الحقُّ موقفٌ وتضحية
الحمد لله الهادي إلى سواء السبيل، الذي أنزل الكتاب هدىً ورحمةً للعالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد خاتم النبيّين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.
أيّها المؤمنون،
نقف اليوم عند ذكرى عظيمة في تاريخ الإسلام، تُجسِّد معنى الثبات على الحقّ، وترسم حدود القِيم والموقف في وجه الباطل، ألا وهي ذكرى المباهلة، تلك الحادثة التي دعا فيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفدَ نصارى نجران إلى المباهلة بعد أن جحدوا الحقّ، برغم وضوحه وما أُقيم عليهم من الحجج والبراهين.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾.[1]
خرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى المباهلة، ومعه أعزّ الناس وأكرمهم على الله: عليّ وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، في مشهدٍ لم يكن رمزيّاً فقط، بل بياناً من السماء، بأنّ هؤلاء هم أهل الحقّ، وأهل الدفاع عنه حين عزّ النصير، الذين تتجلّى فيهم الولاية والطهارة والثبات.
يقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، مُبيّناً هذه الآية: «فإنّ النصارى ادّعَوا أمراً، فأنزل الله عزّ وجلّ فيه: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾؛ فكان نفسي نفسَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والنساء فاطمة (عليها السلام)، والأبناء الحسن والحسين، ثمّ ندم القوم، فسألوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) الإعفاء، فأعفاهم. والذي أنزل التوراة على موسى، والفرقان على محمّد (صلّى الله عليه وآله)، لو باهلونا لمُسِخوا قردةً وخنازير»[2].
وقد اعترف القوم، برغم عنادهم وإصرارهم على عقائدهم، بأنّ وجوهاً كهذه، لو سألت الله أن يُزيح جبلاً لأزاحه، فتراجعوا عن المباهلة.
الموقف الرساليّ في زمن الفتن
لقد كانت حادثة المباهلة إعلاناً بأنّ الحقّ لا يُؤخَذ بالمساومة، بل يُنتصَر له بالموقف. إنّ هذه الحادثة المشرقة، ينبغي أن تُقرَأ كمنهجٍ في مواجهة التحدّيات والمساومات التي تتعرّض لها الأمّة في كلّ زمان.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «قولنا بضرورة التمسّك بالمبادئ والأهداف، ووجوب تحقيق العدالة الاجتماعيّة، ودعم المحرومين، ومساندة المظلومين، ومواجهة الظالمين والمستكبرين وعدم الرضوخ لهم، هي كلّها واجبات ومسؤوليّات إسلاميّة... وكلُّ من يفصل هذه الأمور عن الإسلام، فهو لا يعرف الإسلام»[3].
إنّ هذا التحذير العميق يعبّر عن بوصلة ثابتة في زمنٍ يُراد لنا فيه أن نساوم على ثوابتنا ومبادئنا وأهدافنا، وأن نُخضِع مفاهيم الحقّ والباطل لرغبات القوى المستكبرة وأهل الكفر والطغيان، تارةً باسم التعايش، وأخرى باسم الواقعيّة، وثالثة باسم فقه المصالح، وغيرها...
إنّ المبادئ ليست صيغاً ظرفيّة، بل امتداداً لخطّ النبوّة والإمامة، الذي واجه المساومة منذ اليوم الأوّل. لقد علّمنا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام) أن نثبت في عمليّة المواجهة، وأن نثق بالله تعالى وبوعده، وأن ندافع عن مبادئنا وأهدافنا، فنجعل لعنةَ الله على الكاذبين.
التصدّق في الركوع: ولايةٌ تُثبتها التضحية
أيّها المؤمنون،
في هذا السياق، تمرّ بنا في هذه الأيّام أيضاً مناسبة عظيمة ثانية، لا تقلّ شأناً عن المباهلة، بل هي استمرارٌ لمنطقها، وتجسيدٌ لمعيار الولاية الإلهيّة في الواقع العمليّ، إنّها ذكرى نزول آية الولاية في أمير المؤمنين (عليه السلام)، حين تصدّق بخاتمه وهو راكع، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾[4].
وقد رُوي أنّ عبد الله بن سلام -وكان من علماء اليهود الذين أسلموا- جاء إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يشكو هو وجماعةٌ من أصحابه قطيعةَ قومِهم لهم بعد إسلامهم، فقالوا: إنّ قومنا لمّا رأَونا قد صدَّقْنا الله ورسوله، وتركنا دينَهم، أظهروا لنا العداوة والبغضاء، وأقسموا أن لا يخالطونا ولا يكلّمونا، فشقّ ذلك علينا، فبينا هم يشكون إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، إذ نزلت هذه الآية: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾، فلمّا قرأها عليهم، قالوا: قد رضينا بما رضي الله ورسوله، ورضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين.
لقد أثبتت هذه الآية رابطاً جديداً أقوى من روابط النسب والقوم والعشيرة، هو رابطة الولاية الإلهيّة، المتمثِّلة بالله ورسوله والذين آمنوا.
ثمّ كان المشهد الفاصل الذي كشف مصداق الآية الكريمة، قال الراوي: وأذّن بلال العصر، وخرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، فدخل والناس يصلّون، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد، وإذا مسكين يسأل، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «هل أعطاك أحدٌ شيئاً؟»، فقال: نعم، قال: «ماذا؟» قال: خاتم فضّة، قال: «مَن أعطاك؟»، قال: ذاك الرجل القائم، قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): «على أيِّ حالٍ أعطاكَه؟» قال: أعطانيه وهو راكع، فنظرنا، فإذا هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)[5].
لقد جسّد أمير المؤمنين (عليه السلام) الولاية، لا كسلطةٍ دنيويّة، بل كعطاء وفداء وإيثار، في لحظة العبادة والخشوع والتوجّه إلى الله سبحانه.
إنّ هذه الآية الكريمة وهذا الموقف الخالد، يضعان لنا مقياساً إلهيّاً للقيادة والولاية، لا يقوم على أساس القوّة أو النسب أو المال، بل على العبادة والكرم والتضحية من أجل المستضعفين. وإنّ الولاء لأمير المؤمنين (عليه السلام) ليس شعاراً، بل هو التزامٌ عمليّ بالحقّ، ورفضٌ للسكوت على الظلم، ونصرةٌ دائمةٌ للمحتاجين، في كلّ عصرٍ ومِصر.
بين المباهلة والتصدّق: الحقّ لا يفارق العمل
لعلّ أجمل ما في هاتين المناسبتين، أنّهما ترسمان صورة متكاملة للولاية؛ ففي المباهلة تُعلَن الولاية من خلال الموقف الجريء والواضح والبيِّن أمام الباطل. وفي التصدّق، تُجسَّد الولاية من خلال التضحية والعطاء والإيثار ونصرة المستضعفين في سبيل الله تعالى.
فالرسالة واحدة: الحقُّ لا يكون شعاراً، بل موقفاً وتضحية.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «الترابط الولائيّ الذي يُعدّ ظاهرة سياسيّة واجتماعيّة وموقفاً مصيريّاً في الحياة، يتحقّق بالجهد والحركة والهجرة والعمل المشترك والموقف الموحّد؛ ولهذا لا يكون الوليّ في النظام الإسلاميّ بمعزلٍ عن الأمّة. فالولاية تعني التلاحم والانسجام والترابط، كما تعني في أحد أبعادها المحبّة، وتعني في موضع آخر التآزر والتعاون. وهذه المعاني كلّها تمثّل في الواقع مصاديق للارتباط والتضامن والاتّحاد والوحدة؛ أمّا المعنى الحقيقيّ فهو الاتّحاد والتلاحم»[6].
أسبوع الصدقة: اقتداءٌ بنور الولاية
انطلاقاً من كون المعنى الحقيقيّ للولاية هو الاتّحاد والتلاحم، نفهم أنّ آية التصدّق كانت تجسيداً قرآنيّاً لروح الولاية القائمة على البذل والتراحم، وقد أُعلِن هذا اليوم المبارك بدايةً لأسبوع الصدقة، تأسّياً بنهج أمير المؤمنين (عليه السلام) وهديه، وانطلاقاً من مسؤوليّتنا تجاه الفقراء والمحتاجين، وتأكيداً لولائنا العمليّ والمسلكيّ لأهل البيت (عليهم السلام).
فلنحوِّل هذا الأسبوع إلى حملة تبرّعٍ صادقة، زيارة يتيم أو فقير أو مريض، سدّ دين معسرٍ أو إعانة عائلةٍ كريمة تخجل من السؤال... فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): «إنّ الله خلق خلقاً من رحمته لرحمته برحمته، وهم الذين يقضون الحوائج للناس، فمَن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن»[7].
إنّ الولاية لا تَكمُل إلّا بالفعل، ولا تَتجلّى إلّا بالتكافل، فلنكن كما أراد الله، متلاحمين في الدين، متآزرين في الشدّة، متكافلين في الحاجة، علّنا ننال نصيباً من قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾[8].
والحمد لله ربِّ العالمين
[1] سورة آل عمران، الآية 61.
[2] الشيخ الصدوق، الخصال، ص576.
[3] من كلامٍ له (دام ظلّه) في الذكرى السابعة والعشرين لرحيل الإمام الخمينيّ (قُدِّس سرّه)، بتاريخ 03/06/2016م.
[4] سورة المائدة، الآية 55.
[5] السيّد ابن طاووس، اليقين، ص223.
[6] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 16/04/1998م. الشيخ علي الشيرازيّ، مدخل إلى المنظومة الفكريّة للإمام الخامنئيّ (دام ظلّه)، ص18.
[7] السيّد البروجرديّ، جامع أحاديث الشيعة، ج16، ص116.
[8] سورة البيّنة، الآية 7.