المحاضرة الثانية: الدفاع عن المقدسات

الهدف:
بيان المقدّسات في الإسلام, وأهمّية الحفاظ عليها ومشروعيّة القتال والشهادة دونها.

تصدير الموضوع:

قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ1.


207


مقدّمة: معنى القداسة:
من أسماء الله تعالى القدّوس حيث جاء ذلك في سورة الجمعة: ﴿
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ2.

ومعنى أنّه قدّوس أي أنّه منزّه عن كلّ نقص وحاجة, فهو كمال مطلق لا يعتريه عيب ولا تمسه حاجة.

وبالتالي فإنّ معنى القداسة يرجع إلى كون المتّصف بها حائزاً على لون من ألوان الكمال والنزاهة والشرف والنبل.

ولمّا كان بعض مخلوقات الله ممّن تحلّت في ذواتهم هذه الصفات أو بعض لوازمها أو كانوا على درجة عالية من الاتصال بالله الذي هو مبدأ القداسة فإنّهم كانوا مقدّسين سواء كانوا ملائكة أو غير ذلك، أو بشراً أو أمكنة ﴿ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ3.

وفي الحقيقة إنّ القداسة التي يتّصف بها هؤلاء من المخلوقات هي مفاضة من القدّوس منزّلة عليهم وفيهم ومحتومة إليهم، لكن أفضل المقدّسين يبقى الذين كان تحلّيهم بها ناتج عن اختيارهم، وسيرهم في طريق التكامل اختياراً والطاعة للباري عزَّ وجلّ عن اختيار فتقدّست ذواتهم بنزاهتهم فنجحوا في بلوغ


208


مقامات القرب من القدّوس ليكونوا أولياءه محلّاً تنعكس فيهم تلك القداسة.

ولأنّ هذا الأمر كان عن اختيار يرقى ابن آدم ليكون أعلى درجة من الملائكة أنفسهم فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "إنّ الله عزَّ وجلّ ركّب في الملائكة عقلاً بلا شهوة وركّب في البهائم شهوة بلا عقل, وركّب في بني آدم كلتيهما, فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة, ومن غلب شهوته عقله فهو شرّ من البهائم"4.

محاور الموضوع
من هم المقدّسون؟

من ما سبق يتّضح أنّ القداسة هي التنزّه من العيوب والنقائص, ومعنى أن يقدّسه الله يعني أن ينسبه إليه بنسبة ما وينحله صفة من صفاته, ومنها البركة ليكون في وجوده نفع للنّاس بل للخلق, وعليه فمن المقدّسات الكعبة المشرّفة الذي قال عنه تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا...5.

بل إنّ كلّ مسجد بني لله مقدّس فهو بيته ومحلّ البركة:


209


"أوحى الله إلى داوود, يا داوود, إنّ بيوتي في الأرض المساجد, فطوبى لمن تطهّر في بيته وزارني في بيتي..."6.

ولذا كان للمساجد حرمة وآداب...

ومن المقدّسات: كتب الله المنزلة لهداية النّاس ويأتي في طليعتها وهو أعظمها القرآن الكريم: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ7, وتجلّيات قداسته أنّه محفوظ لا يأتيه باطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن أحكام تلك القداسة حرمة تدنيسه بل أكثر: ﴿لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ8.

ومن المقدّسين الملائكة حيث سمّى بعضهم "الروح القدس".

ومن المقدّسين من البشر الأنبياء ومن هؤلاء الأنبياء عيسى عليه السلام حيث كان نافعاً للنّاس وتكفي لمسة من يده للشفاء من الداء العضال, بل حتّى لإحياء الموتى قال تعالى عن لسانه عليه السلام: ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ9.

ويأتي في طليعة المقدّسين النبيّ الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان نفس وجوده وإرساله رحمة لجميع عوالم الوجود: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ10.


210


فرفع عن النّاس عذاب الاستئصال، وكان أماناً من نزول العقاب الإلهيّ: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ11.

وكذلك فإنّ من توابع بركته وقداسته أهل بيته الذين طهّرهم الله: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا12.

لا لأنّهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, بل لأنّهم جسّدوا أكمل مراتب التصديق بما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم واتّبعوا خطواته في سيرهم الاختياريّ نحوه تعالى فقبلهم ربّهم ورفع لهم الدرجات وجعل مودّتهم أجراً على خدمة خاتم رسله للبشريّة.

واجباتنا اتّجاه المقدّسات:

إنّ من أوائل واجباتنا اتّجاه هذه المقدّسات تفترض احترامها بما يلائمها وبحسبها وتبجيلها, وكذلك عدم تعريضها للتدنيس والإهانة والاعتداء والإيذاء, وعندما يكون المقدّس من الأولياء فإنّ التكاليف تتسع لتشمل تصديقهم وطاعتهم وموالاتهم وموالاة وليّهم ومعاداة عدوّهم والتصديق بمقاماتهم والإقتداء بهم سلوكاً وسمتاً، ومنها أن نقبل منهم ما يأتوننا به عن الله تعالى, وأن لا نتقّدم عليهم ولا نتأخّر عنهم، وأن نظهر مودّتنا لهم بالزيارة لمشاهدهم وإحياء أمرهم وذكرهم وتعظيم شأنهم ونشر فضائلهم وإكرام وليّهم.


211


الدفاع عن المقدّسات:
ومن أهمّ الواجبات اتّجاه المقدّسات هو الدفاع عنها بما تقتضيه عمليّة الدفاع وبحسب نوع الخطر المتوجّه إلى هذه المقدّسات, فتارةً بالفكر والقلم والكتابة, وأخرى بالفنّ والإعلام, وثالثة بالقتال والجهاد وغير ذلك من المجالات والميادين. وبالعودة إلى كتاب الله فإنّنا نقرأ قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ13.

حيث بيّن فيها أصل مشروعيّة الجهاد ومبرّراته قال بعدها: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ14. منتقّلاً لبيان وفلسفة تشريع الجهاد المأذون به على طول مسيرة الأديان السماويّة وبه حفظت بيوت عبادة اليهود والنصارى وبه تحفظ بيوت عبادة المسلمين, بل به تحفظ نفس العبادة، فمن الحكم المترتّبة على تشريع القتال حفظ المقدّسات وصونها، وهذا يعني بصورة عكسيّة لو أنّ أرباب الشرائع وخصوصاً المسلمين تكاسلوا عن النهوض لمواجهة المعتدين الخارجيّين أو الطغاة والظالمين الداخليّين فإنّ هذا سيغري هؤلاء ليندفعوا في طغيانهم لينالوا من المقدّسات,


212


إذ سيجدون الطرق مشرّعة منزوعة العوائق والروادع لتدنيس المقدّسات أو بتحوير دورها وتحريفها لتخدم سلطانهم وسيعمدون حينها لتهديم وإزالة كلّ ما يرونه تهديداً لسلطانهم ممّا يكون محلّاً لتعبئة طاقات النّاس وشحذ هممهم في مواجهة الظالم ومجابهة الكفر, ويكون ساحة للتوعية وهذا لا يختصّ بأماكن العبادة بل يشمل أولياء الله وعلماء الأمّة وأحرارها.

إذن فقيام المؤمنين بجهاد الأعداء وامتثال الأمر الإلهيّ يحفظ المقدّسات، فكيف لو كانت المقدّسات نفسها هي المعرّضة للخطر وهي هدف الأعداء والطغاة فمن باب أولى أن تهبّ الأمّة لجهاد أعدائها ومواجهة ظلّامها، وأن تبذل الغالي والنفيس في سبيل حماية تلك المقدّسات.

خاتمة:

في كربلاء مشاهد من مصاديق الجهاد لحفظ المقدّسات، فالحسين عليه السلام رأى أنّ الإسلام نفسه بخطر إذا تولّى طاغية مثل يزيد الحكم: "على الإسلام السلام إذ قد بليت الأمّة براعٍ مثل يزيد"15.

فخرج ثائراً وخرج لنصرته من رأوا رأيه, إضافة إلى أن نفس وليّ الله خامس أهل الكساء سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في معرض الخطر


213


فجادوا بأنفسهم عن نفسه وقدّموا أرواحهم قرابين في ساحات الوغى ولسان حال الكلّ نفوسنا دون نفسك يا ابن رسول الله.

فعندما يتعرّض مقدّس كوليّ الله ترخص التضحيات مهما غلت لإجابة ندائه: "هل من ناصر ينصرنا...".

ونحن على خطى أصحاب الحسين عليه السلام نقدّم أنفسنا ذوداً عن المقدّسات ولن يكون شهداؤنا شهداء الدفاع عن المقدّسات بإذن الله تعالى إلّا أسوة بمن وفى للحسين عليه السلام يوم العاشر من المحرّم.


214


هوامش
1- سورة الحجّ, الآيتان: 39 - 40.
2- سورة الجمعة, الآية: 1.
3- سورة المائدة,الآية: 21
4- بحار الأنوار, ج 57 ص 299.
5- سورة آل عمران, الآية: 96.
6- علل الشرائع, الصدوق, ج 2 ص 318.
7- سورة ص, الآية: 29.
8- سورة الواقعة, الآية: 79.
9- سورة مريم, الآية: 31.
10- سورة الأنبياء, الآية: 107.
11- سورة الأنفال, الآية: 33.
12- سورة الأحزاب, الآية: 33.
13-سورة الحجّ, الآية: 39.
14- سورة الحجّ, الآية:40.
15- مثير الأحزان, ابن نما الحلّي, ص 15.