ملحق

وضع المدينة ومكّة خلال النصف الثاني من القرن الأوّل
ثمّة عاملٌ آخر إلى جانب هذا الرّعب وهو الانحطاط الفكريّ للنّاس، في كلّ أطراف العالم الإسلاميّ وأرجائه، وهو الّذي نشأ من عدم الاهتمام بتعاليم الدّين في مرحلة العشرين سنة التي سبقت واقعة الطف. وفيما بعد هُجر التعليم الدّينيّ وتعليم الإيمان وتفسير الآيات وبيان الحقائق منذ زمن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم - في مرحلة العشرين سنة بعد عام 40 للهجرة وإلى ذاك الوقت - فابتُلي النّاس من ناحية الاعتقاد والأصول الإيمانيّة بالخواء والفراغ. عندما يضع المرء حياة النّاس في ذلك العهد تحت المجهر يتّضح هذا الأمر من خلال التواريخ والروايات المختلفة الموجودة...

حتّى عندما كانوا يريدون هجاء الخليفة كانوا يقولون: "خليفة الله"! وأينما كان الشعراء المعروفون في ذلك الزمان كجرير والفرزدق وكُثيِّر وغيرهم، ومئات الشعراء المعروفين والكبار، عندما يريدون مدح الخليفة كانوا يطلقون عليه لقب "خليفة الله"، لا خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهذا نموذجٌ واحد. لقد ضعُفت عقائد النّاس بهذا الشكل حتّى فيما يتعلّق بأصول الدّين. أمّا أخلاقهم فقد انحطّت بشدّة.

ثمّة نقطة لفتت نظري أثناء مطالعتي لكتاب الأغاني لأبي الفرج، وهي أنّه في الأعوام 70 و80 و90 و100 إلى 150 و160 تقريباً، فإنّ أشهر المغنّين


321


والمطربين واللاعبين والعابثين في العالم الإسلاميّ كانوا في المدينة أو في مكّة، وكلّما كان يضيق صدر الخليفة في الشام شوقاً للغناء، ويطالب بمغنٍّ أو مطرب، كانوا يرسلون له من المدينة أو مكّة أحد المطربين أو المغنّين المعروفين. فأسوأ الشعراء والماجنين كانوا في مكّة والمدينة. فمهبط وحي النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومنشأ الإسلام أضحى مركزاً للفحشاء والفساد. ومن الجيّد أن نعرف هذه الأمور بشأن تاريخ المدينة ومكّة. وللأسف في الآثار الّتي لدينا، لا يوجد مثل هذه الأشياء، وهي أمورٌ واقعيّة حدثت. وأنا هنا أعرض لنموذجٍ من رواج الفساد والفحشاء.

كان في مكّة شاعرٌ يُدعى عمر بن أبي ربيعة، وهو من شعراء الإباحيّة والمجون، وقد مات في أوج عطائه وفنّه الشعريّ. ولو أردنا ذكر قصص هذا الشاعر وماذا كان يفعل في مكّة لاحتاج الأمر إلى فصلٍ مشبّعٍ بالتاريخ المؤسف لذلك العصر، في مكّة والطواف ورمي الجمرات. وهذان البيتان مذكوران في كتاب المغني:
"بدا لي منها مِعصَمٌ حينما جَمَّرت     وكفٌّ خضيبٌ زُيّنت ببنان"1
"فوالله ما أدري وإن كنت دارياً        بسبعٍ رميتُ الجمر أم بثمانيِ"

وعندما مات عمر بن أبي ربيعة، ينقل الراوي أنّه أقيم في المدينة عزاءٌ عامّ وكان النّاس يبكون في أزقّة المدينة. ويقول: إنّني أينما ذهبت كنت أجد مجموعة من الشباب، نساءً ورجالاً، واقفين ويبكون عمر بن أبي ربيعة في مكّة، فشاهدت جارية تسعى في عملها وتحمل سطلاً لتُحضر الماء، وكانت دموعها تنهمر على خدّيها بكاءً على عمر بن أبي ربيعة غمّاً وأسفاً,


322


وعندما وصلت إلى مجموعة من الشباب سألوها: لماذا تبكين لهذا الحدّ؟ فقالت: لأنّ هذا الرجل قد مات وخسرناه، فقال لها أحدهم: لا تحزني هناك شاعرٌ آخر في المدينة هو خالد المخزوميّ، والّذي كان لمدّةٍ حاكماً على مكّة من قِبَل علماء الشام، وقد كان من شعراء الإباحيّة والمجون أيضاً، كعمر بن أبي ربيعة، فذكروا لها ذاك البيت وأرادوا أن يذكروا لها بعض الأبيات الشعريّة لهذا الشاعر، فاستمعت هذه الجارية قليلاً- وقد ذُكر في "الأغاني" هذا الشعر وخصائصه، فمسحت دموعها وقالت: "الحمد الله الّذي لم يخلِ حرمه". فإذا فُقد شاعرٌ جاء آخر، هذا نموذج من الوضع الأخلاقيّ لأهل المدينة.

والقصص كثيرة عن سهرات مكّة والمدينة. ولم تكن المسألة منحصرة بالأفراد المنحطّين، بل شملت الجميع في المدينة، بدءاً من ذاك المتسوّل المسكين أشعب الطمّاع المعروف الّذي كان شاعراً ومهرّجاً، ومروراً بالأفراد العاديّين وأبناء السوق وأمثال هذه الجارية إلى الشخصيّات المعروفة من قريش وحتّى بني هاشم- لا أذكر أسماء من الشخصيّات المعروفة لوجهاء قريش نساءً ورجالاً- كانوا من هؤلاء الذين غرقوا في هذه الفحشاء.

وفي زمن إمارة هذا الشاعر المخزوميّ، جاءت عائشة بنت طلحة وكانت تطوف، وكان يحبّها، وعندما حان وقت الأذان أرسلت هذه المرأة رسالةً أن لا تؤذّنوا حتّى أنهي طوافي، فأُمر بعدم رفع أذان العصر! فقيل له: أنت تؤخّر الأذان من أجل شخصٍ واحد وامرأة تطوف: أوَتؤخّر صلاة النّاس؟! فقال: واللهِ لو أنّ طوافها بقي إلى الصبح لقلت لهم أن يؤخّروا الأذان إلى الصبح! هذا كان حال ذلك الزمن2.


323


هوامش

1- مغنى اللبيب، ص20.
2- من كلمة في 28/4/1365- 19/6/1986 م.
     
السابق الصفحة الرئيسة التالي