المحاضرة الثانية: العفاف وآثاره: زينب عليها السلام المخدّرة نموذجاً

الهدف:
حثّ المجتمع على التحلّي بهذه الصفة الجليلة.

تصدير الموضوع:

يقول تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا1.


235


المقدّمة:
إنّ العفّة تُعدّ واحدة من أمّهات الفضائل الأخلاقيّة الأربع (العفّة، الشجاعة، الحكمة، والعدالة)2، وتبنى عليها الحياة الإنسانيّة والاجتماعيّة، لذا كان لهذه الفضيلة الأخلاقيّة آثار جليلة تنعكس على الشخصيّة الإنسانيّة في الدنيا والآخرة.

محاور الموضوع
1- مفهوم العفّة:

جاء في اللغة عن ابن منظور أنّها "الكفّ عمّا لا يحلّ ويَجمُلُ، عفّ عن المحارم والأطماع الدنيّة يعِفُّ عِفّة وعفَّا وعفافاً فهو عفيف، وعفّ أي كفّ"3.
أمّا في الاصطلاح: فقد عرّفها النراقيّ بأنّها "انقياد القوّة الشهويّة للعاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه حتّى تكتسب الحريّة وتتخلّص من أسر عبوديّة الهوى"4.
وهي من الصفات الممدوحة لدى الناس، وأغلب الأخبار والروايات تُشير إلى عفّة البطن والفرج، وكفّهما عن مشتهياتهما المحرّمة، وهما من أفضل العبادات، وقد ورد عن الإمام أبي


236


جعفر عليه السلام: "إنّ أفضل العبادة عفّة البطن والفرج"5.

2- عوامل تنمية العفّة:

• الزواج: جعِل الزواج وسيلة لتهذيب هذه الشهوة وإشباعها، وقد جُعِلت شهوة الجنس في الإنسان من أجل: حفظ النسل البشريّ واستمراره، ولولا ذلك لما أقدم الإنسان على الزواج، ولما تحمّل العديد من المشاكل والصعوبات المترتّبة على وجود الولد والذريّة. ولهذا حثّ الإسلام على الزواج, وإليه أشار القرآن الكريم بقوله تعالى:
﴿وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ6، ويُقصد بالأيامى هنا العزّاب أي من لا أزواج لهم. وقد جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "إذا تزوّج العبد فقد استكمل نصف الدِّين فليتقّ الله في النصف الباقي"7.

• غضُّ البصر: أولى الله تعالى غضّ البصر أهميّة خاصّة بغية إرساء وبناء قواعد متينة لتأسيس مجتمع عفيف، ولهذا نرى أنّه فصّل في الخطاب بين الذكر والأنثى عندما أمر بغضِّ
البصر، للدلالة والإشارة إلى أهميّة الغضِّ ولما يتركه من آثار إيجابيّة على بناء النفس والمجتمع. والتكليف موجّه لكلٍّ


237


من الرجل والمرأة على السواء، وقد بدأ توجيه الخطاب إلى الرجال قبل النساء تأكيداً منه على الدور والمسؤوليّة الواقعة على عاتقهم وكأنّ بناء المجتمع العفيف يبدأ من غضِّ بصر الرجال أوّلاً, يقول تعالى في خطابهم ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ8، ثمّ أردف تعالى بعدها مباشرة الخطاب الخاصّ بالنساء مشيراً إلى نفس الحكم ومضيفاً إليه أموراً أخرى تتعلّق بالمرأة: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ9.

ج- اجتناب مثيرات الشهوة وهي عديدة نذكر منها:

• وسائل الإعلام: الّتي تبثّ البرامج غير المحتشمة سواء كانت على شاشة التلفاز أم الإنترنت، وكذا الفضائيّات


238


السامّة الّتي غزت المنازل والنفوس وعشّشت في القلوب الشابّة كالمسلسلات المدبلجة. فعلى الإنسان اجتناب هذه الوسائل أو تنظيمها بحيث تكون تحت رقابة ممنهجة بغية الاستفادة من البرامج المفيدة منها.

• التفريق في المضاجع أثناء المبيت: إنّ لهذا الموضوع أثراً مهمّاً على الحياة الجنسيّة لكلٍّ من الذكر والأنثى، حيث يعتبر ذهن الطفل بمثابة لاقط لكلِّ الصور والمشاهد الّتي تمرّ عليه في بداية عمره. وقد أمر الشرع المقدّس بالتفريق في المضاجع بين الذكور والإناث لأجل أن ينشؤوا نشأة عفيفة محتشمة بعيدة عن كلّ موجبات الإثارة وتحريك الشهوات الباطنيّة.

• الأكل المتوازن: من المهمّ الالتفات إلى نوع الأكل الّذي يتناوله الإنسان نفسه، وأن يُحاول الالتزام بنظام غذائيّ محدّد ومنظّم، فإنّ بعض الأطعمة من شأنها تهييج القدرة الجنسيّة
وتأجيجها فعليه تجنّب هذه الأطعمة ممّا هو مذكور في محلِّه.

• التقيُّد بالالتزام بالحجاب: الستر الشرعيّ وترك الزينة أمام الأجانب ممّا لا شكّ فيه أن التعرّي والتزيّن من شأنهما تحريك الغريزة الجنسيّة، بحيث ينجرّ إليها الشباب، ولهذا جاء الأمر
الإلهيّ بوجوب ستر المرأة لكامل بدنها وتركها للزينة بالخصوص كونها عنصر إثارة للرجل. إلّا أنّه لا يُراد من


239


الحجاب هنا هو القماش الّذي تضعه المرأة وتُغطّي به جسدها الظاهريّ فحسب، فهو وإن كان مهمّاً وضروريّاً وأساساً إلّا أنّه ليس هو الواجب كلّه من الحجاب، بل هو مطلوب بالإضافة إلى الحجاب الباطنيّ والّذي يتمثّل بالعفاف الباطنيّ للمرأة وهو الأهمّ لها.

فالحجاب بالمفهوم القرآنيّ لا يكتمل إلّا بمجموعة مفردات يتشكّل منها الحجاب الكامل:
• ستر كامل الجسد بالجلباب: وهو اللباس الفضفاض الواسع كما قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا10.

• إسدال الخمار: وهو المقنعة الّتي توضع على الرأس وتُغطّي الكتفين والرقبة والشقّ من الصدر
﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ11.

• عدم إبداء الزينة: باستثناء الظاهريّة منها، وهي الكفّان والوجه، شرط أن لا يكون عليها زينة خارجيّة من مساحيق التجميل وطلاء الأظافر، وإظهار الحلي، وغير ذلك. وكذلك عدم
إظهار الزينة الباطنيّة، وهي كلّ ما عدا الوجه والكفّين


240


من الجسد للأجانب ما عدا طائفة من الناس وهم اثنا عشر صنفاً من المحارم وغيرهم، والّتي حدّدها وذكرها القرآن الكريم في سورة النور.

• غضُّ البصر: سواء كان النظر من الرجال إلى النساء وهو أساس أو العكس، إذ إنّ الحجاب لا يُمكن أن يتحقّق إلّا بغضِّ الطرف من الجنسين وعدم النظر بشهوة وريبة إلى بعضهما
بعضاً، والرجل له دور في إرساء الحجاب لدى المرأة، وإيجاد العفّة. لأنّ النظر إلى الجنس الآخر يتنافى والحجاب الباطنيّ. يقول تعالى:
﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ.

• عدم الضرب بالأرجل: ويكون ذلك عادةً بالخلخال الّذي يُخرج صوتاً يعلم منه الآخر بوجود زينة خفيّة لدى المرأة، وبذلك يدخل تحت هذا العنوان كلّ ما من شأنه أن يترك صوتاً
ويجلب نظر الرجال وانتباههم للمرأة أمثال الحذاء الخاصّ بالمرأة ذي الكعب العالي.

• عدم اختلاط الرجل بالمرأة والعكس: لا شكّ في أنّ مجتمعاتنا الحديثة والمعاصرة لا يُمكنها الفصل التامّ بين الرجل والمرأة، لأنّ المرأة اليوم أخذت دوراً اجتماعيّاً وهي تُشارك الرجل في العمل. إلّا أنّه يُمكن الاتّقاء والاجتناب


241


عن الموارد غير الضروريّة وبهذا يُمكن للمجتمع أن يحصل على التقوى الجنسيّة وعلى العفّة الاجتماعيّة وطهارتها.

وإذا ما حصل الاختلاط بين الرجل والمرأة لضرورة ما، يجب أن يُقيَّد المجلس بمجموعة شروط عدم الضحك والمزاح الّذي يُزيل الحجاب والعفّة بينهما، وشيئاً فشيئاً تنكسر الحشمة، وتقع المعصية بدرجاتها، فقد ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "من فاكه امرأة لا يملكها حبسه الله بكلِّ كلمة في الدنيا ألف عام"12 والمفاكهة هي الممازحة.

• اجتناب الخلوة التامّة: كأن يكونا في مكان خاصٍّ لا ثالث معهما، ففي الرواية عن الإمام عليّ عليه السلام: "لا يخلو بامرأة رجل فما من رجل خلا بامرأة إلّا كان الشيطان ثالثهما"13.

لذلك ينبغي أن يكون جلوس الرجل والمرأة بمرأى الآخرين، وأن تقتصر الجلسة على الأمور الضروريّة، وأن لا تطول مدّتها.

• ترك الزينة والتبرُّج والروائح العطرة: لأنّ كلّ ذلك من شأنه أن يُحرِّك ويُثير الطرف الآخر.
• عدم اللّين في الكلام: فإنّ الخضوع في القول كما عبّر القرآن الكريم، وهو من نوع الميوعة والغنج الكلاميّ يحصل بطريقة خاصّة في الكلام، من شأنه أن يوقع الرجل في شرك المرأة.


242


ولهذا نهى الله تعالى عن ذلك بقوله: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا14. وهذا النهي ليس موجّهاً إلى نساء النبيّ فقط، بل يعمّ ليشمل نساء المؤمنين، لأنّ القرآن كما أشار إلى ذلك الأئمّة عليهم السلام: أُنزل من باب إيّاك أعني واسمعي يا جارة.

3- العفّة الزينبيّة نموذجاً:

ومن أهمّ نماذج العفيفات التي قدّمها الإسلام بعد السيّدة الزهراء عليها السلام ابنتها عقيلة الطالبيّين زينب بنت عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقد بلغت من الحرص على الحجاب والستر حدّ أن تجعل في أوّل ما وبَّخت يزيد الطاغية عليه رغم كثرة وعظم جرائمه هتك ستور النساء وتعريضهنّ لأنظار القوم في مسير السبي.

ولا عجب فإنّ الحجاب والعفاف رافق حياة هذه العظيمة حيث يُروى أنّ يحيى المازنيّ قال: "كنت في جوار أمير المؤمنين عليه السلام في المدينة المنوّرة مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فوالله ما رأيت لها شخصاً ولا سمعت لها صوتاً، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدّها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تخرج ليلاً والحسن عن


243


يمينها والحسين عن شمالها وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين فأخمد ضوء القناديل، فسأله الحسن مرّة عن ذلك فقال: "أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب"15.


244


هوامش

1- سورة الأحزاب الآية 59.
2- انظر: شرح الأسماء الحسنى للملّا هادي السبزواريّ ج 2 ص 81.
3- لسان العرب ج 9 ص 253.
4- جامع السعادات ج 1 ص 70.
5- أصول الكافي ج 2 ص 79.
6- سورة النور الآية 32.
7- ميزان الحكمة ج 2 ص 1179.
8- سورة النور الآية 30.
9- سورة النور الآية 31.
10- سورة الأحزاب الآية 59.
11- سورة النور الآية 31.
12- وسائل الشيعة ج 20 ص 198.
13- مستدرك الوسائل ج 14 ص 265.
14- سورة الأحزاب الآية 32.
15- الأخلاق الحسينيّة ص 223.