المحاضرة الثالثة: مكانة البصيرة عند المؤمن

الهدف:
حثّ الناس على التحلّي بهذه الصفة الجليلة, لما لها من المكانة في المنظومة الإسلاميّة.

تصدير الموضوع:
يقول تعالى:
﴿قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ1.


67


المقدّمة
البصيرة هي البيّنة، والدلالة التي يبصر بها الشيء على ما هو به2. وقيل إنّ البصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين. فالبصيرة هي الإدارك والفهم، هي الرؤية الذهنيّة والعقليّة.
فالبصيرة هي قوّة ونور يدرك الإنسان من خلالها الحقائق والدلائل، ويهتدي بهذا النور إلى الحقّ تعالى, وهذا المعنى نجده في جواب أمير المؤمنين عليه السلام للحبر عندما سأله: يا أمير المؤمنين، هل رأيت ربّك حين عبدته؟ فقال: "ويلك، ما كنت أعبد ربّاً لم أره!", قال: وكيف رأيته؟ قال: "ويلك، لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان"3.

وأعمى القلب هو من فقد بصيرته، وغلب الوهم عنده على العقل، فمهما كثر عمله وفعله، فإنّه كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءً, فالوعي والبصيرة من صفات المؤمن الأساسيّة.

محاور الموضوع
1- من هو البصير؟

عن الإمام عليّ عليه السلام: "فإنّما البصير من سمع فتفكّر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعِبَر، ثمّ سلك جَدَداً واضحاً يتجنّب


68


فيه الصرعة في المهاوي، والضلال في المغاوي، ولا يعين على نفسه الغُوَاة بتعسّف في حقّ، أو تحريف في نطق، أو تخوّف من صدق"4.

2- مسبّبات البصيرة

التفقّه في الدّين: عن الإمام الكاظم عليه السلام: "تفقّهوا في دين الله, فإنّ الفقه مفتاح البصيرة وتمام العبادة والسبب إلى المنازل الرفيعة والرتب الجليلة في الدّين والدنيا"5.
القرآن الكريم:
﴿قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ6.

3- ما يفقد البصيرة

عشق الشهوات: عن الإمام عليّ عليه السلام: "ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه, فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذنٍ غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه".

حبّ الدنيا: عن الإمام عليّ عليه السلام: "لحبّ الدنيا صمّت الأسماع عن سماع الحكمة، وعميت القلوب عن نور البصيرة"7.


69


4- الأعمى أعمى البصيرة لا البصر
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ليس الأعمى من يعمى بصره، إنّما الأعمى من تعمى بصيرته"8.

5- البصيرة من مكارم الأخلاق

عن العالم9عليه السلام: "إنّ الله جلّ جلاله خصّ رسله بمكارم الأخلاق, فامتحنوا أنفسكم، فإنْ كانت فيكم فاحمدوا الله، وإلاّ فاسألوه وارغبوا إليه فيها". قال: وذكرها عشرة: "اليقين والقناعة والبصيرة والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والغيرة والمروة"10.

6- شيعتنا أصحاب بصيرة

عن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّما شيعتنا أصحاب الأربعة الأعين: عينان في الرأس، وعينان في القلب، ألا والخلائق كلّهم كذلك، إلّا أنّ الله عزَّ وجلّ فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم"11.

7- العمل القليل أفضل من العمل الكثير

عن الإمام الصادق عليه السلام: "واعلم أنّ العمل الدائم القليل


70


على اليقين والبصيرة، أفضل عند الله من العمل الكثير على غير اليقين والجهل"12.

8- عمل بلا بصيرة بُعْدٌ عن الطريق

عن الإمام الصادق عليه السلام: "العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق، ولا يزيده سرعة السير من الطريق إلّا بعدا"13.

9- قصّة وعبرة

من أبرز مصاديق فقدان البصيرة والوعي هم الخوراج، الذين خرجوا على أمير المؤمنين عليه السلام، ورفعوا شعار: "لا حكم إلّا لله". وفيما يأتي حادثة لنموذج من هؤلاء:
خرج أمير المؤمنين عليه السلام ذات ليلة من مسجد الكوفة متوجّهاً إلى داره، وقد مضى ربع من الليل، ومعه كميل بن زياد، وكان من خيار شيعته ومحبّيه، فوصل في الطريق إلى باب رجل يتلو القرآن في ذلك الوقت، ويقرأ قوله تعالى:
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ، بصوت شجي حزين، فاستحسن ذلك كميل في باطنه وأعجبه حال الرجل، من غير أن يقول شيئاً، فالتفت إليه عليه السلام، وقال: "يا كميل، لا


71


تعجبك طنطنة الرجل، إنّه من أهل النّار، وسأنبّئك فيما بعد"، فتحيّر كميل لمشافهته له على ما في باطنه وشهادته للرجل بالنّار، مع كونه في هذا الأمر وفي تلك الحالة الحسنة ظاهراً في ذلك الوقت، فسكت كميل متعجّباً متفكّراً في ذلك الأمر، ومضى مدّة متطاولة إلى أن آل حال الخوارج إلى ما آل، وقاتلهم أمير المؤمنين عليه السلام، وكانوا يحفظون القرآن كما أنزل، والتفت أمير المؤمنين إلى كميل بن زياد وهو واقف بين يديه، والسيف في يده يقطر دماً، ورؤوس أولئك الكفرة الفجرة محلّقة على الأرض، فوضع رأس السيف من رأس تلك الرؤوس، وقال: يا كميل، أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً، أي هو ذلك الشخص الذي كان يقرأ في تلك الليلة، فأعجبك حاله, فقبّل كميل مقدّم قدميه، واستغفر الله14.

10- البصيرة في كربلاء

ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في حقّ عمّه العبّاس عليه السلام، قال: "كان عمّنا العبّاس بن عليّ نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبد الله عليه السلام، وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيدا"15.

وقد تجسّد نفاذ هذه البصيرة في مواقف عديدة في كربلاء مع


72


العبّاس عليه السلام، فقد ورد أنّ الشمر قدِم حتّى وقف على أصحاب الحسين عليه السلام، فقال: أين بنو أختنا؟ فخرج إليه العبّاس وجعفر وعثمان بنو عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، فقالوا: ما تريد؟ فقال: أنتم يا بني أختي آمنون، فقالت له الفتية: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا، وابن رسول الله لا أمان له16؟!


73


هوامش

1- سورة الأنعام الآية 104.
2- مجمع البيان ج 4 ص 129.
3- أنظر: أصول الكافي ج 1 ص 98.
4- نهج البلاغة ج 2 ص 42.
5- تحف العقول ص 410.
6- سورة الأنعام الآية 104.
7- ميزان الحكمة ج 2 ص 898.
8- م.ن، ج 1 ص 266.
9- الإمام الكاظم عليه السلام.
10- فقه الرضا عليه السلام ص 353.
11- فروع الكافي ج 8 ص 215.
12- فقه الرضا عليه السلام ص 356.
13- أصول الكافي ج 1 ص 43.
14- إرشاد القلوب ج 2 ص 226.
15- مقتل الحسين عليه السلام ص 176.
16- الإرشاد ج 3 ص 89.