الحمد لله الّذي أكمل لنا ديننا بولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وأتمّ علينا نِعمتَه، وجعلنا من المُتمسِّكين بولايته، والموالين لأوليائه، والمعادين لأعدائه.
نحمده على ما هدانا، ونشكره على ما أولانا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله الطيّبين الطاهرين.
الغدير حقيقة القيادة الإسلاميّة
إنّ عيد الغدير مفصلٌ مصيريٌّ في حركة الرسالة الإسلاميّة، وهو أعظم أعياد المسلمين حرمةً، كما وصفه أهل البيت (عليهم السلام)؛ إذ فيه تُوِّجت الرسالة بإعلان الولاية، واكتمل الدين بإقامة القيادة الإلهيّة بعد النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينً﴾[1].
وقد سُئل الإمام الصادق (عليه السلام): هل للمسلمين عيد غير يوم الجمعة والأضحى والفطر؟ قال: «نعم، أعظمها حرمةً [...] اليوم الذي نصَّب فيه رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) أميرَ المؤمنين (عليه السلام)»[2].
لقد كان الإكمال بتحديدِ مصير الأمّة بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وتنصيبِ مَن يقودها ويحفظ مشروعها. وهناك، عند مفترق غدير خُمّ، صدح نبيّ الرحمة بنداءٍ خالدٍ في أعظم مشهدٍ جماهيريّ عرفه صدر الإسلام: «مَن كنتُ مولاه، فهذا عليٌّ مولاه، اللهمّ والِ مَن والاه، وعادِ مَن عاداه، وانصر مَن نصره، واخذل مَن خذله»[3].
وقد أكّد الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه) أنّ عيد الغدير هو «قضيّة قيادة المجتمع الإسلاميّ، قضيّة نظام الحكم والإمام في المجتمع الإسلاميّ»، وهو «قاعدة الحكومة والاقتدار والسلطة في المجتمع الإسلاميّ»[4]، فلا معنى للإسلام كاملاً بلا ولاية، ولا سبيل لحفظ الدين من التحريف إلّا بإمامةٍ تواصل الهدي، وتقطع الطريق على أهل الفتنة والانحراف.
ولذلك، فإنّ إحياء الغدير اليوم، في زمنٍ كَثُر فيه دعاة الفتنة وشراذم التطبيع، ليس مجرّد احتفال، بل هو تجديدٌ للبيعة مع الحقّ، وتجديدٌ للعهد مع نهج المقاومة والقيادة الإلهيّة التي حفظت لنا الدين والكرامة.
يقول الإمام الخامنئيّ (دام ظلّه): «إبقاء واقعة الغدير حيّة، تعني بمعنى ما إبقاء الإسلام حيّاً»[5]؛ لأنّ الغدير ليس شأناً مذهبيّاً ضيّقاً، بل قضيّة أمّة، وميزان هداية، وبوصلة ولاء.
من هنا، فإنّ الغدير هو منبع الثبات في زمن التحدّيات، فمَن أراد نصرة الدين في هذا الزمن، فعليه أن يُحيي الغدير في قلبه وعقله وموقفه، وأن يتمسّك بولاية الحقّ قولاً وفعلاً، كما حصل في كربلاء، وكما تفعل اليوم بيئة المقاومة على نهج الولاية.
بيعة الغدير التزامٌ ومسؤوليّة
أيّها الأحبّة،
إنّ البيعة في الغدير لم تكن شعاراً، بل موقفاً والتزاماً، واختياراً لطريقِ الحقّ وإنْ كان صعباً. فهل نحن اليوم، في لبنان وفي العالم الإسلاميّ، نجسِّد هذه البيعة في سلوكنا؟ هل نقف مع الحقّ كما وقف أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
إنّ بيعة الغدير اليوم، هي أن نقف في وجه الطغيان والظلم، وأن نرفض كلّ أشكال التطبيع والخضوع، وأن نكون أهل ثبات لا أهل مساومة، وأهل ولاء لا أهل مواربة، وقد ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في خطبة الغدير نفسها قوله: «معاشر الناس، قولوا الذي قلت لكم، وسلّموا على عليٍّ بإمرة المؤمنين، وقولوا: سمعنا وأطعنا، غفرانك ربّنا وإليك المصير»[6].
وإنّ كلامه (صلّى الله عليه وآله) ليس دعوةً للقول فقط، بل هو أمرٌ بإعلان الخضوع والتسليم لخطّ الولاية، وقطعٌ مع كلِّ رايةٍ لا تنطلق من ميزان الحقّ؛ فالولاية ليست ركناً من أركان السياسة أو التاريخ فحسب، بل هي ركن الدين، وهي المِحَكّ الذي به يُعرَف الصادق من المنافق، والثابت من المتلوِّن، وقد ورد عن الإمام الباقر (عليه السلام): «بُني الإسلام على خمس؛ على الصلاة والزكاة والصوم والحجّ والولاية، ولم يُنادَ بشيء كما نُودي بالولاية»[7].
واليوم، حين تقف بيئة المقاومة في وجه الاستكبار العالميّ، وحين ترفض كلَّ أشكال الذلّ والارتهان، فهي تجدّد بيعة الغدير بالفعل والموقف، وتعلن انحيازها لخطّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في وجه كلّ طغيان، تماماً كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «أَلَا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِه، ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِه»[8]، فنحن اليوم نقتدي بخطّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في نصرة المستضعفين، ومواجهة الظالمين، وعدم المساومة على الحقّ.
من هنا، فإنّ بيعة الغدير اليوم، في وجه مشاريع التطبيع والخيانة، هي أن نكون كما قال الإمام الحسين (عليه السلام): «هيهاتَ منّا الذلّة»، وأن نُجسّد هذه البيعة بالصبر والصمود، والولاء الصادق، والالتحاقِ العمليّ بخطّ الولاية.
بيعة الغدير عهدٌ لا ينفصل عن بيعة الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه)
عباد الله،
إنّ بيعتنا لأمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الغدير، هي أيضاً عهدٌ ممتدّ وميثاقٌ دائم، لا ينفصل عن بيعتنا للإمام الحجّة بن الحسن (عجّل الله تعالى فرجه)، الذي سيظهر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً، ويقيم ببركات ولايته حكومة الحقّ الإلهيّ الكبرى على وجه الأرض.
إنّ الثبات على الولاية في زمن الغيبة ليس مجرّد انتظار سلبيّ، بل هو امتحان إلهيّ يُغربَل فيه الناس؛ ومَن ثبت ولم يبدِّل، وصدق في ولائه، فـهو الموعود بالكرامة الإلهيّة الكبرى، ويُبعث في ركاب القائم، أو يُعاد إليه كما في دعاء العهد، وقد روى السنديّ عن جدّه، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول فيمَن مات على هذا الأمر منتظراً له؟ قال: «هو بمنزلة مَن كان مع القائم (عليه السلام) في فسطاطه»، ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: «هو كمَن كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)»[9].
وإنّ الانتظار الحقّ والفعليّ يحتاج إلى صبر وثبات في الشدائد، وقد ربط الإمام الرضا (عليه السلام) انتظار الفرج بالصبر، إذ يقول: «ما أحسن الصبر وانتظار الفرج! أما سمعت قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾[10]، ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾[11]، فعليكم بالصبر، فإنّه إنّما يجيء الفرج على اليأس، فقد كان الذين من قبلكم أصبر منكم»[12].
فبيعة الغدير إذاً، هي أوّل الطريق في مشروع الظهور، والتمسّك بها اليوم، هو تمسّكٌ ببيعة الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه)؛ لأنّ خطّ الولاية واحدٌ متّصل، لا يتجزّأ.
وإنّ المؤمن اليوم الذي يثبت على خطّ الغدير، ويقف مع الحقّ في زمن الفتن، هو المُهيّأُ لأن يُبايع المهديّ (عجّل الله فرجه) غداً، ويكون في أنصاره وخُلّص أصحابه.
«اللَّهُمَّ، فَإِنْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الْمَوْتُ الَّذِي جَعَلْتَهُ عَلَى عِبَادِكَ حَتْماً مَقْضِيّاً، فَأَخْرِجْنِي مِنْ قَبْرِي مُؤْتَزِراً كَفَنِي، شَاهِراً سَيْفِي، مُجَرِّداً قَنَاتِي، مُلَبِّياً دَعْوَةَ الدَّاعِي فِي الْحَاضِرِ وَ الْبَادِي»[13].
اللهمّ، اجعلنا من المتمسِّكين بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام)، الثابتين على عهده، المُضحّين في سبيلك كما ضحّى، والمجاهدين كما جاهد، والمنظرين حقّاً لصاحب الزمان (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء).
[1] سورة المائدة، الآية 3.
[2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج4، ص149.
[3] الشيخ المفيد، الإرشاد، ج1، ص176.
[4] من كلامٍ له (دام ظلّه) بمناسبة عيد الغدير، بتاريخ 20/09/2016م.
[5] من كلامٍ له (دام ظلّه)، بتاريخ 31/10/2012م.
[6] الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج1، ص83.
[7] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص18.
[8] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص417، الكتاب 45.
[9] البرقيّ، المحاسن، ج1، ص173.
[10] سورة هود، الآية 93.
[11] سورة الأعراف، الآية 71.
[12] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص645.
[13] الشيخ الكفعميّ، البلد الأمين والدرع الحصين، ص83.