بسم الله الرحمن الرحيم
انّ ما مرّ بيانه إلى الآن، هو حجيّة كلام المعصومين عليهم السلام في تفسير آيات القرآن، والآن
يجب أن يبحث في حجيّة كلام المعصومين في «المعارف العقائديّة» و«الأحكام العمليّة»
(وليس خصوص تفسير النصوص المقدّسة كالقرآن).
انّ مسائل الدين يمكن تقسيمها ـ من إحدى الجهات ـ إلى قسمين: «المعارف
العقائديّة» و«الأحكام العمليّة».
وفي الأحكام العمليّة ـ حيث مجال التعبّد والعمل ـ فإنّه بالإضافة إلى القطع
والإطمئنان يكون الظنّ الخاصّ نافعاً ومجدياً.
وعلى هذا فإنّ كلام المعصومين عليهم السلام حتّى إذا كان على نحو الخبر الواحد ولم يكن
محفوفاً بالقرائن المورثة للقطع، فهو حجّة تعبّديّة في المسائل العمليّة والفرعيّة
سواء كان في مجال الأحكام الإلزاميّة (الوجوب والحرمة) أو كان في الأحكام غير
الإلزاميّة (الإستحباب والكراهة).
وقد تمّ بيان هذا الأمر جيّداً في علم اُصول الفقه، وأمّا الّذي يتمّ بحثه هنا فهو
حجيّة كلام المعصومين عليهم السلام في مضمار المعارف العقائديّة حيث انّ الظن فيها لا إعتبار له
وهو غير صالح للتعبّد، بل يجب الحصول على القطع واليقين فيها كي تطمئنّ النفس
إليها وتتقبّلها.
والقرآن الكريم كما مرّ هو الأساس الأوّل في تبيين معارف الدين وكما وصفه حديث
الثقلين الشريف فإنّه (الثقل الأكبر) وهو الميزان الإلٰهيّ لتقييم مضامين الأحاديث
غير القطعيّة للمعصومين.
امّا كلام المعصومين في مجال المعارف العقائديّة فهو على قسمين:
1. الروايات الّتي تتّصف بالجزم واليقين في أركانها الثلاثة، أي انّها قطعيّة في
«أصل الصدور» و«جهة الصدور» و«الدلالة على المضمون»، يعني انّ الرواية من ناحية
السند خبر متواتر أو خبر واحد محفوف بالقرينة القطعيّة، ومن ناحية جهة الصدور أيضاً
نعلم قطعاً انّ الكلام صادر لغرض بيان المعارف الواقعيّة ولم يصدر عن تقيّة، ومن
جهة الدلالة أيضاً فالرواية نصّ، لا ظاهر. ومثل هذه الروايات على الرغم من قلّتها،
لكن لانّها مفيدة لليقين فهي مؤثّرة ومفيدة وحجّة في إثبات معارف الدين ويمكن
الإستعانة بها في إثبات المسائل الاُصوليّة.[1] فإذا كان هناك شخص في مجلس الإمام
المعصوم ولم تكن هناك تقيّة في ذلك الموقف وكان المعصوم بصدد بيان الواقع، ففي مثل
هذا المورد يمكن جعل كلام المعصوم حدّاً وسطاً في البرهان والوصول منه إلى اليقين،
ومثل هذه الأدلّة النقليّة لاتختلف عن البراهين العقليّة الاّ في الإجمال والتفصيل.
2. الروايات والأدلّة النقليّة الفاقدة لليقين في أركانها الثلاثة وبالنتيجة هي غير
مفيدة لليقين، بل تفيد الظنّ فقط إنّما هي ناظرة إلى ثلاثة أقسام:
أ. معارف اُصول الدين، كأصل التوحيد والنبوّة والمعاد وأصل وجود الجنّة والنار. وفي
مثل هذه المعارف الّتي هي من اُصول الدين والإعتقاد بها ضروريّ ويشترط فيه اليقين
والجزم لايمكن الظفر باليقين عن طريق الأدلّة النقليّة الظنيّة، ولذلك فإنّ مثل هذه
الأدلّة النقليّة ليست حجّة في هذا القسم.
ب. المعارف الّتي ليست من اُصول الدين حتّى يكون الإعتقاد التفصيليّ بها ضروريّاً
بل انّ الإيمان الإجماليّ بها كاف ومؤثّر، كما في حقيقة العرش والكرسي واللوح
والقلم والملائكة. وفي هذا القسم يمكن أن يكتفي الإنسان بالعلم الإجماليّ واليقين
المجمل لا التفصيلي. وعليه فيمكن الإكتفاء في هذه الموارد بالإيمان الإجماليّ وقبول
مفاد الروايات الظنّية على مستوى الإحتمال.
ج. المعارف الّتي لا هي من اُصول الدين ولا هي من القسم الثاني، بل هي مبيّنة
للقضايا العلميّة والآيات الإلٰهيّة في الخلق، كالروايات الّتي تحدّثت عن انّ
السماوات والأرض كانتا في بداية الخلق «رتقاً» ومغلقة، وبعد ذلك حدث (الفتق)
وفُتحت.[2] والأخبار والروايات المبيّنة لهذا القسم من المعارف لا توجد فيها ثمرة
عمليّة ولا يعتبر فيها الجزم العلميّ، وفي هذا القسم أيضاً فإنّ الروايات غير
القطعيّة صالحة للقبول على مستوى الإحتمال، ولكنّها ليست حجّة تعبّدية، وذلك لأنّ
أدلّة حجيّة الخبر الواحد تتعلّق بالمسائل العمليّة والتعبديّة، وأمّا في المسائل
العلميّة فإنّه لايمكن تعبّد أحد بالعلم مالم تحصل مبادئه التصديقيّة.
تنويه:
1. انّ النصوص الدينيّة الأعمّ من القرآن والحديث تتكلّم حول السماوات والأرض
والكواكب الاُخرى وما يستنبط من مضامينها بنحو ظنّي يمكن إسناده إلى الدين
بمستوى الظنّ لا أكثر، وعند حدوث تغيير في النظريّة العلميّة، فإنّه يمكن أيضاً
إعادة النظر في الإستنباط من النصوص الدينيّة. وتغيّر المسائل الطبيعيّة المستفادة
من الأدلّة النقليّة شبيه بتغيّر المسائل الشرعيّة المستنبطة منها وليس بينهما
اختلاف من هذه الجهة، ولا يلزم الوهن أيضاً من ذلك لكن لو اسندنا في المسائل
العلميّة مضامين الروايات غير القطعيّة كأخبار الآحاد إلى الدين بنحو قطعيّ وجعلنا
بعض الفرضيّات والنظريّات العلميّة الموجودة في حساب الدين وطبّقناه عليها، فحينئذٍ
عند تغيير النظريّة والفرضيّة باُخرى يلزم الوهن في الدين عند أصحاب النظر، كما
قامت بذلك فئة عندما فرضت نتائج الهيئة البطلميوسيّة على القرآن فأوقعوا أنفسهم في
وضع غير مقبول.[3]
2. إذا سُمِع الموضوع من نفس المعصوم عليه السلام ولم يكن هناك فيه أيّ احتمال للخلاف
كالتقيّة، فإنّ هذا السماع يدخل في دائرة السُنّة القطعيّة وهو معادل للبرهان
العقليّ ومفيد للقطع في المسائل العلميّة والعمليّة، وإذا وصلنا موضوع عن طريق راوي
الحديث، وأفادت الشواهد والقرائن الداخليّة والخارجيّة حصول القطع به: فهو أيضاً
مفيد في جميع المسائل العلميّة والعمليّة.
[1] . بإستثناء أصل إثبات المبدأ الّذي لا يثبت إلاّ عن طرق الدليل العقليّ، ولا
يثبت بالدليل النقلي وحده، بل هو غير قابل للإثبات حتّى بالمعجزة أيضاً، لأنّ
المعجزة من أجل تثبيت (الدعوى) لا لإثبات صحّة (الدعوة) إلى أصل المبدأ. فمضمون
الدعوة في المقدار الّذي يتعلّق بإثبات أصل المبدأ لايثبت إلاّ عن الطريق العقليّ
وحده، وماعدا ذلك حتّى المسائل المتعلّقة بالتوحيد يمكن الإعتماد فيها على كلام
المعصوم عليه السلام .
[2] . سورة الأنبياء، الآية 30.
[3] . انّ ما جاء من القدماء حول معرفة الفلك والفضاء له طابع رياضي، لا طبيعي،
يعني انّ هناك مدارات كانوا يصوّرونها لحركة المنظومة الشمسيّة لكي يفسّروا النظم
الحاكم في الحركات والمتحرّكات. وشيئاً فشيئاً وجدت بين القدماء نزعة طبيعيّة
فتوّهموا للكواكب السماويّة أفلاكاً وأجساماً طبيعيّة وبعدها دخلوا في بحث لوازمها
من قبيل الخرق والإلتيام وصارت موضوعاً للنقاش والمناظرة. ثمّ جاء دور المتأخّرين
الّذين قوي عندهم نظر القدماء ومالوا إلى القول باتّصاف المنظومة الشمسيّة بالجانب
الرياضي لا الطبيعي.