الحسين (عليه السلام) موقفاً واعياً، نابعاً من تشخيصٍ دقيقٍ لحالة الانحراف، وإدراكٍ عميقٍ لخطورة المرحلة؛ ولذا قال (عليه السلام): «وإنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي محمّد (صلّى الله عليه وآله)»[1].
لم يكن الإصلاح شعاراً فضفاضاً عند الإمام الحسين (عليه السلام)، بل كان جوهر حركته. لقد رآه ضرورةً شرعيّةً وأخلاقيّةً أمام مجتمعٍ خضع للاستبداد، وأمام سكوتٍ جماعيٍّ عن الباطل. ومن هنا جاءت صرخته التحذيريّة: «ألا ترَون أنّ الحقَّ لا يُعمَل به، وأنّ الباطلَ لا يُتناهى عنه؛ لِيرغبَ المؤمن في لقاء الله محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً»[2].
وقد عبّر الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) عن هذه الروح الحسينيّة، موضّحاً خطورة الصمت أمام الطغيان: «كان الإمام الحسين (عليه السلام) يعلم أنّه إذا لم يقم بهذا التحرّك، لكان هذا منه إمضاءً وصمتاً وسكوناً، يجرّ على الإسلام ما يجرّ. حينما تُمسِكُ قوّةٌ بجميع إمكانات المجتمعات أو بإمكانات مجتمعٍ واحد، وتنتهج سبيلَ الطغيان وتسير فيه، إذا لم يقف في وجهها رجالُ الحقّ ودعاتُه، ولم يشيروا إلى مواطن الخطأ في مسيرتها، فإنّهم إنّما يُمضون ممارساتِها بفعلهم هذا؛ أي إنّ الظلمَ سينال إمضاءَ أهل الحقّ من دون أن يشاؤوا ذلك»[3].
إنّ منطق الحسين لم يكن مجرّد رفضٍ شعبيّ، بل هو مشروعٌ إصلاحيّ يقوِّم اعوجاج الأمّة، ويُعيد لها هويّتها الرساليّة. إنّه مشروعٌ دائمٌ ما دام الظلم قائماً، وما دامت هناك سلطةٌ تصادر إرادة الناس باسم الدين، وتحت عباءة الخلافة.
الموتُ خيرٌ من ركوبِ العار
لقد خاض الإمام الحسين (عليه السلام) نهضتَه، معلناً أنّ الكرامة والعزّة مبدأ أساس للحياة، وأنّه لا يمكن القَبول بالذلّة، وأنّ الإنسان لا يكون حرّاً إذا قبِل العيش في ظلّ العار وتحت نير الهوان، وهو القائل لقيس بن الأشعث في كربلاء عندما طلب منه أن ينزل على حكم يزيد (لعنه الله): «لا والله، لا أُعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد»[4]؛ فكأنّما كان يرسم للأمّة خطّاً لا يجوز تجاوزه، مهما عظُمَت التضحيات.
إنّ الإمام (عليه السلام) اختار الموت بعزّة على الحياة بذلّة، اقتداءً بسنن الأنبياء (عليهم السلام) وسير أولياء الله، وامتثالاً لأمر الله تعالى الذي قال في كتابه الكريم: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾[5].
لقد كان هذا نهج الإمام الحسين (عليه السلام)، نهجاً يستبطن الرفض لكلّ أشكال الاستسلام للطغاة، وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) عندما قال: «الْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، والْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ»[6]، فالموت الذي يُقْدِم عليه الإنسان وهو واقفٌ بوجه الظلم، مقاومٌ للعدوان، رافضٌ للذلّ، هو الحياة الحقيقيّة؛ لأنّه يعبّر عن حرّيّة الإرادة وعزّة النفس والانتصار للمبادئ.
بل إنّ نهج الإمام الحسين (عليه السلام) قد أحيا بذلك روحيّة مواجهة الظلم وعدم الرضا بالذلّ، كما يعبّر عن ذلك الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)؛ إذ يقول: «لو لم يَثُرِ الإمام الحسين (عليه السلام)، هل كانت لتتبدّل هذه الروحيّة الكسولة والمتهرّبة من المسؤوليّة إلى روحيّة مواجهةٍ للظلم وتحمّل المسؤوليّة؟ ... بعد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) قد أُحييت هذه الروحيّة»[7].
كما يبيّن الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) أنّ تأدية الواجب والتصدّي للفساد وعدم الرضا بالظلم يتوجّه إلى كلّ فرد من المسلمين عبر التاريخ، ولا يتوقّف هذا الأمر على الخوف من الأذى أو الموت، بل يتطلّب الاستعداد لتحمّل أشدّ المحن، فالبقاء على قيد الحياة من دون كرامة أو مقاومة للباطل لا قيمة له: «إنّ ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) إذاً، كانت تأديةً لواجب، وهذا الواجب يتوجّه إلى كلّ فرد من المسلمين عبر التاريخ؛ وهو أنّه على كلّ مسلم لزوم الثورة حال رؤية تفشّي الفساد في جذور المجتمع الإسلاميّ، بحيث يُخاف من تغييرٍ كلّيٍّ في أحكام الإسلام، بالطبع، بشرط أن تكون الظروف مؤاتية، وعُلم بأنّ لهذه الثورة نتيجة، أمّا مسألة البقاء على قيد الحياة وعدم القتل وعدم التعرّض للتعذيب والأذى والمعاناة، فهذه الأمور ليست من الشروط»[8].
عاشوراءُ اليوم: بين الذلّ والمقاومة
إنّ عاشوراء ليست ذكرى تاريخيّة، بل هي موقفٌ مستمرّ. واليوم، في عالمٍ تتسلّط فيه قوى الاستكبار على الشعوب، وتُهدَر فيه الكرامات، ويُحاصَر فيه الأحرار، يكون استحضار عاشوراء استحضاراً لروح المقاومة، واستحضاراً للشعار الحسينيّ العظيم: «هيهات منّا الذلّة»، و«موت في عزّ خيرٌ من حياة في ذلّ»[9].
في هذا العالم المليء بالتطبيع والانبطاح والانحراف، حيث تُمسَخ الهويّات، وتُباع القِيم، ويُحاصر محورُ المقاومة، نقف لنجدّد البيعة لصاحب النهضة، وقد علّمنا الإمام الحسين (عليه السلام) عدم الرضا بالذلّ، وهو الذي أنشأ في يوم شهادته يقول: «الموتُ خيرٌ من ركوبِ العار * والعارُ أولى من دخولِ النار»[10].
لقد شاهدنا في الأيّام الماضية حجم العداء الذي يوجّه ضدّ رموز هذه الأمّة، وعلى رأسهم سماحة الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، في محاولةٍ للنيل من قلعة الثبات والتحدّي؛ لأنّهم يعلمون أنّه حفيد الحسين، وسليل كربلاء، وحامل راية «هيهات منّا الذلّة» في هذا العصر.
ونحن هنا، من منابرنا، نؤكِّد ونردّد ما قاله شهيد الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه): «نحن هنا من لبنان، نقول للعالم كلّه: إنّ إمامنا، وقائدنا، وسيّدنا، وعزيزنا، وحسيننا في هذا الزمان، هو سماحة آية الله العظمى الإمام السيّد عليّ الحسينيّ الخامنئيّ (دام ظلّه)»[11].
الحسين بيننا... والموقف موقفنا
أيّها المؤمنون،
إنّ الحسين ليس مجرّد تاريخ نقرأه، بل هو موقفٌ نتحمّله، وخيارٌ نعيشه. فإذا كنّا من شيعته وأتباعه، وجب علينا أن لا نرضى بالعار، ولا نقبل بالذلّ، ولا نخضع للطغاة.
علينا أن نربّي أبناءنا على أنّ الكرامة أغلى من الحياة، وأنّ الموت من أجل المبادئ أشرف من حياةٍ بلا قِيم.
علينا أن نُعلّم شبابنا أن لا يلينوا أمام الترهيب، ولا يخدعهم الإعلام الكاذب، ولا يُضعِفهم الحصار الاقتصاديّ، ما داموا على درب الحسين (عليه السلام).
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ، وإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ؛ فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً، ولَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وقَدْ جَعَلَكَ اللَّه حُرّاً»[12].
إنّ الإمام (عليه السلام) يضع ميزاناً دقيقاً للكرامة الإنسانيّة، ويؤكّد أنّ الحفاظ على عِزّة النفس وكرامتها مقدَّم على كلّ منفعةٍ دنيويّة، حتّى لو كانت مرغوبة للنفس أو محقّقة لمصلحة ظاهريّة.
فالدنيّة -أي ما فيه خسّة ومذلّة- تُفقد الإنسان جوهره، مهما حقّقت له من مكاسب. وكلّ تنازلٍ عن الكرامة لأجل رغبة مؤقّتة، هو خسارة لا يُعوَّض عنها بثمن؛ لأنّ ما يُبذَل من كرامة لا يُستَردّ.
كما ينهى الإمام (عليه السلام) عن الوقوع في عبوديّة البشر؛ فالحرّيّة التي منحها الله للإنسان ليست حرّيّة الجسد فحسب، بل هي حرّيّة الموقف والإرادة، والحرّ حقّاً هو الذي لا يخضع لتهديد ظالم، ولا يغترّ بمال متسلّط، بل يثبت على الحقّ بكرامة.
وهذا هو عين ما فعله الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، حين رفض الدنيّة، ورفض أن يبيع دينه بحياةٍ تحت الذلّ، وصدح بكلمته الخالدة: «أَلَا وَإِنَّ الدَّعِيَّ بنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ: بَيْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وهيهاتَ مِنّا الذِّلَّة»[13].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج44، ص329.
[2] ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول، ص245.
[3] خطاب الوليّ 2010، ص61.
[4] الطبريّ، تاريخ الطبريّ، ج4، ص323.
[5] سورة آل عمران، الآية 139.
[6] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص89، الخطبة 51.
[7] الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، إنسان بعمر 250 سنة، ص175.
[8] المصدر نفسه، ص174.
[9] ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ص224.
[10] المصدر نفسه.
[11] من كلامٍ له (رضوان الله عليه)، في العاشر من المحرّم 1441هـ.
[12] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص401، الرسالة 31.
[13] السيّد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف، ص59.