المحاضرة الأولى: من مواقف النساء في نهضة عاشوراء

الهدف:
الإطلالة على مواقف بعض النسوة اللواتي كان لهن دور مميّز في نهضة عاشوراء والوقوف على أهمّ دلالاتها وعبرها.

تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ1.


195


المقدّمة:
قامت مجموعة من النساء في نهضة عاشوراء بأدوار عديدة كان لها أهميّتها في مواقف العديد ممّن وقف مع الإمام الحسين عليه السلام أو لحق به, بحيث ساهمت في الحثّ على القتال بين يديه والدفاع عن ثورته, ما ساهم في تخليد اسمها بين النساء المجاهدات في ثورة الإمام الحسين عليه السلام ونهضته. وسوف نقف بشكل سريع ومقتضب على بعض هذه النسوة ومواقفهنّ.

محاور الموضوع

1- طوعة: وهي المرأة التي آوت مسلم بن عقيل عندما تخاذل عنه الناس وبقي وحيداً, ليس معه أحد يدلّه على الطريق, ولا على منزل, ولا يواسيه بنفسه إن عرض له عدوّ, فمضى على وجهه يتلدّد في أزقّة الكوفة, لا يدري أين يذهب, حتّى خرج إلى دور بني جبلة من كندة, فمشى حتّى انتهى إلى باب امرأة يقال لها "طوعة", أمّ ولد كانت للأشعث بن قيس فأعتقها فتزوّجها أسيد الحضرميّ, فولدت له بلالاً وكان بلال قد خرج مع الناس, وأمّه قائمة تنتظره فسلّم عليها ابن عقيل فردّت عليه, فقال لها: يا أمَة الله اسقيني ماء, فدخلت فسقته, فجلس وأدخلت الإناء, ثمّ خرجت فقالت: يا عبد الله ألم تشرب؟ قال: بلى, قالت: فاذهب


196


إلى أهلك, فسكت, ثمّ عادت فقالت: مثل ذلك, فسكت, ثمّ قالت له: فئ لله سبحان الله يا عبد الله, فمرّ إلى أهلك عافاك الله, فإنّه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك, فقام فقال: يا أمَة الله, ما لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة, فهل لك إلى أجر ومعروف ولعلّي مكافئك به بعد اليوم, فقالت: يا عبد الله وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل كذّبني هؤلاء القوم وغرّوني, قالت: أنت مسلم؟! قال: نعم, قالت: ادخل, فأدخلته بيتاً في دارها غير البيت الذي تكون فيه, وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعشّ, ولم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت والخروج منه, فقال: والله إنّه ليريبني كثرة دخولك هذا البيت منذ الليلة وخروجك منه, إنّ لك لشأناً! قالت: يا بنيّ, اله عن هذا, قال لها: والله لتخبرني, قالت: أقبل على شأنك ولا تسألني عن شيء فألحَّ عليها, فقالت: يا بني, لا تحدّثن أحداً من الناس بما أخبرك به, وأخذت عليه الأيمان فحلف لها, فأخبرته فاضطجع وسكت, وزعموا أنّه قد كان شريداً من الناس, وقال بعضهم: كان يشرب مع أصحاب له...2إلخ...

ويستوقفنا في موقف هذه المرأة الجليلة أمور عديدة:


197


منها: أنّها امرأة مؤمنة صالحة, ويدلّ قولها لمسلم: لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحلّه لك, على أنّها امرأة عفيفة طاهرة تعرف الحلال والحرام وتأنف من وقوف رجل أجنبيّ على باب دارها قد يجرّ التهمة إليها فأرادت تجنّب مواضع التهم من خلال ذلك.

ومنها: أنّها آوت ذلك القائد المجاهد وأدخلته إلى بيت غير البيت الذي كانت تأوي إليه, وعرضت عليه الطعام, وأخفته عن أعين الناس حتّى عن ولدها لولا إصراره وتعهّده وحلفه الأيمان أن لا يخبر أحداً بمكانه, وفي ذلك كلّه ما لا يخفى من الشجاعة والجرأة خصوصاً في الوقت الذي كان الخوف والرعب يملأ شوارع الكوفة وأزقّتها, وقبل ذلك شاهدنا كيف: أنّ المرأة كانت تأتى ابنها أو أخاها فتقول: انصرف الناس يكفونك, ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشرّ؟ انصرف, فيذهب به, فما زالوا يتفرّقون ويتصدّعون عن مسلم..حتّى لم يبق معه أحد3.

ومنها: أنّها نصرت مسلماً بما يمثّله من مبعوث لإمام زمانها الإمام الحسين عليه السلام في وقت تخاذل عنه الناس جميعاً, ولم يعد يجد أحداً من أولئك الذين بايعوه وقد بلغوا على الأقلّ ثمانية عشر ألفاً كما جاء في الكتاب الذي بعثه مسلم إلى الإمام


198


الحسين عليه السلام مع عابس بن أبي شبيب الشاكريّ: أمّا بعد, فإنّ الرائد لا يكذب أهله, وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفا فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي, فإنّ الناس كلّهم معك ليس لهم في آل معاوية رأي ولا هوى, والسلام4.

أمّا تلك المرأة فعندما علمت أنّه مسلم وقد أخبرها بخذلان أهل الكوفة له قامت بحمايته وحفظه, وأدّت تكليفها ولم يوحشها أنّها لوحدها مع ما عرفته من مسلم وما يمثّله.

ومنها: أنّ المرأة وإن كان الجهاد في أرض المعركة ساقط عنها, ولكنّها قد تقوم بدور أحياناً يوازي عمل أمّة برأسها, فعندما تخاذل جميع الرجال ممّن بايع مسلماً نصرته امرأة, وهو ما يعطي للمرأة دوراً رياديّاً ومتقدّماً يستحقّ التنويه به والوقوف عنده.

ومنها: أنّ سنّة الاستبدال قد تصيب أحياناً أمّة من الأمم أو مجموعة من الناس بسبب عوامل عديدة ليس هنا موضع شرحها, وتكون النتيجة أن يحرموا بأجمعهم من نصرة الحقّ ويأتي من ليس في حساب أحد من الناس ليقوم بهذا الدور وينعم بالخلود ويلحق الآخرين الخزي والعار إلى الأبد.

2- أمّ عمرو بن جنادة الأنصاريّ:
وهو فتى شابّ في مقتبل العمر وقيل إنّ عمره كان إحدى عشرة سنة, خرج بعد أن قتل أبوه في المعركة وكانت أمّه معه، فقالت له أمّه: اخرج يا بني وقاتل


199


بين يدي ابن رسول الله! فخرج فقال الحسين عليه السلام : "هذا شاب قتل أبوه ولعلّ أمّه تكره خروجه", فقال الشاب: أمّي أمرتني بذلك، فبرز وهو يقول:

أميري حسينٌ ونعم الأمير
عليٌّ وفاطمةُ والداهُ
له طلعةٌ مثلُ شمس الضحى
سرورُ فؤاد البشير النذير
فهل تعلمون له من نظير؟
له غرّةٌ مثلُ بدر منير

وقاتل حتّى قتل وجزّ رأسه ورمي به إلى عسكر الحسين عليه السلام فحملت أمّه رأسه، وقالت: أحسنت يا بني يا سرور قلبي ويا قرّة عيني، ثمّ رمت برأسه.. وأخذت عمود خيمةٍ، وحملت عليهم وهي تقول:

أنا عجوزٌ سيّدي ضعيفة
أضربكم بضربةٍ عنيفة
خاويةٌ باليةٌ نحيفة
دون بني فاطمةَ الشريفة

... فأمر الحسين عليه السلام بصرفها ودعا له5.

ويستوقفنا في موقف هذه المرأة الآتي:


200


أ- أنّها رغم فقد زوجها شهيداً في أرض المعركة, لم يثنها ذلك عن تقديم ولدها بعده للقتال والشهادة, وإن كان صغير السنّ وفي مقتبل العمر, ممّا يدلّ على عظيم التضحية والفداء, وهذا ما لفت إليه الإمام الحسين عليه السلام عندما قال: "ولعلّ أمّه تكره خروجه؟" فلا يريد أن يصيبها بفقد عزيزين دفعة واحدة, وإذا بجواب الفتى: إنّ أمّي هي التي أمرتني!

ب- إنّ قولها لابنها: اخرج يا بنيّ وقاتل بين يدي ابن رسول الله, يشير إلى طبيعة العلاقة التي تربطها بالإمام عليه السلام, وتريد أن تربط ولدها به على أساسها, وهو كونه ابن رسول الله وامتداداً له ولنهجه وخطّه, وهذا ما لعلّه ظهر في رجزه الذي أنشده واضحاً حيث لم يرتجز مفتخراً بنسبه أو معرفاً عن نفسه كما تقتضيه العادة, بل ارتجز مفتخراً بالحسين عليه السلام : أميري حسين...

ج- توضح عبارتها التي أبّنت بها ولدها أنّها كانت مسرورة بفعل ولدها مستبشرة بذلك, بل لقد أثار ذلك المشهد الرهيب عنفوانها إلى حدّ أنّها خرجت للقتال إلى أن ردّها الحسين عليه السلام ودعا لها.

3- أمّ وهب بنت عبد الكلبيّ:
ويروي أبو مخنف قصّتها عن رجل يقال له أبو جناب أنّه قال: كان منّا رجل يدعى عبد الله بن عمير من بني عليم كان قد نزل الكوفة واتخذ عند


201


بئر الجعد من همدان داراً وكانت معه امرأة له من النمر بن قاسط يقال لها أمّ وهب بنت عبد, فرأى القوم بالنخيلة يعرضون ليسرحوا إلى الحسين, قال: فسأل عنهم فقيل له: يسرحون إلى حسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, فقال والله لقد كنت على جهاد أهل الشرك حريصاً وإنّي لأرجو ألّا يكون جهاد هؤلاء الذين يغزون ابن بنت نبيّهم أيسر ثواباً عند الله من ثوابه إيّاي في جهاد المشركين, فدخل إلى امرأته فأخبرها بما سمع وأعلمها بما يريد فقالت: أصبت أصاب الله بك أرشد أمورك افعل وأخرجني معك قال: فخرج بها ليلاً حتّى أتى حسيناً فأقام معه.

فلمّا دنا منه عمر بن سعد ورمى بسهم ارتمى الناس فلمّا ارتموا خرج يسار مولى زياد بن أبي سفيان وسالم مولى عبيد الله بن زياد فقالا: من يبارز؟ ليخرج إلينا بعضكم, قال: فوثب حبيب بن مظاهر وبرير بن حضير, فقال لهما حسين: "اجلسا", فقام عبد الله بن عمير الكلبيّ فقال: أبا عبد الله, رحمك الله ائذن لي فلأخرج إليهما, فرأى حسين رجلاً آدم طويلاً شديد الساعدين بعيد ما بين المنكبين, فقال حسين: "إنّي لأحسبه للأقران قتّالاً, اخرج إن شئت", قال: فخرج إليهما فقالا له: من أنت؟ فانتسب لهما, فقالا: لا نعرفك ليخرج إلينا زهير بن القين أو حبيب بن مظاهر أو برير ابن خضير, ويسار مستنتل أمام سالم, فقال له الكلبيّ:...وبك


202


رغبة عن مبارزة أحد من الناس ويخرج إليك أحد من الناس إلّا وهو خير منك؟! ثمّ شدَّ عليه فضربه بسيفه حتّى برد فإنّه لمشتغل به يضربه بسيفه إذ شدّ عليه سالم فصاح به: قد رهقك العبد, قال: فلم يأبه له حتّى غشيه فبدره الضربة فاتقاه الكلبيّ بيده اليسرى فأطار أصابع كفّه اليسرى, ثمّ مال عليه الكلبيّ فضربه حتّى قتله, وأقبل الكلبيّ مرتجزاً وهو يقول وقد قتلهما جميعاً:

إن تنكروني فأنا ابن كلب
إنّي امرؤٌ ذو مِرّة وعصب
إنّي زعيمٌ لك أمَّ وهْبِ
ضرب غلام مؤمن بالرب
حسبي ببيتي في عليم حسبي
ولست بالخوّار عند النكب
بالطعن فيهم مقدّماً والضرب

فأخذت أمّ وهب امرأته عموداً ثمّ أقبلت نحو زوجها تقول له: فداك أبي وأمّي قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّد, فأقبل إليها يردّها نحو النساء فأخذت تجاذب ثوبه, ثمّ قالت: إنّي لن أدعك دون أن أموت معك, فناداها حسين فقال: "جزيتم من أهل بيت خيراً, ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ, فإنّه ليس على النساء قتال", فانصرفت إليهنّ6.


203


وخرجت امرأة الكلبيّ - بعد ذلك - تمشي إلى زوجها حتّى جلست عند رأسه تمسح عنه التراب وتقول: هنيئاً لك الجنّة, فقال شمر بن ذي الجوشن لغلام يسمى رستم: اضرب رأسها بالعمود, فضرب رأسها فشدخه فماتت مكانه7, فكانت أوّل شهيدة بين يدي الإمام الحسين عليه السلام.

ويستوقفنا في موقف هذه المرأة أمور:
1- تشجيعها لزوجها في الخروج لنصرة الإمام الحسين عليه السلام, معتبرة ذلك من أرشد الأمور, وطلبها منه الخروج معه لتكون إلى جانبه في أرض المعركة, في الوقت الذي كان الناس فيه يتخاذلون عن الإمام عليه السلام وينكثون بيعتهم, ويخذل فيه بعضهم بعضاً.

2- شجاعتها واندفاعها, ونزولها إلى أرض المعركة لتحثّ زوجها على نصرة ذريّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم, وهو ما يدلّ على معرفتها وقناعتها التامّة بما تفعله وتقوم به.

3- لقد استجاب الله تعالى دعاءها وحقّق لها أمنيتها أن تُقتل مع زوجها وتُرزق الشهادة في سبيل الله, وأعطاها هذا الوسام لتلتحق بشهداء كربلاء, وتكون أوّل شهيدة بين يدي الإمام الحسين عليه السلام, بعد أن باركت لزوجها وهنّأته بالشهادة.


204


هوامش

1- سورة النحل الآية 97.
2- تاريخ الطبري ج 4 ص 277- 278.
3- تاريخ الطبري ج 4 ص 278.
4- تاريخ الطبري ج 4 ص 278.
5- بحار الأنوار ج 45 ص 27- 28.
6- تاريخ الطبري ج 4 ص 326- 327.
7- تاريخ الطبري ج 4 ص 333- 334.