المحاضرة الثانية: مقام الشهادة في الإسلام

الهدف:
بيان فضل الشهداء وعلوّ مقامهم في الدنيا والآخرة.

تصدير الموضوع:

قال تعالى:
﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ1.


205


المقدّمة:
تعتبر الشهادة من المقوّمات الأساسيّة في نهضة المسلمين, وتحرّك المستضعفين, وفي انتصار الانتفاضات والثورات ذات القيم والمبادئ, ولا يمكن أن تنتصر هذه النهضات والتحرّكات والانتفاضات والثورات... إلّا بتقديم تضحيات عزيزة, وإراقة دماء زكيّة غالية, وسقوط شهداء أوفياء فضلاء علماء... وقد تزيد نسبة الشهداء أو تقلّ, ولكن الشهادة ودماء الشهداء الأوفياء في النتيجة تكون أحد مقوّمات الانتصار المبدئيّ وإحدى أقوى الدعائم في الرسالات السماويّة2.

محاور الموضوع
1- معنى الشهيد:

الشهيد في اللغة والشرع هو المقتول في سبيل الله, وسبب تسميته بذلك: قيامُه بشهادة الحقّ في أمر الله تعالى حتّى قُتل, أو لأنّه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل, أو لأنّه شهد المغازي, أو لأنّه شُهد له بالإيمان, أو لأنّه خُتم له بخير, أو لأنّه حيّ لم يمت كأنّه يشاهد ويحضر, أو لأنّه حاضر عند ربّه, أو لأنّه يشهد ملكوت الله وملكه, أو لسقوطه على الشاهدة وهي الأرض3. ولعلّه لجميع ما ذكر.


206


2- أهميّة الشهادة:
أعلى درجات البرّ: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "فوق كلّ ذي برٍّ برٌّ حتّى يقتل الرجل في سبيل الله فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه برّ"4.
• إحدى الحسنيين: قال تعالى:
﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ5, وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: "المؤمن يقظان مترقّب خائف, ينتظر إحدى الحسنيين"6.
• أكرم الموت: روي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قال لأصحابه في ساعة الحرب: "إنّ الموت طالب حثيث, لا يفوته المقيم, ولا يعجزه الهارب, إنّ أكرم الموت القتل"7.
• أشرف الموت: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "أشرف الموت قتل الشهادة"8.

3- مكانة الشهيد:

• الحياة الخاصّة: قال تعالى:
﴿وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ9.


207


• ممّن أنعم الله عليهم: قال تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا10.

• من المؤمنين الصادقين: قال تعالى:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا11.
• مغفور له: قال تعالى:
﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ12, وعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "أوّل ما يهراق من دم الشهيد يغفر له ذنبه كلّه إلّا الدَّين"13, وعن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: "أوّل قطرة من دم الشهيد كفّارة لذنوبه إلّا الدَّين فإنّ كفّارته قضاؤه"14.

• مأمون من فتنة القبر: عن النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من لقي العدوّ فصبر حتّى يقتل أو يغلب لم يفتن في قبره"15, ورُوي أنّه سُئل صلى الله عليه وآله وسلم: ما بال الشهيد لا يفتن في قبره؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم:


208


"كفى بالبارقة فوق رأسه فتنة"16.

• لا يشعر بالألم: روي عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ما يجد الشهيد من مسّ القتل إلّا كما يجد أحدكم مسّ القرصة"17.

4- من شرائط الشهادة:

يقول تعالى في كتابه الكريم:
﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ18.

فقد حدّد الله تعالى في هاتين الآيتين مجموعة من الشرائط والمواصفات التي تؤهّل الإنسان لنيل مقام الشهادة ولصحّة معاملة البيع والشراء والثمن بين المخلوق والخالق تعالى, والشرائط التي حدّدتها الآيتان هي:
• التائبون: الذين يغسلون قلوبهم وأرواحهم من رين الذنوب


209


بماء التوبة.

• العابدون: الذين يطهّرون أنفسهم في نفحات الدعاء والمناجاة مع ربّهم.

• الحامدون: الذين يشكرون الله ويحمدونه على نعمه الماديّة والمعنويّة ويعيشون الحمد في الشدّة والرخاء.
• السائحون: الذين يتنقّلون من مكان عبادة إلى آخر, أو الذين يتوجّهون إلى ميادين الجهاد ومحاربة الأعداء فعن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله", أو الصائمون فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: "إنّ السائحين هم الصائمون".

• الراكعون: الذين يركعون في مقابل عظمة الله تعالى.
• الساجدون: الذين يطأطئون رؤوسهم أمام خالقهم ويسجدون له.

• الآمرون بالمعروف: الذين يدعون الناس لعمل الخير.
• الناهون عن المنكر: الذين لم يقتنعوا بالدعوة إلى الخير بل حاربوا كلّ منكر وفساد.

• الحافظون لحدود الله: الذين أدّوا أهمّ واجب اجتماعيّ وهو حفظ الحدود الإلهيّة وإجراء قوانين الله تعالى وإقامة الحدود والعدالة.
فمن اجتمعت فيه هذه الصفات التِّسعُ المذكورة يأتي بعدها


210


قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ19.

قصّة وعبرة:
عن الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام عن الحسين بن عليّ عليهما السلام قال: "بينما أمير المؤمنين يخطب ويحضّهم على الجهاد إذ قام إليه شاب فقال: يا أمير المؤمنين, أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل الله, فقال: "كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ناقته العضباء ونحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل فسألته عمّا سألتني عنه, فقال: الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب الله لهم براءة من النّار.

فإذا تجهّزوا لغزوهم باهى الله بهم الملائكة. فإذا ودّعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان والبيوت، ويخرجون من الذنوب... ويكتب له (أيّ لكلّ شهيد وغاز) كلّ يوم عبادة ألف رجل يعبدون الله... وإذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب الله إيّاهم. فإذا برزوا لعدوّهم وأشرعت الأسنّة وفوقت السهام، وتقدّم الرجل إلى الرجل حفّتهم الملائكة بأجنحتها يدعون الله بالنصرة والتثبيت فينادي مناد: "الجنّة تحت ظلال السيوف فتكون الطعنة والضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف. وإذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتّى


211


يبعث الله إليه زوجته من الحور العين فتبشّره بما أعدّ الله له من الكرامة. فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحباً بالروح الطيّب الذي خرج من البدن الطيّب، ابشر, فإنّ لك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر, ويقول الله: أنا خليفته في أهله من أرضاهم فقد أرضاني ومن أسخطهم فقد أسخطني"20.

مقام الشهادة في كربلاء:

لمّا جمع الحسين عليه السلام أصحابه في ليلة العاشر من المحرّم وأحلّهم من بيعته وطلب منهم الرجوع إلى أهليهم تكلّم جمع من بني هاشم والأصحاب ومن بينهم تكلّم سعيد, وممّا قاله للإمام عليه السلام :"لا والله يا ابن رسول الله لا نخلّيك أبداً حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا فيك وصيّة رسوله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، ولو علمت أنّي أقتل فيك ثمّ أحيا ثمّ أذرى يفعل ذلك بي سبعين مرّة ما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك, وكيف لا أفعل ذلك؟ وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ أنال الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً"21.

وتقدّم الإمام الحسين عليه السلام في ظهر يوم عاشوراء لإقامة الصلاة فصلّى بأصحابه صلاة الخوف، فوصل إلى الإمام


212


الحسين عليه السلام سهم فتقدّم سعيد بن عبد الله الحنفيّ ووقف يقيه بنفسه وجعلها درعاً للإمام عليه السلام فرماه القوم بسهامهم من كلّ جانب يمنة ويسرة، وكان يستقبل السهام في وجهه وصدره ويديه ومقادم بدنه لئلّا تصيب الحسين عليه السلام وما زال ولا تخطّى حتّى سقط إلى الأرض22.

وعلى حدِّ قول ابن طاوس فإنّ ثلاثة عشر سهماً أصابت جسد سعيد سوى ضربات السيوف والرماح23.
وعندما خرّ سعيد بن عبد الله صريعاً كان يقول: "أللهمّ العنهم لعن عاد وثمود, أللهمّ أبلغ نبيّك عنّي السلام ..."ثمّ التفت إلى الحسين عليه السلام فقال: أوفيت يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فجاء الإمام ووقف عند رأسه وقال: نعم أنت أمامي في الجنّة", ثمّ فاضت نفسه واستشهد24 (رضوان الله عليه).


213


هوامش

1- سورة آل عمران الآية 169-171.
2- من كلام للإمام القائد الخامنئيّ (دام عزّه).
3- مستفاد من اللمعة البيضاء للتبريزيّ الأنصاريّ ص 368.
4- أصول الكافي ج 2 ص 348.
5- سورة التوبة الآية 52.
6- الخصال ص 633.
7- نهج البلاغة.
8- أمالي الشيخ الصدوق ص 576.
9- سورة البقرة الآية 154.
10- سورة النساء الآية 69.
11- سورة الأحزاب الآية 23.
12- سورة آل عمران الآية 195.
13- ميزان الحكمة ج 2 ص 1514.
14- وسائل الشيعة ج 18 ص 324.
15- ميزان الحكمة ج 2 ص 1515.
16- الكافي ج 5 ص 54.
17- الدرّ المنثور ج 2 ص 99.
18- سورة التوبة الآية 111- 112.
19- مقتبس من تفسير الأمثل ج 6 ص 213- 215.
20- تفسير الأمثل ج 2 ص 782.
21- تاريخ الأمم والملوك ج‏ 3 ص ‏315.
22- وقعة الطفّ ص ‏232.
23- اللهوف ص ‏111.
24- اللهوف ص ‏111.