المحاضرة الثالثة: حسن العاقبة

الهدف:
بيان أهميّة حسن العاقبة وحثّ الناس للقيام بما يوجب ذلك.

تصدير الموضوع:

قال الله تعالى:
﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ1.


183


المقدّمة:
تعتبر سنّة الابتلاء من السنن الإلهيّة الثابتة في عالم الوجود, ومن ضمن ما يواجهه الإنسان في هذه السنّة مسألة الصراع مع إبليس الذي يبذل قصارى جهده مع عفاريته لإضلال الناس وإفساد عاقبتهم, وقد يظنّ بعض الناس أنّه إذا نجح في تجاوز بعض الابتلاءات أنّه قد نجح تماماً, بيْد أنّه في واقع الحال يبقى الاختبار والابتلاء جارياً ما دام الإنسان في عالم الدنيا ولم ينتقل إلى العالم الآخر ومن هنا كانت مسألة حسن العاقبة تشكل هاجساً لدى الإنسان وتدعوه إلى البحث عمّا يوجب له تجاوز هذا الامتحان بنجاح.

محاور الموضوع
1- أهميّة حسن العاقبة:

أ- خير الأمور: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "خير الأمور خيرها عاقبة"2.
ب- حقيقة السعادة: عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: "إنّ حقيقة السعادة أن يختم للمرء عمله بالسعادة, وإنّ حقيقة الشقاء أن يختم للمرء عمله بالشقاء"3.


184


ج- ملاك العمل خواتيمه: يقول أبو فروة الأنصاريّ - وكان من السائحين -: قال عيسى بن مريم: "يا معشر الحواريّين بحقّ أقول لكم إنّ الناس يقولون إنّ البناء بأساسه وأنا لا أقول لكم كذلك". قالوا: فماذا تقول يا روح الله؟ قال: "بحقّ أقول لكم إنّ آخر حجر يضعه العامل هو الأساس". قال أبو فروة: إنّما أراد خاتمة الأمر4.

د- حسن الظنّ والأمل: من وصيّة أمير المؤمنين عليه السلام لابنه الإمام الحسين عليه السلام: "أي بنيّ, لا تؤيّس مذنباً، فكم من عاكف على ذنبه خُتم له بخير، وكم من مقبل على عمله مفسد في آخر عمره، صائر إلى النّار، نعوذ بالله منها"5.

هـ - الميزان الحقيقيّ والواقعيّ: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا عليكم أن تعجبوا بأحد حتّى تنظروا بما يختم له، فإنّ العامل يعمل زماناً من عمره أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنّة ثمّ يتحوّل فيعمل عملاً سيّئاً"6.

2- موجبات حسن العاقبة:

• معرفة الله تعالى: نظر أمير المؤمنين عليه السلام إلى رجل أثّر الخوف


185


فيه، فقال: "ما بالك؟" قال: إنّي أخاف الله، فقال: "يا عبد الله خف ذنوبك، وخف عدل الله عليك في مظالم عباده، وأطعه فيما كلّفك، ولا تعصه فيما يصلحك، ثمّ لا تخف الله بعد ذلك فإنّه لا يظلم أحداً، ولا يعذّبه فوق استحقاقه أبداً إلّا أن تخاف سوء العاقبة بأن تغيّر أو تبدّل، فإن أردت أن يؤمنك الله سوء العاقبة، فاعلم أن ما تأتيه من خير فبفضل الله وتوفيقه، وما تأتيه من سوء فبإمهال الله وإنظاره إيّاك وحلمه وعفوه عنك"7.

• تعظيم حقّ الله تعالى: كتب الإمام الصادق عليه السلام إلى بعض الناس: "إن أردت أن يختم بخير عملُك حتّى تُقبض وأنت في أفضل الأعمال فعظّم لله حقّه: أن لا تبذل نعماءه في معاصيه, وأن تغترّ بحلمه عنك, وأكرم كلّ من وجدته يذكر منّا أو ينتحل مودّتنا, ثمّ ليس عليك صادقاً كان أو كاذباً إنّما لك نيّتك وعليه كذبه"8.

• التقوى: يقول تعالى في كتابه الكريم:
﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ9.
• الموت على طلب الحقّ: "من مات على طلب الحقّ ولم يدرك


186


كماله فهو على خير، وذلك قوله: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ10"11.

• الخوف من سوء العاقبة: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة لا يتيقّن الوصول إلى رضوان الله حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له"12.

• الصبر والرضا: عن الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: "الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله, ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحبّ أو كره لم يقض الله عزَّ وجلّ له فيما أحبّ أو كره إلّا ما هو خير له"13.

• قضاء حوائج الإخوان والإحسان إليهم: عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّه قال: "إنّ خواتيم أعمالكم قضاء حوائج إخوانكم والإحسان إليهم ما قدرتم، وإلّا لم يقبل منكم عمل، حنّوا على إخوانكم وارحموهم تلحقوا بنا"14.

• الصدقة: عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "الصدقة تمنع ميتة السوء"15.


187


• دعاء الغريق: عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: "ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علم يرى، ولا إمام هدى ولا ينجو منها إلّا من دعا بدعاء الغريق"، قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال: "يقول: يا الله يا رحمن يا رحيم, يا مقلّب القلوب, ثبّت قلبي على دينك", فقلت: يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبي على دينك, قال: "إنّ الله عزَّ وجلّ مقلّب القلوب والأبصار ولكن قلّ كما أقول لك: يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك"16.

• ممّا ورد استحباب قراءته بعد صلاة الوتر: "يا ربّ العالمين صلّ على محمّد وآله وهب لي إيمانا لا أجل له دون لقائك أحيا عليه وأفنى، أللهمّ صلّ على محمّد وآله أحيني عليه ما أحييتني، وأمتني عليه إذا أمتّني, وابعثني عليه إذا بعثتني"17.

• قراءة دعاء العديلة.

3- قصّة وعبرة:

عن عليّ بن أبي حمزة قال: كان لي صديق من كتّاب بني أميّة فقال لي: استأذن لي على أبي عبد الله عليه السلام , فاستأذنت له، فأذن له، فلمّا أن دخل سلّم وجلس، ثمّ قال: جعلت فداك, إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً، وأغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد الله عليه السلام: "لولا أنّ بني أميّة وجدوا لهم من يكتب ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا، ولو تركهم الناس وما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم". قال: فقال الفتى: جعلت فداك


188


فهل لي مخرج منه؟ قال: "إن قلت لك تفعل؟" قال: أفعل، قال له: "فأخرج من جميع ما كسبت في ديوانهم فمن عرفت منهم رددت عليه ماله، ومن لم تعرف تصدّقت به، وأنا أضمن لك على الله عزَّ وجلّ الجنّة"، فأطرق الفتى طويلاً ثمّ قال له: لقد فعلت, جعلت فداك. قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه حتّى ثيابه التي كانت على بدنه قال: فقسمت له قسمة واشترينا له ثياباً وبعثنا إليه بنفقة، قال: فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتّى مرض، فكنّا نعوده، قال: فدخلت يوماً وهو في السوق قال: ففتح عينيه ثمّ قال لي: يا عليّ, وفى لي والله صاحبك، قال: ثمّ مات فتولّينا أمره، فخرجت حتّى دخلت على أبي عبد الله عليه السلام ، فلمّا نظر إليّ قال لي: "يا عليّ, وفينا والله لصاحبك"، قال: فقلت: صدقت جعلت فداك هكذا والله قال لي عند موته18.


189


4- حسن الخاتمة في كربلاء:
في يوم عاشوراء لمّا عزم الكوفيّون على الحرب والقتال سأل الحرّ ابن سعد: أمقاتلٌ أنت هذا الرجل؟! فأبلغه ابن سعد بعزمه على ذلك.
وفي تلك الأثناء صمّم الحرّ على الالتحاق بالإمام الحسين عليه السلام وأقبل حتّى وقف من الناس موقفاً ومعه رجل من قومه يقال له: قرّة بن قيس فقال: "يا قرّة هل سقيت فرسك اليوم؟" فقال له: لا، قال له: "فما تريد أن تسقيه"؟ قال قرّة: فظننت والله أنّه يريد أن يتنحّى فلا يشهد القتال ويكره أن أراه حيث يصنع ذلك، فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه19.
ولمّا شكّ المهاجر بن أوس بما يفعله الحرّ قال له: ما تريد يا بن يزيد، أتريد أن تحمل؟... ثمّ قال له: إنّ أمرك لمريب!! والله ما رأيت منك في موقف قطّ مثل هذا, ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة؟ ما عدوتك فما هذا الذي أرى منك؟

فقال له الحرّ: "إنّي والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنّار, فوالله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو قطّعت وحُرقّت".
ثمّ إنّ الحرّ ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام 20, ولمّا اقترب من خيمة الإمام عليه السلام - وكإشارة منه على ترك الحرب والقتال-


190


خلع درعه وأظهر أنّه قد جاء طالباً الأمان, واقترب إلى الحدّ الذي عرفه الجميع, فسلّم على الإمام وقال له: "جعلني الله فداك يا بن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان, والله الذي لا إله إلّا هو ما ظننت أنّ القوم يردّون عليك ما عرضته عليهم أبداً, ولا يبلغون منك هذه المنزلة... وإنّي تائب إلى الله ممّا صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟" فقال له الحسين عليه السلام: "نعم يتوب الله عليك ويغفر لك" ثمّ قال له: "انزل عن فرسك".

فقال الحرّ: "أنا لك فارساً خيرٌ منّي راجلاً أقاتلهم على فرسي ساعة"21.
قال ابن أعثم: فإذا الحرّ بن يزيد الرياحيّ قد أقبل يركض فرسه حتّى وقف بين يدي الحسين عليه السلام , فقال له: "يا بن بنت رسول الله، كنت أوّل من خرج عليك أفتأذن لي أن أكون أوّل مقتولٍ بين يديك لعلّي أبلغ بذلك درجة الشهداء فألحق بجدّك صلى الله عليه وآله وسلم"22؟.

فقال له الإمام عليه السلام: "فاصنع يرحمك الله ما بدا لك". ومن ثمّ تقدّم الحرّ نحو الميدان وخاطب أهل الكوفة فحمل عليه


191


الأعداء يرمونه بالنبال الكثيرة23.

ويدّعي المؤرّخون بأنّ أوّل من تقدّم إلى قتال القوم الحرّ بن يزيد الرياحيّ وهو يرتجز الشعر فقاتلهم ما بين كرٍّ وفرٍّ حتّى عقر فرسه فوقع وبقي الحرّ راجلاً, فجعل يحمل عليهم ويحملون عليه يقاتل قتال الأبطال حتّى هجم عليه جماعة فصرعوه وجرح جراحات بليغة فجي‏ء به نحو الحسين عليه السلام ووضعوه بين يديه وفيه رمق, فأخذ الحسين عليه السلام يمسح بيديه المباركتين وجهه ويقول له: "أنت الحرّ كما سمّتك أمّك حرّاً، وأنت الحرّ في الدنيا والآخرة".

وبعد أن سمع الحرّ هذه البشارة من الإمام عليه السلام فاضت روحه24 رضوان الله عليه.


192


هوامش

1- سورة آل عمران الآية 8.
2- بحار الأنوار ج 68 ص 364.
3- معاني الأخبار ص 345.
4- معاني الأخبار ص 348.
5- تحف العقول ص 91.
6- ميزان الحكمة ج 1 ص 725.
7- بحار الأنوار ج 67 ص 392.
8- عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 1 ص7.
9- سورة القصص الآية 83.
10- سورة النساء الآية 100.
11- تحف العقول 472.
12- بحار الأنوار ج 68 ص 366.
13- أصول الكافي ج 2 ص 60.
14- بحار الأنوار ج72 ص 379.
15- ثواب الأعمال ص 140.
16- كمال الدّين وتمام النعمة ص 351.
17- بحار الأنوار ج 84 ص 295.
18- وسائل الشيعة ج 17 ص 200.
19- وقعة الطف ص ‏213.
20- وقعة الطفّ ص ‏214.
21- الإرشاد ج ‏2 ص ‏99.
22- الفتوح، ص ‏904.
23- الإرشاد، ج ‏2، ص ‏99-101.
24- الفتوح ص ‏904 و905.