بلاغ إلى المرأة

إيضاح

لا يمكن تحديد أو حصر عاشوراء في نطاق طبقة من النّاس، فإنّ تأثير هذه الملحمة يشمل الجميع، ودروسها للجميع أيضاً، ومن هنا فإنّ بلاغات عاشوراء المذكورة في هذا الكتاب عامّة للجميع، سواء النساء والرجال، والشباب والكهول.

ولكن، حيث إنّ النساء يشكّلن نصف المجتمع، وحيث إنّ إحدى المسؤوليّات المهمّة والمشهودة لنهضة عاشوراء كانت قد أُلقيت على كاهل نساء الركب الحسينيّ، وحيث إنَّ "عاشوراء" في خلودها مدينة بدرجة كبيرة إلى تضحيات أهل بيت الحسين عليه السلام عامّة، وزينب الكبرى عليها السلام خاصّة، لذا سنتناول في هذا الفصل المستقلّ بلاغات عاشوراء الموجّهة إلى المرأة المسلمة، من أجل أن تتجلّى الرسالة الاجتماعيّة السياسيّة للمرأة المسلمة في المجتمع، وكذلك من أجل دحض التضليل الإعلاميّ المعادي القائل بأنّ الإسلام يحرّم على النساء المشاركة في الأعمال الاجتماعيّة والحضور في ميادين الأنشطة العامّة، وليتّضح كذلك دور وأثر النساء المؤمنات في دعم جهاد الرجال ومجهودهم الحربيّ، وكذلك ليتبيّن كيف يمتزج العفاف والطهر مع الجهود والمجاهدات الاجتماعيّة التي يمكن أن تنهض بأعبائها النساء المؤمنات، وتتجلّى أيضاً المسؤوليّة الخطيرة التي تقوم بها الأمّهات المؤمنات في تربية وإعداد الشهداء، وتنشئة جيل مؤمن شجاع مدافع عن الحقّ، وكذلك الدور الخطير والحسّاس الذي تقوم به المرأة المؤمنة في تبيين غايات وأهداف الشهداء والتبليغ بها، وكذلك دورها في ذكر وتوضيح وإحياء وحراسة خطّ الشهداء الفكريّ والعمليّ.

إنّ مجموعة هذه المحاور المهمّة تقتضي أن نُلقي نظرة مستقلّة على حضور النساء ودورهنّ في نهضة عاشوراء.


325


فلنقرأ مثلاً هذه العناوين التالية:

ـ مشاركة المرأة في الجهاد.

ـ قيامها بتعليم وتلقين الصبر والمقاومة.

ـ دورها التبليغيّ بعد الملحمة والثورة والجهاد.

ـ دورها في المجاهدين وذوي الشهداء.

ـ دورها في إدارة أمور عوائل الشهداء ووارثي النهضة في الظروف الصعبة.

ـ دورها في حفظ القيم والأصول الإسلاميّة والالتزام بها حتّى في ظروف الأسر.

إنّ هذه العناوين من الممكن أن تكون موضوعاً لبحوث مفصّلة واسعة في مجرى معرفة عاشوراء، حتّى تكشف عن دور المرأة في تلك الملحمة المقدّسة.

ومن خلال نظرة أخرى، فإنّ المعرفة الإحصائيّة بحال ووضع المرأة في نهضة عاشوراء تبيّن بشكل أوضح كيف وفّى دور المرأة حقّ الحضور والمساهمة في النهضة أتمّ الوفاء.

وعلى هذا الصعيد يحسن التأمّل هنا بالمعلومات التالية:

إنّ النساء اللّاتي كُنَّ حضرن واقعة عاشوراء بعضهن بناتُ عليّ عليه السلام، والأُخريات غيرهنّ من بني هاشم ومن غيرهم. ومن بنات أمير المؤمنين عليه السلام يمكن أن نذكر: زينب، أمّ كلثوم، فاطمة، صفيّة، أمّ هاني، ومن بنات سيّد الشهداء عليه السلام:سكينة، وفاطمة.

الرباب، عاتكة، أمّ محسن بن الحسن، ابنة مسلم بن عقيل، فضّة النوبيّة، أَمَة خاصّة للإمام الحسين عليه السلام، أمّ وهب بن عبد الله، و... من جملة النساء اللاّتي كنّ حاضرات في كربلاء1.

خمس من النساء خرجن من الخيم نحو الميدان: جارية مسلم بن عوسجة، أمّ وهب زوج عبد الله الكلبيّ، أمّ عبد الله الكلبيّ، أمّ عمرو بن جنادة، وزينب الكبرى عليها السلام التي كان لها دور أكبر وأكثر إلفاتاً للإنتباه من دور الأُخريات.

أمّ وهب كانت امرأة قد استشهدت عند مصرع زوجها الشهيد.


326


وهناك امرأتان نهضتا من شدّة الغضب والتأثّر والإحساس، واندفعتا للدفاع عن الإمام عليه السلام وقاتلتا الأعداء: إحداهما زوجة عبد الله بن عمير، والأخرى أمُّ عمرو بن جنادة التي سيأتي ذكرها.

(دلهم) زوجة زهير بن القين كانت قد انضمّت مع زوجها إلى الركب الحسينيّ في أحد منازل الطريق إلى كربلاء.

ويُنقل أنّ الرباب زوجة الإمام الحسين عليه السلام وهي أمّ سكينة وعبد الله الرضيع كانت أيضاً حاضرة في كربلاء.

إنّ خُطب زينب وأمّ كلثوم وفاطمة بنت الحسين عليهنّ السلام في الكوفة والشام تعتبر من الفصول المشرقة لهذه الملحمة المقدّسة، و... كذلك الأدوار والمواقف الأخرى التي قامت بها نساء وبنات قافلة النور طيلة مقاطع هذا السفر حتّى عودتهنّ إلى مدينة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم مرّة أخرى.

ومن الجدير بالنساء اليوم أن يكون لهنّ حضور تديّنيٌّ وملتزم في ميادين المواجهات السياسيّة والفعّاليّات الاجتماعيّة بالاستلهام من منهج عمل وتصرّف وسلوك نساء عاشوراء.


327


حضور المرأة السياسي في المجتمع

إنّ التكليف الاجتماعيّ للإنسان المسلم لا يخصّ الرجال فقط، فالمرأة المسلمة أيضاً مكلّفة على أساس التزامها الدينيّ الإسلاميّ في أن يكون لها موقف اتّجاه حركة أحداث الصراع بين الحقّ والباطل في المجتمع، وفي مسألة الولاية والقيادة، فتدافع عن القيادة الحقّة، وتنتقد حكومات الباطل وأخطاء ومفاسد المسؤولين غير المؤهّلين، وأن يكون لها حضور فعّال في الميدان فيما إذا استوجب الدفاع عن الدين أن يكون لها ذلك الحضور.

في الدفاع عن الإمام المعصوم عليه السلام، وفي كشف أساليب الحكّام المنحرفة، وقفت زينب الكبرى عليها السلام أيضاً في نهضة كربلاء جنباً إلى جنب مع أخيها الحسين بن عليّL تشاركه أعباء المسؤوليّات الخطيرة والثقيلة فيها، ومن أجل القيام بهذا الدور حقّ القيام كان لها حضور فعّال ومؤثّر في معيّة الإمام عليه السلام في المدينة، ومنها إلى مكّة، ومن هناك إلى كربلاء، ثمّ في الميادين والمشاهد المختلفة التي كانت بعد مقتل الحسين عليه السلام في أسفار الأسر، ثمّ في المدينة مرّة أخرى حيث كانت عليها السلام العنصر الرئيس المحرّض على الثورة والانتفاضة ضدّ الحكم الأمويّ.

إنّ المحاور الرئيسة التي يمكن تسجيلها عن "حضور المرأة في نهضة عاشوراء" هي:

1-
الصبر والثبات والمقاومة قبال المصاعب والمصائب سواء في جميع حركة أحداث النهضة أو في حركة أحداث ما بعد واقعة عاشوراء.


328


2- الجرأة والشجاعة البطوليّة في كشف الحقائق وقول كلمة الحقّ أمام السلطان الجائر، وذلك في الإسلام من أعظم أنواع الجهاد.

3-
تبليغ وتبيين وتوضيح أهداف وغايات وحقّانيّة نهضة عاشوراء طيلة مراحل السفر من قبل زينب وأمّ كلثوم وباقي نساء أهل البيت عليهم السلام، حتّى بعد عودته بقيّة الركب الحسينيّ إلى المدينة من كربلاء.

4-
أعمال التمريض والمساعدة والإمداد في يوم عاشوراء وفي ما بعد ذلك.

5-
رفع روحيّة أصحاب الإمام عليه السلام وتشجيعهم، أو حثّ أمّهات أو أزواج بعض الشهداء أبناءهنّ أو أزواجهنّ وتحريضهم على الدفاع عن الإمام عليه السلام وعلى الاستشهاد في سبيل الحقّ، كالذي قامت به بعض نساء أهل البيت عليهم السلام، وما فعلته (دلهم) زوجة زهير، وزوجة مسلم بن عوسجة، وأمّ وهب، وزوجة خولّى، وغيرهن...

6- العمل الإداريّ في ظروف الأزمات والشدائد، وكان هذا دور زينب الكبرى عليها السلام بالأساس، حيث كانت عليها السلام، سيّدة الأسارى، وكفيلة الأطفال، وهي التي قامت بحفظ بقايا الركب الحسينيّ المفجوعين وإدارة أمورهم في الظروف الصعبة أيّام الأسر، وفي مواجهة قوّات العدوّ، وفي الارتحال المرير من مدينة إلى مدينة، إلى أن وصلوا الشام، وفي رحلة العودة الحزينة مرّة أخرى.

7- تغيير ماهيّة الأسر وتبديلها إلى تحرير وتوعية النّاس وإيقاظهم واستنقاذهم من تضليل الإعلام الأمويّ، ولقد كان لزينب وأمّ كلثوم، وفاطمة بنت الحسين عليهنَّ السلام دور مهمّ في هذا الصدد.

8- تعميق البُعد المأساويّ لواقعة عاشوراء، وقد تحقّق هذا في نفس حضور النساء والبنات في الواقعة، وفي التأثير العاطفيّ الناتج عن حضورهن في ميادين ومشاهد ما بعد الواقعة، وفي تعبئة العواطف والمشاعر لصالح جبهة الحقّ، ولقد كان بكاء أهل البيت عليهم السلام وإقامتهم لمآتم العزاء، وإبكاء أهل الكوفة والشام بتأثير تلك الخُطب المُقرحة للقلوب، من أسباب تعميق هذا البعد العاطفي لمأساة ملحمة عاشوراء.

9- رعاية المرأة المسلمة الملتزمة للحدود الإلهيّة والعفاف ومتانة التصرّف والسلوك حتّى في ظروف الأسر أو في قبضة جنود العدوّ.


329


مشاركة المرأة في الجهاد

يطول بنا البحث والمقام إذا أردنا أن نحقّق في جميع موارد وشواهد هذا "الحضور"، ولذا فإنّنا سنشير هنا إلى بعض المشاهد والمواقف لنساء مؤمنات من غير بيت أهل العصمة عليهم السلام، من أجل توضيح بُعد مشاركة المرأة المسلمة في الجهاد.

"طوعة"


لمّا دخل مسلم بن عقيل عليه السلام الكوفة ممثّلاً للإمام الحسين عليه السلام، كان يقرأ على الشيعة كتاب الإمام عليه السلام إليهم كلّما اجتمعت إليه جماعة منهم، فبايعه منهم أُلوف عديدة، حتّى صار مسلم عليه السلام يشكّل خطراً حقيقيّاً على النظام الأمويّ في الكوفة، لكنّ الأوضاع في هذه المدينة تغيّرت بعد مجيء ابن زياد إليها شيئاً فشيئاً، حتّى اعتقل هاني بن عروة (رضوان الله عليه)، فاضطر مسلم عليه السلام إلى التعجيل بالخروج ضدّ ابن زياد، فكانت محاصرة القصر، ثمّ آلت الأمور إلى تفرّق النّاس عن مسلم عليه السلام وخاصّة أصحابه2، حتّى إذا جاء الليل مضى مسلم عليه السلام وحيداً إلى دار"طوعة" المرأة المؤمنة المضحيّة3، فآوت مسلماً عليه السلام تلك الليلة وقامت بخدمته خير


330


قيام، معرّضة نفسها بشجاعة إلى خطر انتقام ابن زياد منها، كلّ ذلك وفاءً منها لمولاها الإمام الحسين عليه السلام وممثّله مسلم بن عقيل4 عليه السلام.

وفي آخر مرحلة من مراحل نهضة مسلم عليه السلام تحوّلت دار تلك المرأة المؤمنة المجاهدة "طوعة" إلى ميدان المواجهة بين مسلم عليه السلام وبين جُند ابن زياد، وفي ختام تلك المواجهة خرج عليه السلام من دار "طوعة" وقاتل الجند المهاجمين في ميادين الأزقّة....5

"دلهم" زوجة زهير بن القين:


تنقل بعض المصادر التأريخيّة أنّ الإمام الحسين عليه السلام لمّا التقى زهير بن القين (رضوان الله عليه) في منزل (زرود) من منازل الطريق إلى الكوفة، أرسل عليه السلام رسوله إلى زهير يدعوه إلى لقائه، وفي البدء لم يكن زهير راغباً في لقاء الإمام عليه السلام وأظهر عدم ميله6، لكنّ زوجته (دلهم) عاتبته في ذلك وحثّته على لقاء الإمام عليه السلام قائلة: "أيبعث إليك ابن رسول الله ثمّ لا تأتيه!؟ سبحان الله، لو أتيته فسمعتَ من كلامه ثمّ انصرفت!"7، وما إن ذهب زهير إلى الإمام عليه السلام حتّى عاد حسينيّاً قد انضمّ إلى الإمام 8عليه السلام.

فلعلّ زهير بن القين (رضوان الله عليه) ما كان ليوفّق إلى الانضمام إلى صفّ الحقّ والفوز بالشهادة في ملحمة عاشوراء الخالدة، لو لم يكن حثُّ وترغيب زوجته "دلهم بنت عمرو" إيّاه على لقاء الإمام عليه السلام.


331


"أمُّ وهب"

كانت أمُّ وهب زوجة لعبد الله بن عمير الكلبيّ، وكانت تعيش معه في الكوفة، ولمّا عزم زوجها على الارتحال ليلاً من الكوفة إلى كربلاء لنصرة سيّد الشهداء عليه السلام، أصرّت عليه أمُّ وهب أن يأخذها معه أيضاً، فارتحلا ووصلا إلى كربلاء في الليل والتحقا بأنصار الإمام عليه السلام، وفي يوم عاشوراء لمّا برز زوجها إلى ميدان القتال أخذت أمّ وهب عموداً ثمّ أقبلت نحو زوجها تقول:

"فداك أبي وأمّي قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، فأقبل إليها يردّها نحو النساء، فأخذت تجاذبه ثوبه وتقول: إنّي لن أدعك دون أن أموت معك! فجاء إليها الحسين عليه السلام وقال: جُزيتم من أهل بيت خيراً، ارجعي رحمك الله إلى النساء فاجلسي معهنّ فإنّه ليس على النساء قتال. فانصرفت إليهنّ.

ولمّا استشهد عبد الله زوجها خرجت تمشي إلى زوجها حتّى جلست عند رأسه تمسح التراب عنه وتقول: هنيئاً لك الجنّة! أسأل الله الذي رزقك الجنّة أن يصحبني معك! فقال شمر لغلامه رستم: اضرب رأسها بالعمود! فضرب رأسها فشدخه، فماتت مكانها رحمها الله"
9، فكانت المرأة الوحيدة التي استشهدت في معركة الطفّ يوم عاشوراء.

وكان لأمّ وهب ابن قد استشهد أيضاً يوم عاشوراء، أمّ وهب تشجّع ابنها وتحثّه يوم عاشوراء على الجهاد بين يدي الإمام حتّى الفوز بالشهادة، فلم يزل يقاتل حتّى قتل من الأعداء جماعة، فرجع إلى أمّه فقال: "يا أمّاه أرضيت؟ فقالت: ما رضيتُ أو تقتل بين يدي الحسين عليه السلام. فرجع فلم يزل يقاتل حتّى استشهد"10.

"أمُّ عمرو بن جنادة"


كان عُمْرُ عَمرو بن جنادة (رضوان الله عليه) يوم استشهد يوم عاشوراء إحدى عشرة سنة، فهو أصغر أنصار الحسين عليه السلام سنّاً من غير الهاشميّين، وكان أبوه جنادة قد


332


استُشهد يوم عاشوراء في الحملة الأولى، فأمرته أمّه بعد أن قُتل أبوه في الحرب أن يتقدّم لنصرة الحسين عليه السلام، فوقف أمام الإمام الحسين عليه السلام يستأذنه، فلم يأذن له، فأعاد عليه الاستئذان، فقال الحسين عليه السلام:" إنّ هذا غلامٌ قُتل أبوه في المعركة، ولعلّ أمَّه تكره ذلك. فقال عمرو: إنّ أمّي هي التي أمرتني. فأذن له فتقدّم إلى الحرب فقُتل، وقُطع رأسه ورمي به إلى جهة الحسين عليه السلام، فأخذته أمُّه وضربت به رجلاً فقتلته! وعادت إلى المخيّم فأخذت عموداً لتقاتل به فردَّها الحسين عليه السلام "11.

وكانت هذه الأمّ المجاهدة تسمّى "بحريّة بنت مسعود الخزرجيّ" ويُروى أنّها لمّا حملت رأس ابنها قالت: "أحسنتَ يا بُنَيَّ، يا سرور قلبي، ويا قُرّة عيني!"12

"زوجة مسلم بن عوسجة"

كانت "أمُّ خلف" زوجة مسلم بن عوسجة من نساء الشيعة المرموقات، وكانت من النساء اللّاتي حضرن كربلاء، ومن أنصار سيّد الشهداء عليه السلام.

حينما استشهد زوجها مسلم، تهيّأ ابنها "خلف" للقتال، غير أنَّ الإمام عليه السلام طلب منه أن يبقى لرعاية أمّه وخدمتها، لكنّ أمّه حرّضته على الجهاد في سبيل نصرة الإمام عليه السلام وقالت له: "لن أرضى عنك إلّا بنصرة ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فبرز"خلف" إلى الميدان مسرعاً، فقاتل قتال الأبطال حتّى استشهد... ولمّا ألقوا برأسه إلى أمّه حملت رأسه بشجاعة وقبّلته وبكت"
13.

وهذه المرأة المجاهدة أيضاً، بتشجيعها ابنها وتحريضه وحثّه على الجهاد في سبيل نصرة الدين، وبموقفها المناسب اللائق عند استشهاد ابنها، تكون من القدوات اللّاتي يُلهمن أمّهات الشهداء كيف يستقبلن برحابة صدر تقديم أبنائهنّ من أجل نصرة الإسلام.


333


التزام المرأة بالحجاب والعفاف

من المظاهر البارزة لحضور النساء في ملحمة عاشوراء تقيّدهنّ والتزامهنّ بحرمات وأحكام الله ومراعاتهنّ لمسائل الحجاب والعفاف.

إنّ حضوراً كهذا كاشف عن أنّ مشاركة المرأة في ميادين الجهاد والدفاع عن الحقّ لا تتنافى مع الفعاليّات التي تقوم بها المرأة خارج البيت بشرط أن ترعى حريم عفافها والحدود الإلهيّة وتلتزم بما يجب عليها من متانة السلوك والتصرّف.

لقد كان أهل بيت الحسين عليه السلام في سفر الأسر أهل الدعوة إلى هذه المتانة وهذا العفاف برغم كلّ اعتداءات جيش الكوفة على حريمهنَّ المقدّس حيث سلبوهنّ وسائل حجابهنّ، لكن لأنّهنّ حرائر بيت النبوّة والرسالة فقد كُنَّ المعترضات بصرامة وشدّة على هتك حرمتهنّ، وهذا دليل آخر على أهميّة وقداسة حفظ الحجاب والعفاف حتّى في أسوأ الظروف الاجتماعيّة والتضييقات القهريّة المفروضة على المرأة المؤمنة الملتزمة، ولنعرض هنا بعض الأمثلة:

"أمّ كلثوم" ابنة أمير المؤمنين عليه السلام التي كانت امرأة على مستوىً رفيع من الفصاحة والبلاغة والقدرة على الخطابة، وما فتأت طيلة مدّة الأسر تفضح ظلم الحكّام الأمويّين وطغيانهم وجرائمهم بخُطبها، لمّا أدخلوا ركب الأُسارى إلى الكوفة واجتمع النّاس للتفرّج عليهم، خطبت عليها السلام في جموع الحاضرين من أهل الكوفة، ووبّختهم على ضعفهم وتقاعسهم عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام وتقصيرهم في ذلك، وفي بدء دخولهم الكوفة لمّا رأت عليها السلام الجموع الغفيرة قد احتشدت للنظر


334


إلى السبايا صرخت في وجوههم قائلة: "يا أهل الكوفة! أما تستحيون من الله ورسوله أن تنظروا إلى حرم النبيّ؟!"14.

"ولمّا وضح لابن زياد ولولة النّاس ولغط أهل المجلس خصوصاً لمّا تكلّمت معه زينب العقيلة عليها السلام خاف هياج النّاس فأمر الشرطة بحبس الأسارى في دار إلى جنب المسجد الأعظم، قال حاجب ابن زياد: كنت معهم حين أمر بهم إلى السجن، فرأيت الرجال والنساء مجتمعين يبكون ويلطمون وجوههم. فصاحت زينب عليها السلام بالنّاس: "لا تدخل علينا إلّا مملوكة أو أمّ ولد، فإنّهنّ سُبين كما سُبينا"، ذلك لأنّ المسبيّة تعرف مضض عناء الذلّ فلا يصدر منها غير المحمود من شماتة وغيرها، وكان ذلك أيضاً لرعاية حريم حرائر بيت العصمة، وإبعاد أعين النّاس عن ذريّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وبنات الحسين عليه السلام وبقيّة نساء الركب الحسينيّ، وكان ذلك أيضاً لجلب عواطف الذين يعرفون أكثر من غيرهم معاناة الأسارى فيتصرّفون مع عوائل الشهداء تصرّفاً حسناً ويعاملونهم معاملة حسنة15.

من المحاور الرئيسة في خُطب زينب وأمّ كلثوم وفاطمة بنت الحسين (عليهنّ السلام) محور التشنيع بجناية الأعداء في هتكهم لحرمة أهل البيت عليهم السلام، والاعتراض على أسلوب معاملة الوالي الظالم ومأموريه مع حرم وحريم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم.

ولمّا ورد ركب أُسارى أهل البيت عليهم السلام إلى الشام أيضاً، وقربوا من دمشق، "أرسلت أمّ كلثوم إلى الشمر تسأله أن يُدخلهم في درب قليل النظّار، ويخرجوا الرؤوس من بين المحامل لكي يشتغل النّاس بالنظر إلى الرؤوس. فسلك بهم على حالة تقشعّر من ذكرها الأبدان وترتعد لها فرائص كلّ إنسان، وأمر أن يُسلك بهم بين النّظار وأن يجعلوا الرؤوس وسط المحامل"16.

وقد نُقل هذا الطلب أيضاً عن لسان سكينة بنت الحسين عليهما السلام. يُنقل عن سهل بن سعد وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "خرجت إلى بيت المقدس حتّى


335


توسّطتُ الشام، فإذا أنا بمدينة مطّردة الأنهار، كثيرة الأشجار، قد علّقت الحجب والديباج، والنّاس فرحون مستبشرون، وعندهم نساء يلعبن بالدفوف والطبول، فقلت في نفسي: إنّ لأهل الشام عيداً لا نعرفه! فرأيت قوماً يتحدّثون، فقلت لهم: ألكم بالشام عيدٌ لا نعرفه؟!

فقالوا: نراك يا شيخُ غريباً!

فقلت: أنا سهل بن سعد، قد رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقالوا: يا سهل! ما أعجبك أنّ السماء لا تمطر دماً، والأرض لا تنخسف بأهلها!

فقلت: وما ذاك؟!

قالوا: هذا رأس الحسين يُهدى من أرض العراق!

فقلت: وا عجباً! يُهدى رأس الحسين والنّاس يفرحون! من أيّ باب يدخل؟

وأشاروا إلى باب الساعات، فأسرع سهل إليها، وبينما هو واقف وإذا بالرايات يتبع بعضها بعضاً، وإذا بفارس بيده لواء منزوع السنان، وعليه رأس من أشبه النّاس وجهاً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو رأس ريحانته الحسين، وخلفه السبايا محمولة على جمال بغير وطاء، وبادر سهل إلى إحدى النسوة فسألها: من أنتِ؟

فقالت: أنا سكينة بنت الحسين.

فقال: ألك حاجة؟ فأنا سهلٌ صاحب جدّك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقالت: قل لصاحب هذا الرأس أن يقدّمه أمامنا حتّى يشتغل النّاس بالنظر إليه ولا ينظرون إلى حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأسرع سهل إلى حامل الرأس فأعطاه أربعمائة درهم، فباعد الرأس عن النساء"
17.

والمثال الأوضح والأبرز للاعتراض على هذا الهتك للحرمة، وللدفاع عن الحجاب، قد تجسّد في خطبة زينب الكبرى عليها السلام، تلك الخطبة المثيرة التي ألقتها هذه الصدّيقة الصغرى عليها السلام أمام يزيد في قصره بالشام، حيث كان ممّا خاطبته به قولها: "... أظننتَ يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء،


336


فأصبحنا نُساق كما تُساق الأسارى، أنّ بنا على الله هواناً، وبك على الله كرامة؟!... أمِنَ العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبايا، قد هتكت ستورهنّ وأبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلدٍ إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد..."18.

إنّ هذه الاحتجاجات والاعتراضات على انتهاك وهتك حكومة يزيد لحرمة العفاف والحجاب، هي دفاع عن القيم الدينيّة وعن المقدّسات وعن حريم الحرمات الإلهيّة، كان يُسمع على لسان أسارى أهل البيت عليهم السلام.


337


تربية الشهيد

من نوع النماذج النسائيّة العالية التي مرّت بنا كأمّ وهب، وأمّ عمرو بن جنادة الأنصاريّ، وأمّ خلف، وغيرهنّ، يتجلّى لنا أنّ المرأة المسلمة النموذجيّة ليست لا تكتئب ولا تتضايق ولا تحزن لاستشهاد ابنها في سبيل العقيدة ودين الله فحسب، بل هي تحرّض وتحثّ وتشوّق ابنها لأجل مثل هذه المجاهدات والتضحيات، وترغّبه في القتال والاستشهاد في سبيل الإمام الحقّ.

إنّ تربية جيل يعشق الشهادة ويطلبها، جيل فداء وتضحية، بلاغ من بلاغات عاشوراء إلى جميع الأمّهات، ففي زينب الكبرى عليها السلام التي قدّمت ابنيها محمّداً وعوناً في كربلاء شهيدين بين يدي الإمام عليه السلام نرى تجلّياً آخر للأمّهات الملتزمات المربّيات للشهداء في حجورهنّ الطاهرة، كانت زينب عليها السلام ابنة شهيد، وأخت شهيد، وأمَّ شهيد، وعمّة شهيد أيضاً، وإنّ صبرها ومقاومتها في مواجهة فقد هذه القرابين الإلهيّة هما اللذان صنعا منها "بطلة الصبر".

يقول إمام الأمّة (رضوان الله عليه) في صدد نساء إيران الإسلاميّة الرشيدات الشجاعات:

"لقد أثبتت النساء في عصرنا أنّهنّ في الجهاد جنباً إلى جنب مع الرجال، بل هنَّ مُقدّمات عليهم"
.

"أنتنّ أيّتها الأخوات العزيزات الشجاعات أَمَّنتُنَّ النصر للإسلام جنباً إلى جنب مع الرجال"
.

"نساؤنا العزيزات صرن السبب في أن يجد الرجال أيضاً الجرأة والشجاعة
".


338


"كُلّما رأيت النساء المحترمات، المستعدّات بعزم وإرادة قاطعة لكلّ أنواع المعاناة والزحمات، بل للشهادة أيضاً في سبيل الهدف، يغمرني الاطمئنان بأنّ هذا الطريق خاتمته النصر"19.

إنّ مروراً عابراً بأقوال وتصريحات أمّهات الشهداء في صدد القرابين الإلهيّة الذين كنّ ولم يزلنَ يقدِّمنهم أضاحي على عتبة الإسلام في الثورة الإسلاميّة يكشف لنا بوضوح عن عمق تأثّرهنّ بالسلوك والموقف (الأسوة) للنساء المؤمنات المجاهدات الّلاتي حضرن واقعة عاشوراء.

حفظ المرأة ميراث الشهداء، وحراستها لخطّ ودم الشهداء مع التزامها بعفافها وحجابها، وتبيين أهداف وغايات الشهداء، والصبر على الشهادة والبلاء في سبيل الله، جميع هذه الدروس وغيرها ممّا تعلّمته نساؤنا من كربلاء.

بلاغ عاشوراء إلى النساء، دعوتهنّ إلى معرفة رسالتهنّ السياسيّة والقيام بها، وإسنادهنّ لكفاح الشهداء، وقيامهنّ بالفعّاليات الاجتماعيّة مقترنة بالتزامهنّ بالعفاف والنزاهة وصيانة الطهر والشرف، وتربية جيل يطلب الشهادة ويتوق إليها، وتبيين أهداف وغايات الشهداء والتبليغ بها، والصبر على استشهاد الأعزّاء الأحبّاء.

وكما كانت هكذا إلى الآن، سوف تبقى هذه الدروس والبلاغات خالدة إلى الأبد.


339


هوامش

1- راجع: زندكانى سيّد الشهداء، عماد زاده، ج2، ص124.
2- راجع التفصيل التحليليّ التحقيقيّ لحركة أحداث الكوفة أيّام مسلم بن عقيل عليه السلام في الجزء الثالث من موسوعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، ص49 ـ 172.
3- يقول الدينوريّ في حقّ طوعة: "وكانت ممّن خفّ مع مسلم" (الأخبار الطوال، ص239) أي أنّها رحمها الله ممّن خرج معه، أي أنّها كانت من الثوّار على ابن زياد.
4- هناك نقل تأريخيّ يصف حال مسلم عليه السلام في الليل وحيداً: "... ثمّ خرج من الباب فإذا ليس معه إنسان يدلّه! فالتفت فإذا هو لا يحسّ أحداً يدلّه على الطريق..." وهذا ما لا يقبله التحقيق العلميّ في الوقائع والحقائق التأريخيّة. راجع في هذا الصدد الجزء الثالث من موسوعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، ص 134 ـ 135.
5- راجع: الارشاد، ج2، ص57 و58.
6- هناك تشكيك في الدعوى التأريخيّة المشهورة بأنّ زهير كان عثمانيَّ الهوى، وكان يتحاشى لقاء الإمام عليه السلام في منازل الطريق... ذلك لأنّ هذه الدعوى تخالف الحقائق الزمانيّة المكانيّة والوثائقيّة (راجع الجزء الثالث من موسوعة مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، 215 ـ 302.
7- تاريخ الطبريّ، ج3، ص303.
8- راجع مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص208.
9- راجع: إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام ، ص 179 ـ 181.
10- راجع: بحار الأنوار، ج45، ص17، ويلاحظ المتتبّع أنّ هناك خلطاً في بعض المصادر التأريخيّة بين قصّة عبد الله بن عمير الكلبيّ (رضوان الله عليه) وبين قصّة وهب بن وهب (رضوان الله عليه) حيث تكون أمّ وهب مع الأوّل زوجته، وأمّ وهب مع الثاني أمّه، ولمعرفة تفاصيل هذا الخلط لا بأس بمراجعة الجزء الرابع من موسوعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة)، ص304 ـ 306.
11- راجع: إبصار العين في أنصار الحسين عليه السلام ، ص159.
12- راجع: تنقيح المقال، ج2، ص327، تسلية المجالس، ج2، ص297.
13- راجع: رياحين الشريعة، ج3، ص305.
14- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص400.
15- نفس المصدر، ص424.
16- مقتل الحسين عليه السلام ، للمقرّم، ص324 و348، دار الكتاب الإسلاميّ.
17- راجع: حياة الإمام الحسين بن عليّ عليه السلام ، ج3، ص370 و371.
18- نفس المصدر، ج3، ص378.
19- العبارات أعلاه مأخوذة من كتاب "الكلمات القصار"، ص207 و208، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخمينيّ.