المحاضرة الثالثة: الإيثار بين المؤمنين

الهدف:
بيان أهميّة الإيثار والحثّ على ضرورة التحلّي به لما له من المنزلة والكرامة في الدنيا والآخرة.

تصدير الموضوع:

قال تعالى في كتابه:
﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ1.


215


المقدّمة:
لا شكّ أنّ للإيثار منزلة خاصّة في منظومة القيم الأخلاقيّة في المجتمع البشريّ عموماً وفي الإسلام خصوصاً فهو غاية المكارم التي لا تكتمل إلّا به, ويُستحقّ به اسم الكرم والجود والسخاء بل هو أعلى مراتبه, وبه يُستَرَقُّ الأحرار وتُملكُ الرِّقاب وهو زينة الزهد وأفضل الاختيار.

محاور الموضوع
1- مفهوم الإيثار:

الإيثار في اللغة هو اختيار الشيء وتقديمه على غيره, يقال آثره عليه أي فضّله, وآثرتك إيثاراً أي فضّلتك, واستأثر بالشيء على غيره, أي خصّ به نفسه واستبدّ به, والاستبداد يقابل الإيثار, وبالخلاصة إنّ الإيثار أنّ تفضّل الآخرين على نفسك فيما أنت محتاج إليه.

2- أهميّة الإيثار:

من الواضح أنّ للإيثار أهميّة كبرى في حياة المسلم, فمضافاً إلى كونه عبادة من العبادات التي يترتّب على فعلها الأجر والثواب, هناك جملة من الفوائد الأخرى المترتّبة عليه, منها:
• نفي الحرص والطمع: الأثر الذي تتركه في نفس المؤثر, حيث


216


إنّها تطرد عنه الحرص والطمع وشحّ النفس, فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام قوله: "أفضل السخاء الإيثار"2.

• توطيد العلاقات والروابط الاجتماعيّة وإحكامها بين المؤمنين: من قضاء حاجاتهم وتفقّد أحوالهم, فقد جاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: "كان عند فاطمة عليها السلام شعير فجعلوه عصيدة، فلمّا أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال المسكين: رحمكم الله، أطعمونا ممّا رزقكم الله, فقام عليّ عليه السلام فأعطاه ثلثها. ولم يلبث أن جاء يتيم فقال اليتيم: رحمكم الله، فقام عليّ عليه السلام فأعطاه ثلثها. ثمّ جاء أسير فقال الأسير: رحمكم الله، فأعطاه عليّ عليه السلام الثلث الباقي وما ذاقوها، فأنزل الله هذه الآية:
﴿وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا، وهي جارية في كلّ مؤمن فعل مثل ذلك"3.

3- فضل الإيثار:

• أحسن الإحسان: عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "الإيثار أحسن الإحسان وأعلى مراتب الإيمان"4. وعنه عليه السلام : "الإيثار أشرف الإحسان"5.
• شيمة الأبرار: وعنه عليه السلام قال: "من شيم الأبرار حمل


217


النفوس على الإيثار"6.

• خير المكارم: وعنه عليه السلام قال: "خير المكارم الإيثار"7.
• مُظهر معادن الناس: وعنه عليه السلام: "عند الإيثار على النفس تتبيّن جواهر الكرماء"8.

• أفضل عبادة: وعنه عليه السلام : "الإيثار أفضل عبادة وأجلّ سيادة"9.
• خُلُق الأنبياء عليهم السلام : ففي الحديث: "ما شبع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أيّام متوالية حتّى فارق الدنيا، ولو شاء لشبع ولكنّه كان يؤثر على نفسه"10.

• أفضل الصدقة: سُئل الإمام الصادق عليه السلام : أيّ الصدقة أفضل؟ قال عليه السلام: "جهد المقلّ. أما سمعت قول الله عزَّ وجلّ:
﴿وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾؟"11.

4- بركات الإيثار:

• الجنّة: أبو الطفيل: اشترى عليّ عليه السلام ثوباً فأعجبه فتصدّق به، وقال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة الجنّة, ومن
أحبّ شيئاً فجعله لله قال الله


218


يوم القيامة: قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف, وأنا أكافيك اليوم بالجنّة"12.

• درجة خاصّة في الجنّة: عن أبي جعفر عليه السلام قال: "إنّ لله عزَّ وجلّ جنّة لا يدخلها إلّا ثلاثة: رجل حكم على نفسه بالحقّ، ورجل زار أخاه المؤمن في الله، ورجل آثر أخاه
المؤمن في الله"
13.

• الدرجات الرفيعة: قال نبيّ الله موسى عليه السلام : "يا ربّ, أرني درجات محمّد وأمّته، قال: يا موسى إنّك لن تطيق ذلك ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضّلته بها عليك
وعلى جميع خلقي...، فكشف له عن ملكوت السماء فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله عزَّ وجلّ قال: يا ربّ بماذا بلغته إلى هذه الكرامة؟! قال: بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار. يا موسى، لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمر إلّا استحييت من محاسبته وبوّأته من جنّتي حيث يشاء"14.

• من رجال الأعراف: عن الإمام عليّ عليه السلام قال: "المؤثرون من رجال الأعراف"15.


219


5- أنواع الإيثار:
• الإيثار بالعبادة والدعاء: هناك نصوص كثيرة تحثّ المؤمنين بالدعاء لبعضهم بعضاً وعلى هذا جرت سيرة المعصومين عليهم السلام فقد ورد عن الإمام الحسن عليه السلام أنّه قال: " رأيت أمّي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتّى اتضح عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشيء, فقلت لها: يا أمّاه, لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بني الجار ثمّ الدار"16.

• الإيثار بالمال: وقد مدح الله تعالى أهل البيت عليهم السلام حينما أنزل عليهم سورة من القرآن وذلك عندما باتوا ثلاثة أيّام من غير إفطار على طعام سوى الماء حيث إنّهم كانوا عندما يقدمون على تناول الطعام يأتيهم طلب حاجة فيؤثرونه على أنفسهم, ففي اليوم الأوّل عندما أرادوا الإفطار وإذا بالباب يُطرق, وسائل يقول: أنا مسكين من مساكين المسلمين وإنّي جائع أطعموني.. فيطعمونه ما بيدهم ويبيتون جائعين, وفي اليوم الثاني أيضاً عندما أرادوا الإفطار وإذا بالباب يُطرق وسائل يقول: أنا يتيم.. ويطلب الطعام وكذلك يبيت أهل


220


البيت عليهم السلام ليلة أخرى جياعاً, وفي اليوم الثالث كذلك عند الإفطار يأتي أسير يطلب الطعام فيعطونه طعامهم.. فأنزل الله تعالى الآيات: ﴿يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا17.

• الإيثار بالنفس: ولعلّه أعظم أنواع الإيثار لأنّه كلّما اشتدّ حرص الإنسان على شيء كان الإيثار عليه أصعب ولا شكّ في حرص الإنسان على حياته وروحه وبقائه... ولكن هذا الأمر
ليس صعباً على أولياء الله المقرّبين, لكونهم وبحكم إيمانهم يتحلّون بهذا الخلق, وقد ورد عن الإمام عليّ قوله: "الإيثار أعلى الإيمان"18.

6- قصّة وعبرة:

بات عليّ بن أبي طالب عليه السلام على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل: "إنّي آخيت بينكما وجعلت عمر الواحد منكما أطول من عمر الآخر، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة. فأوحى الله عزَّ وجلّ إليهما: أفلا كنتما مثل عليّ ابن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه فيؤثره بالحياة... فأنزل الله تعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي


221


نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ19"20.

7- الإيثار في كربلاء:

وقد تجسّد الإيثار في كربلاء في مواطن عديدة:
• إيثار سعيد بن عبد الله الحنفيّ: روى أبو مخنف: أنّه لمّا صلّى الحسين الظهر صلاة الخوف، ثمّ اقتتلوا بعد الظهر فاشتدّ القتال، ولمّا قرب الأعداء من الحسين وهو قائم بمكانه، استقدم
سعيد الحنفيّ أمام الحسين فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً، وهو قائم بين يدي الحسين يقيه السهام طوراً بوجهه، وطوراً بصدره، وطوراً بيديه، وطوراً بجنبيه، فلم يكد يصل إلى الحسين عليه السلام شيء من ذلك حتّى سقط الحنفيّ إلى الأرض، وهو يقول: اللهمّ العنهم لعن عاد وثمود، اللهمّ أبلغ نبيّك عنّي السلام ، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإنّي أردت ثوابك في نصرة نبيّك، ثمّ التفت إلى الحسين فقال: أوفيت يا بن رسول الله؟ قال: "نعم، أنت أمامي في الجنّة"، ثمّ فاضت نفسه النفيسة21.

• إيثار أبي الفضل العبّاس عليه السلام : وذلك عندما رمى الماء من


222


يديه وكان قلبه يتلظّى من العطش وأخذ يقول:
يا نفسُ من بعد الحسين هوني       وبعده لا كنت أن تكوني
هذا الحسينُ واردُ المنون            وتشربين بارد المعين
22


223


هوامش

1- سورة الحشر الآية 9.
2- ميزان الحكمة ج 1 ص 16.
3- بحار الأنوار ج 35 ص 243.
4- ميزان الحكمة ج 1 ص 16.
5- ميزان الحكمة ج 1 ص 16.
6- عيون الحكم والمواعظ ص 469.
7- ميزان الحكمة ج 1 ص 805.
8- عيون الحكم والمواعظ ص 339.
9- ميزان الحكمة ج 1 ص 16.
10- سنن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ص 228.
11- فروع الكافي ج 4 ص 18.
12- تفسير نور الثقلين ج 1 ص 364.
13- أصول الكافي ج 2 ص 178.
14- ميزان الحكمة ج 1 ص 16.
15- ميزان الحكمة ج 1 ص 16.
16- وسائل الشيعة ج 4 ص 1150.
17- سورة الإنسان الآية 7-9.
18- عيون الحكم والمواعظ ص 51.
19- سورة البقرة الآية 207.
20- ميزان الحكمة ج 1 ص 18.
21- أبصار العين في أنصار الحسين ص 218.
22- مقتل الحسين أبو مخنف الأزديّ ص 179.