بلاغات الإحياء

إيضاح

الدين ليس موجوداً في الآيات القرآنيّة وفي الروايات فحسب بل يجب أن يتجسّد في الحياة العمليّة للمجتمع الإسلاميّ، فلا يكفي صِرف الانتساب إلى الدين بدون أن يكون له حضور فعّال في متن حياة المسلمين الفرديّة والاجتماعيّة، وإلّا فإنّ الإسلام لن يكون بلا تطبيق إلّا "هويّة شخصيّة" للمسلم، إضافة إلى هذا فإنّ أغلب ما يبقى من الحركات الثوريّة بعد مضيّ زمان طويل هو الظواهر السطحيّة والقشور، أمّا الأهداف الأصيلة للحركة الثوريّة ومحتواها الحقيقيّ فيترك في العادة وينزوي، أو يتعرّض إلى ضعف بعد قوّة، وفي أسوأ الأحوال تحتلّ "البدع" مجالات حياة المجتمع بدلاً من "السنن"، وتمسخ روح الدين، فلا يبقى منه إلّا الرسم والهيكل.

وهاهنا تفرض وتحتّم رسالة أئمّة الدين والعلماء الربانيّين في "إحياء" السنن الدينيّة ومقارعة البدعة أن يقوموا لِلَّه وينهضوا من أجل إعادة إحياء جوهر الدين ومحتواه والشعائر والأهداف الدينيّة، وتعريف النّاس بالبدع والمبتدعين حتّى يتضح سبيل الدين تماماً فلا يكتنفه إبهام ولا تشويش، وحتّى لا يُبتلى السائرون على هذا الصراط القويم بحيرة أو ضلالة.

وكان من الدور العام والرسالة المشتركة لأئمّتنا عليهم السلام دور ومهمّة "إحياء الدين" والحفاظ على المعالم الإسلاميّة التي نُسيت أو تعرّضت للتحريف نقيّة مشرقة على حقيقتها بلا تحريف، فكلٌّ منهم عليهم السلام حافظ للدين ومحيي للشريعة ومميت للبدعة، نقرأ في دعاء الإمام السجّاد عليه السلام في يوم عرفة: "ربّ صلّ على أطائب أهل بيته الذين اخترتهم لأمرك، وجعلتهم خزنة علمك، وحفظة دينك... اللّهمّ إنّك أيّدتَ


293


دينك في كلّ أوان بإمام أقمته علماً لعبادك... اللّهمّ فأوزع لوليّك شُكر ما أنعمتَ به عليه... وأقم به كتابك وحدودك وشرائعك وسنن رسولك صلواتك اللّهمّ عليه وآله، وأحي به ما أماته الظالمون من معالم دينك..."1، ونقرأ في الدعاء للإمام صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف): "... وأحي به سنن المرسلين ودارس حكم النبيّين، وجدّد به ما امتحى من دينك وبُدِّل من حُكمك، حتّى تُعيد دينك به وعلى يديه جديداً غضّاً محضاً صحيحاً لا عوج فيه ولا بدعة معه...."2.

ولقد كانت عاشوراء الحسين عليه السلام برنامج إحياء الدين ومعالمه المختلفة، ليقوم الدين في ظلّ بذل الدم والجود بالنفس، ولتكون سيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قدوة المسلمين في العمل والسلوك، وليعود الدين عزيزاً في المجتمع3.

إنّ الجهود التي بذلها الأئمّة المعصومون عليهم السلام وأتباعهم والشعائر التي سنّوها لإحياء أصل واقعة عاشوراء وقيمها، ومواجهتهم لسياسة الأعداء في التعتيم على أمر الواقعة وحقيقتها وتشويه مجرياتها، ودفن تضحيات ومناقبيّة أبطال ملحمة عاشوراء في بئر النسيان، تُعتبر برنامجاً آخر على صعيد إحياء الدين، وبلاغ هذا البرنامج هو: ضرورة تبيين أهداف النهضة الحسينيّة، وتنوير أذهان النّاس بحقائقها وقيمها، والمحافظة على إحياء شعائرها وملاحمها وذكرياتها.


294


الإحياء

ثَمَّ ملاحظة استقرائيّة تأريخيّة على مسار كثير من الحركات الثوريّة الإصلاحيّة والانقلابيّة، وهي أنّه بعد مدّة من عهد انتصارها وسيطرتها على الحكم، خصوصاً بعد رحيل قائدها الأوّل، أو بعد رحيل رعيلها الأوّل والجيل الذي صنع انتصاراتها، إذا سيطر على قيادتها وعلى مقاليد الحكم رجالٌ بلا تأهّل ولا استحقاق، يمضي أمرها سفالاً شيئاً فشيئاً، فتفقد أهدافها الأولى وقيمها الكبرى قوّتها أو تُنسى، وتتراخى هِمَمُ النّاس وعزائمهم عن الالتزام بها.

ويلاحظ على صعيد النهضات الدينيّة خاصّة أنّ ما ليس من الدين وهو (البدعة) يُقحم في متن الدين، وما هو من القواعد الدينيّة الأصيلة والأوّليّة ومن أُسس النهضة الدينيّة والمذهبيّة يُنسى ويُترك، وتروج المُحدثات المغايرة للسنن الأولى، ويُنقض حكم الله وقانونه.

ويُلاحظ على النّاس أيضاً أنّهم يخضعون لهذه الانحرافات ويألفونها شيئاً فشيئاً فلا يُرى منهم ردّ فعل معاكس يستحقّ الذكر، وأمّا الشعائر والمناهج والتقاليد فربّما تبقى هيكلاً بلا روح، وظواهر تشريفات ليس لها أثرٌ مهمّ.

وفي مثل أحوال كهذه يتحرّق حملةُ هَمِّ تلك الحركة والنهضة وورثة ذلك المذهب والدين أسفاً لما جرى، فيعملون ناهضين لإحياء رسالات وبلاغات الدين ومضامينه وأهدافه الأولى من جديد، لأجل إيقاظ المجتمع الخامد، وتوجيهه إلى أصول المذهب وما أوجبه الدين من الفرائض، وربّما اقترن هذا العمل بالتضحيات وبذل الأموال


295


والأنفس، حيث يكون من الواجب على محييي سنن الشريعة أن يضحّوا بأنفسهم لكي يستيقظ المجتمع من رقدته وغفلته ولكي يحيا الدين.

ولقد كانت نهضة كربلاء أعظم حركة إحيائيّة لأُسس الدين وأحكام الله تعالى، وفي مطالعة أقوال وخُطب الإمام الحسين عليه السلام يجد المتتبّع مرتكزات كثيرة على دوافع وغايات عديدة، مثل: إحياء الدين، وإجراء الحدود الإلهيّة، وإحياء السُنّة، وإماتة البدعة، ومحاربة الفساد، والدعوة إلى حكم الله والقرآن.


296


إحياء الكتاب والسُنّة

في نهضة كربلاء كان الهدف من جهاد أبطال هذه الملحمة المقدّسة أن يستعيد دين الإسلام عزّته، وأن تُصان الحُرمات الإلهيّة وتُحترم مرّة أخرى، وأن يُنصر دين الله، ونجد في أقوال الإمام الحسين عليه السلام أمثلة تعرّض فيها عليه السلام إلى أنّ السُنّة قد أُميتت، وأنّ البدعة والجاهليّة قد أُحييت، كما نجد في أقواله عليه السلام إشارات إلى إحياء القيم الدينيّة ومعالم الإسلام والأصول الحقّة التي كادت أن تموت.

فقد قال عليه السلام في رسالته إلى وجهاء البصرة وأهلها:

"... وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسُنّة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ السُنّة قد أُميتت، وإنّ البدعة قد أُحييت، وإنْ تسمعوا قولي وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد"
4.

ويقول عليه السلام في موقع آخر:

"إنَّ أهل الكوفة كتبوا إليَّ يسألونني أن أقدم عليهم لما رجوا من إحياء معالم الحقّ وإماتة البدع"
5.

ويقول عليه السلام في لقائه مع الفرزدق: "يا فرزدق! إنّ هؤلاء قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد في الأرض، وأبطلوا الحدود، وشربوا الخمور، واستأثروا في أموال الفقراء والمساكين، وأنا أولى من قام بنصرة


297


دين الله وإعزاز شرعه والجهاد في سبيله، لتكون كلمة الله هي العُليا"6.

ونسمع أيضاً عن هذا الهدف لهذه النهضة المقدّسة وعن فلسفتها لسان مسلم ابن عقيل عليه السلام في الكوفة، فحينما أسروه وأخذوه إلى دار الإمارة، قال له ابن زياد: إيهٍ يا ابن عقيل! أتيتَ النّاس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتّتهم وتفرّق كلمتهم وتحمل بعضهم على بعض!

فقال مسلم عليه السلام:"كلّا، لستُ أتيت، ولكنّ أهل المصر زعموا أنّ أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم، وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب"7.

وهذه التهمة كانت قد قيلت للإمام الحسين عليه السلام، فقد ورد في الرسالة التي كتبها عمرو بن سعيد الأشدق للإمام عليه السلام ليثنيه عن خروجه إلى العراق ويعيده إلى مكّة: "... بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أُعيذك من الشقاق، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك..."، فردّ عليه الإمام عليه السلام، وكان من ردّه: "أمّا بعدُ، فإنّه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عزَّ وجلَّ وعمل صالحاً وقال إنّني من المسلمين"8.

وقد أراد عليه السلام بهذا أن يُثبت ويُظهر أنّ حركته قيام لله وللإصلاح في أمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، وليست خروجاً وتمرّداً لتفريق الأمّة وشقّ عصا وحدتها كما يزعم طغاة بني أميّة ليجعلوا من هذه التهمة ذريعة لقتله.


298


الدفاع عن الدّين

في عهد سيطرة الأمويّين على مقدّرات المسلمين، وفي ظروف تلك السنين العجاف، كان الشيء الذي على وشك الزوال هو دين الله، وكان أهل البيت عليهم السلام أيضاً هم المدافعين والذابّين عن دين الله حقّاً، وكان الدفاع عن أهل البيت عليهم السلام دفاعاً عن الدين، وكان الدفاع عن الدين آنذاك يتجسّد في الاشتراك في الجهاد ضدّ الظُلم، وفي فضح الكفر الأمويّ المتخفّي بزيّ الإسلام.

في ميدان الحرب يوم عاشوراء وعند اشتداد القتال ساعة زوال الشمس تذكّر أبو ثمامة الصائديّ (رضوان الله عليه) الصلاة، فقال للإمام الحسين عليه السلام:" يا أبا عبد الله! نفسي لك الفداء، إنّي أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، ولا والله لا تُقتل حتّى أُقتل دونك إن شاء الله، وأحبّ أن ألقى ربّي وقد صلّيتُ هذه الصلاة التي دنا وقتها". فرفع الحسين عليه السلام رأسه ثمّ قال: " ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلّين الذاكرين، نعم هذا أوّل وقتها"9.

فوقف الحسين عليه السلام ليؤدّي الصلاة في أصحابه في موقف تذهل منه العقول ليحيي دين الله في ميدان الجهاد، فلمّا فرغ من الصلاة حرّض أصحابه على القتال قائلاً: "يا أصحابي! إنّ هذه الجنّة قد فتحت أبوابها، واتّصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وزُيّنت قصورها، وتألّفت ولدانها وحورها، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والشهداء الذين قتلوا معه، وأبي وأمّي يتوقّعون قدومكم، ويتباشرون بكم، وهم مشتاقون إليكم، فحاموا عن


299


دين الله، وذُبّوا عن حرم رسول الله"10.

ثمَّ إنّه عليه السلام صاح بأهله ونسائه، فخرجن... وصحن:

"يا معشر المسلمين، ويا عصبة المؤمنين، ألله الله، حاموا عن دين الله، ذبّوا عن حرم رسول الله وعن إمامكم وابن بنت نبيّكم، فقد امتحنكم الله بنا..."
11.

فلو لم يكن ذلك الجهاد والاستشهاد لما بقي للدين من أساس، وما بقي الدين محفوظاً وما علا صوت الأذان والتكبير مدى القرون إلّا ببركة تلك التضحيات وذلك الفداء، وكما قال الشاعر عن لسان حال الإمام الحسين عليه السلام:

إن كان دينُ محمّد لم يستقم                إلّا بقتلي، يا سيوف خذيني
12

ويؤكّد أبو الفضل العبّاس عليه السلام أيضاً حقيقة أصل "الدفاع عن الدين" في شعره الذي أنشده بعدما قُطعت يمينه المباركة حيث يقول13:

والله إن قطعتموا يميني                   إنّي أُحامي أبداً عن ديني
14

فهنالك إذن أهميّة خاصّة وقيمة سامية لمعرفة ما هي الظروف التي يُصبح فيها دين الله عرضة للخطر وللاضمحلال أو للزوال، حيث يجب القيام للدفاع عن الدين ونصرة الحقّ، ومن هنا كان اعتقادنا بأنّ الإمام الحسين عليه السلام وبقية شهداء الطّف (قدّس الله سرّهم) "أنصار دين الله"، ونسلّم عليهم في متون زياراتهم قائلين:

"السلام عليكم أيّها الذابّون عن توحيد الله"
15.

"السلام عليكم يا أنصار الله وأنصار رسوله... وأنصار الإسلام... "
16.

"السلام عليكم يا أنصار دين الله وأنصار نبيّه..."
17.


300


الدفاع عن الحقّ

كان سيّد الشهداء عليه السلام قد دعا النّاس إلى فريضة نصرة الحقّ والدفاع عن المظلوم والذود عن أهل بيت النبيّ عليهم السلام، التي هي فريضة وتكليف على جميع المسلمين، ولم يَدَع الإمام الحسين عليه السلام على هذا الصعيد حتّى عبيد الله بن الحرّ الجعفيّ الذي كان قد خرج من الكوفة ليعتزل مجريات حركة الأحداث فيها، ففي اللقاء الذي تمّ بينهما في خيمة عبيد الله بن الحرّ في منزل قصر بني مقاتل قال الإمام الحسين عليه السلام مخاطباً ابن الحرّ:

"أمّا بعدُ يا ابن الحرّ! فإنّ مصركم هذه كتبوا إليَّ وخبرّوني أنّهم مجتمعون على نصرتي، وأن يقوموا دوني ويقاتلوا عدوّي، وإنّهم سألوني عليهم فقدمتُ، ولستُ أدري القوم على ما زعموا؟ لأنّهم قد أعانوا على قتل ابن عمّي مسلم بن عقيل رحمه الله وشيعته! وأجمعوا على ابن مرجانة عبيد الله بن زياد يبايعني ليزيد بن معاوية!! وأنت يا ابن الحرّ، فاعلم أنّ الله عزَّ وجلَّ مؤاخذك بما كسبتَ وأسلفت من الذنوب في الأيّام الخالية، وأنا أدعوك في وقتي هذا إلى توبةٍ تغسل بها ما عليك من الذنوب، وأدعوك إلى نصرتنا أهل البيت، فإنّ أُعطينا حقّنا حمدنا الله على ذلك وقبلناه، وإنّ مُنعنا حقّنا ورُكبنا بالظُلم كنتَ من أعواني على طلب الحقّ"18.

كان الإمام الحسين عليه السلام يرى الحياة في الموت في سبيل الحقّ وإحيائه، وكان لا يعرف الخوف ولا يبالي بالقتل في هذا السبيل، أليس هو عليه السلام القائل:


301


"ما أهونَ الموت على سبيل نيل العزّ وإحياء الحقّ"19.

إنّ الموت من أجل الحقّ والاستشهاد في هذا السبيل عزّة وكرامة وشرف، وهذا الاعتقاد يمنح الإنسان الموقن به شجاعة ولا مبالاة بالموت، كمثل عليّ الأكبر عليه السلام الذي سمع أباه الحسين عليه السلام يسترجع وهم في مسيره نحو كربلاء، فقال: "يا أبت! جُعلتُ فداك، ممّ حمدت الله واسترجعت؟

قال عليه السلام:يا بنيَّ إنّي خفقتُ برأسي خفقة، فعنَّ لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم. فعلمتُ أنّها أنفسنا نُعيت إلينا!

قال له: يا أبت، لا أراك الله سوءً ـ ألسنا على الحقّ؟

قال عليه السلام:بلى، والذي إليه مرجع العباد!


قال: يا أبت، إذن لا نبالي نموت محقّين!"
20.


302


إحياء شعائر الدّين

إنّ إحياء الصلاة والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بُعدٌ آخر من أبعاد إحياء نهضة عاشوراء، نقرأ هذه الحقيقة في أقوال الإمام الحسين عليه السلام، ونقرأها أيضاً في متون زياراته عليه السلام وزيارات الشهداء الآخرين، مثلاً:

"أشهدُ أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وتلوت الكتاب حقَّ تلاوته، وجاهدت في الله حقّ جهاده..."
.

ونقرأ أيضاً خطاباً شبيهاً بهذا الخطاب في زيارة عاشوراء، وفي زيارة وارث وفي زيارة مسلم بن عقيل عليه السلام، وفي زيارات أخرى.

إنّ تكريم وتعظيم الشعائر الإلهيّة أساس حياة الدين، وقد تحقّق في ظلّ النهضة الحسينيّة الفصل والتمييز بين صفّ الصادقين الأبرار المقيمين حقّاً لجوهر الدين ومعالمه، ولحقيقة الصلاة وآدابها، التالين القرآن حقّ تلاوته، وبين صفّ الكاذبين المتعاطين بظواهر العبادات، الساحقين حقيقة الدين وباطنه بأقدامهم.

إنّ الصلاة الحقّة هي التي توجد رابطة المحبّة بين العبد وبين الله تبارك وتعالى، وتجعل المصلّي على صراط الدين القويم، أمّا الصلاة التي كان يؤدّيها جيش الكوفة ومجموعة طواغيت الحكم الأمويّ فليس فيها من الصلاة المفروضة إلّا بعض ظواهرها وحركاتها، وكذلك كانت تلاوتهم للقرآن، وهكذا كان أداؤهم لمراسم الحجّ وباقي العبادات، ذلك لأنّهم كانوا غرقى في المفاسد والمظالم، وفي المآثم والذنوب والترف، وكانت أيديهم ملطّخة بدماء الأبرياء المظلومين، إنّ عدم التقوى والتحرّز من ارتكاب المظالم واجتراح المآثم والخوض بالمفاسد وبدماء الأبرياء دليل قاطع على أنّ عبادة


303


هذا الإنسان الظالم الآثم المفسد الجاني عبادة قشريّة فاقدة للروح والحقيقة سواء في صلاة أو حجّ أو تلاوة قرآن أو غيرها من العبادات.

ولقد كان الإمام الحسين عليه السلام هو الذي بعث الحياة والروح من جديد في هذه الشعائر الإلهيّة والسنن الدينيّة وأدّاها حقّ الأداء، وأقامها حقّ الإقامة، وآتاها حقّ الإيتاء، ذلك معنى ما نقرأه في مخاطبته:

"أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، وتلوت الكتاب حقّ تلاوته، و..."
.

وهذا يعني أنّ الآخرين كانوا لا يتلون القرآن حقّ تلاوته، ولا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر، ولا يؤتون الزكاة حقّ الإيتاء، ولا يقيمون الصلاة حقّ الإقامة بل على اعوجاج وإمالة.

إنّ تلاوة القرآن حقّ تلاوته تتجسّد في همّة المسلم وانبعاثه إلى إحياء تعاليم القرآن في واقع حياة المجتمع، وهو ما قام به الإمام الحسين عليه السلام، وقد كان هذا من ثمرات ودروس وبلاغات نهضته عاشوراء.

نعم، في ظلّ الطرح الصحيح للدين والقرآن على لسان أتباع منهج عاشوراء تفقد الأباطيل والخدع المزوّقة بلون الدين وظاهره، تلك الألوان والظواهر الكاذبة.

يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه):

"لمّا رأى سيّد الشهداء عليه السلام أنّ هؤلاء يشوّهون دين الإسلام، ويرتكبون المحارم ويظلمون باسم الخلافة الإسلاميّة، وينعكس هذا في العالم أنَّ خليفة رسول الله هو الذي يقوم بهذه الأعمال، علم سيّد الشهداء عليه السلام أنَّ تكليفه هو أن يقوم وأن يُقتل أيضاً ليمحو آثار معاوية وابنه"
21.

ومن أقواله أيضاً (رضوان الله عليه): "لقد أحيت الدين شهادة سيّد الشهداء عليه السلام، لقد استُشهد هو، وعاش دين الإسلام، ودفن النظام الطاغوتيّ لمعاوية وابنه"22.

وقال (رضوان الله عليه) أيضاً: "سيّد الشهداء عليه السلام أغاث الإسلام، سيّد الشهداء عليه السلام أنقذ الإسلام"23.


304


الصلاة

لقد كانت النهضة الحسينيّة من أجل إحياء الدين في جميع مظاهره وأبعاده، ومن جملتها "الصلاة"، ولا يخفى أنّ أفضل وأسمى أبعاد الحياة هو بعدها المعنويّ والعباديّ. والصلاة أبرز معالم حياة المسلمين المعنويّة، وتتمتّع بأهميّة خاصّة في الإسلام لما لها من آثار تربويّة بنّاءة في حياة الإنسان المسلم الفرديّة وفي حياة المجتمع الإسلاميّ، ولما لهذا الارتباط بالله من قوّة نهي وردع عن الفحشاء والمنكر.

وكان الإمام الحسين عليه السلام قد اهتمّ بالصلاة اهتماماً كبيراً في نهضة عاشوراء، ففي المهلة التي أخذها عليه السلام من الأعداء عصر تاسوعاء إلى صباح عاشوراء كان قد أحيا عليه السلام وأصحابه ليلة العاشر بالصلاة وتلاوة القرآن والتضرّع والدعاء، واستمدّوا من هذا المنبع الإلهيّ المدد الروحيّ الكافي لملحمة يوم عاشوراء، لقد كان قلب الإمام عليه السلام طافحاً بحبّ الصلاة والدعاء وقراءة القرآن والاستغفار إلى حدّ أن قال لأخيه أبي الفضل العبّاس عليه السلام:"إرجع إليهم، فإنْ استطعتَ أن تؤخّرهم إلى غدوة وتدفعهم عنّا العشيّة، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفرهُ، فهو يعلم أنّي كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار"24.

وكما تنقل التواريخ، فإنّ خيم معسكر الإمام الحسين عليه السلام كانت تُسمع منها طيلة ليلة عاشوراء أصوات أنّات المناجاة وآهات الدعوات والتضرّعات وترتيل تلاوة القرآن.


305


وفي يوم عاشوراء بعد صلاة الصبح، خطب عليه السلام في أصحابه واستعَدّوا للقتال، وعند ساعة الزوال من ظهر عاشوراء تذكّر أبو ثمامة الصائديّ (رضوان الله عليه) الصلاة في وقتها، فقال له الإمام الحسين عليه السلام:"ذكرت الصلاة! جعلك الله من المصلّين الذاكرين! نعم، هذا أوّل وقتها"، ثمّ قال عليه السلام:"سلوهم أن يكفّوا عنّا حتّى نصلّي"25.

ثمّ صلّى الإمام الحسين عليه السلام بأصحابه، فاستقدم سعيد بن عبد الله الحنفيّ (رضوان الله عليه) أمامه، فاستهدف لهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً، فما زال يُرمى قائماً بين يديه حتّى سقط رحمة الله عليه26، فكان شهيد الصلاة الأوّل في معركة كربلاء.

كان قد تجسّد عشق الصلاة في الأتباع الحقيقيّين لأبي عبد الله الحسين عليه السلام، منهم مثلاً: عبد الله بن عفيف الأزديّ (رضوان الله عليه) الذي كان يعيش في الكوفة، وكان مكفوفاً وملازماً لمسجد الكوفة يصلّي فيه، وفي نفس المسجد كان (رضوان الله عليه) قد انتفض معترضاً على ابن زياد لقتله الإمام الحسين عليه السلام ولسبّه إيّاه وأباه أمير المؤمنينL، وقد استشهد (رضوان الله عليه) في سبيل هذا الدفاع في نهاية المطاف، ولقد نقل المؤرّخون أنّ عبد الله بن عفيف الأزديّ (رضوان الله عليه) كان لا يفارق المسجد الأعظم يصلّي فيه إلى الليل27.

فقولنا إذن حقّ في اعتقادنا بأنّ الإمام الحسين عليه السلام كان قد أحيا مبادئ الصلاة الحقّة وأقام عمود الدين بعد أن عرّضه الأمويّون للاعوجاج والإمالة والتشويه، وأنّه عليه السلام كما عبد الله مخلصاً له الدين، أقام أيضاً شعائر الدين، تماماً كما نقول في مخاطبتنا إيّاه عليه السلام في متن زيارته، معتقدين بذلك حقّ الاعتقاد:

"أَشهدُ أنّك قد أقمتَ الصلاة، وآتيتَ الزكاة... وعبدته مخلصاً حتّى أتاك اليقين..."28، ونقرأ هذه العبارة أيضاً في زيارة مسلم بن عقيل29 عليه السلام، ونلتقي


306


بمثل هذه العبارة أيضاً في كثير من زيارات سيّد الشهداء عليه السلام، وهذا كاشف عن مكانة الصلاة السامية في نهضة عاشوراء وأبطال ملحمتها.

بلاغ عاشوراء بلاغ إقامة الصلاة وتربية جيل مقيم للصلاة، محبّ لله، وأهل تهجّد وعرفان، وعلى أصحاب العزاء الحسينيّ أن يجعلوا "إقامة الصلاة" في الدرجة الأولى من اهتمامهم حتّى يؤكّدوا موالاتهم وتبعيّتهم الحقّة لمولاهم الإمام الحسين عليه السلام.

يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) مؤكّداً على هذا الدرس المستفاد من عاشوراء الحسين عليه السلام:

"في ظهر نفس يوم عاشوراء، حيث كانت الحرب قائمة، وكانت تلك الحرب عظيمة، وكان الجميع معرّضين للخطر، لمّا أخبر أحد الأصحاب سيّد الشهداء عليه السلام أنّ الظهر قد حان، قال عليه السلام:ذكرتَ الصلاة! جعلك الله من المصلّين. ووقف عليه السلام في نفس ذلك المكان وأدّى الصلاة، لم يقل: إننا نريد أن نقاتل! كلاّ، إنّه قاتل من أجل الصلاة"
30.


307


الهجرة

إنّ من أعظم الموانع التي تحول دون قيام الإنسان أو اشتراكه بالجهاد والحركة الثوريّة والعمل النهضويّ هو تعلّقه القلبيّ بالبيت والزوجة والأبناء وبالدنيا، وبمسقط الرأس والوطن، والحالة الموجودة المألوفة، وغير ذلك من التعلّقات الدنيويّة.

أمّا الهادفون أصحاب الهمم العالية فلا تقعد بهم هذه التعلّقات عن القيام بالتكليف، ويشترون عناء وعذاب النأي عن الأهل والدار والبعد عن الوطن والأقرباء مهما كلّفهم ذلك من ثمن، من أجل إيمانهم وتحقيق أهدافهم.

بل ربّما انطلقوا مختارين بلا إكراه في أرض الله الواسعة يبحثون عن وطن ومحيط وبلد أنسب للتعبير عن عقيدتهم والدعوة ولتحقيق أهدافهم.

ولكلّ من "الهجرة القهريّة" و"الهجرة الاختياريّة" أثر مهمّ في حياة الإنسان المبدئيّ الملتزم ذي الهمّة العالية، لقد هاجر الأنبياء عليهم السلام من أجل التبليغ برسالات الله تبارك وتعالى، حتّى لقد لُقِّب المسيح عيسى بن مريمL بالمسيح لكثرة هجرته وتنقّله في الأرض.

ونلاحظ آثار الهجرة أيضاً في كثير من النهضات...

والقرآن الكريم يذكر "المهاجرين" ذكر ثناء وتعظيم، وفي تاريخ صدر الإسلام أيضاً هناك مهاجرون إلى الحبشة، ومهاجرون إلى يثرب، وكان ولم يزل لهم موقع خاصّ واحترام وتجليل في التأريخ الإسلاميّ وعند المسلمين، وتعتبر الهجرة في سبيل الله إحدى القيم الدينيّة السامية، وقد اتُّخذت مبدأ للتأريخ الإسلاميّ.


308


وفي نهضة عاشوراء أيضاً كانت الهجرة في سبيل الله، فقد هاجر الإمام الحسين عليه السلام في سبيل الله لمواجهة حكومة الظلم والجور، وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإحياء الدين، والإصلاح في أمّة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت هجرته الأولى من المدينة إلى مكّة، وهجرته الثانية من مكّة إلى العراق، وكان لهجرته عليه السلام أثرها البالغ في تجديد حياة الإسلام.

لمّا خرج سيّد الشهداء عليه السلام من المدينة بعد أن ودّع قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقرأ أثناء خروجه الآية القرآنيّة التي تتحدّث عن هجرة النبيّ موسى عليه السلام خائفاً من ظلم فرعون:
﴿فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ31.

لقد كان من الصعب جدّاً على الإمام عليه السلام خلع قلبه ووجوده عن مدينة جدّه صلى الله عليه وآله وسلم ومسقط رأسه الشريف، إلّا أنّ ذلك هيّن ومحتملٌ في سبيل الأهداف الإلهيّة فلمّا دخل مكّة المكرّمة وأقام فيها عدّة أشهر، صار عليه أن يهاجر مرّة أخرى فيترك مكّة متوجّهاً إلى العراق، من أجل أن يُفشل مؤامرة اغتياله في جوار بيت الله أيّام الحجّ على يد جلاوزة يزيد، واستجابة لدعوة شيعة أهل الكوفة بالقدوم إليهم.

هجرة واعية وعن علمٍ إلى أرض المصرع والاستشهاد والفداء على طريق أداء التكليف الذي استوجب بذل الدم والنفس.

ولقد دعا عليه السلام في هذه الهجرة عشّاق الشهادة في سبيل الحقّ أيضاً ليكونوا رفقاءه على هذا الطريق، ففي خطبته التي خطبها عليه السلام في مكّة قُبيل خروجه من مكّة المكرّمة التي ابتدأها بقوله: "خُطَّ الموت على وُلد آدم..." دعا إلى هذه الهجرة الاستشهاديّة قائلاً: "من كان باذلاً فينا مهجته، موطّناً على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإنّي راحلٌ مُصبحاً إن شاء الله"32.

وفي هذه الدعوة كان عليه السلام قد شخّص شرطين لمن أراد أن يرحل معه في هذه الهجرة المقدّسة:

الأوّل:
هو أن يكون مستعدّاً لبذل مهجته في حبّ أهل البيت عليهم السلام وفي سبيل أحقّيتهم


309


وحقّانيّتهم. والثاني: هو أن يكون مستعدّاً للقاء الله تبارك وتعالى، فمن كانت هاتان الصفتان فيه فهو أهل لهذه الهجرة الاستشهاديّة المقدّسة.

ومن أصحابه في هجرة الفداء هذه مَن صحبه في الهجرة إلى مكّة والهجرة إلى العراق، ومنهم مَن هاجر من الكوفة إلى مكّة ليلتحق به عليه السلام، ومنهم مَن هاجر من البصرة إلى مكّة للالتحاق به، ثمّ هاجروا معه الهجرة المقدّسة إلى أرض المصرع، ومنهم مَن التحق بالإمام عليه السلام في أحد منازل طريق هذه الهجرة، ومنهم مَن هاجر إليه من الكوفة إلى كربلاء، ومنهم مَن هاجر إليه من كربلاء إلى كربلاء33.

وجميع هؤلاء "المهاجرين" في هذه الهجرة المقدّسة إلى الله وإلى الإمام عليه السلام كانوا قد تخلّوا عن كلّ شيء: عن الوطن، وعن الأهل، وعن المال، وعن النفس، وعن كلّ التعلّقات المانعة من الفوز بشرف شهادة الفتح المبين، فكانوا جميعاً خير من تعلّم درس "الهجرة" وعلّمه.

بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام كان أحد التعاليم الدينيّة لإحياء ثقافة عاشوراء والشهادة هو "زيارة" كربلاء التي أوصى بها وأكّد عليها الأئمّة عليهم السلام، وبشّروا بالثواب العظيم المترتّب عليها خصوصاً لأولئك الذين يقصدون تربة سيّد الشهداء عليه السلام من ديارهم البعيدة النائية، ولقد كان لهذه الهجرة من أجل الزيارة أهمّ الأثر في فترات الاختناق أيّام الحكم الأمويّ والعبّاسيّ، ولقد تحدّى الكثيرون من الشيعة قرارات منع زيارته عليه السلام من قبل الحكّام الطغاة، وقدّموا التضحيات الكبيرة على هذا الطريق ليفوزوا بزيارة كربلاء وقبر سيّد الشهداء عليه السلام، وبعض مَن النّاس أعرض عن زيارته عليه السلام بسبب الخوف من السلطة الجائرة، من هنا نقرأ في متن الزيارة الأولى المطلقة على لسان الزائر في مخاطبته الإمام الحسين عليه السلام:

"أنا عبد الله ومولاك وفي طاعتك، والوافد إليك، ألتمس كمال المنزلة عند الله وثبات القدم في الهجرة إليك، والسبيل الذي لا يختلج دونك من الدخول في كفالتك..."
34.


310


فالهجرة بلاغ عاشوراء سواء من أجل الدفاع عن الدين ونشر المذهب، أو في سبيل مقاومة الظلم ونصرة المظلومين في كلّ مكان من العالم، أو من أجل الفرار بالنفس والدين والأهل من المحيط الفاسد والصيرورة في أمان من التلوّث بمفاسده.

إنّ نضج الإنسان في أحضان الهجرة، كما أنّ تبلور وتطوّر الحضارات أيضاً ثمرة من ثمرات الهجرات المصيريّة.

في سنوات الدفاع المقدّس أيضاً كان أبطال الإسلام في إيران قد هاجروا إلى جبهات القتال امتثالاً لأمر إمام الأمّة (رضوان الله عليه)، وفي سبيل أداء هذا التكليف المقدّس تخلّوا عن الدار والعائلة والمنصب وكلّ التعلّقات الدنيويّة الأخرى، وفي هذا المسار كان الإمام الراحل نفسه (رضوان الله عليه) درساً وقدوة للمهاجرين في سبيل الله، في هجرته القهرية من إيران إلى تركيا، ثمّ في هجرته من تركيا إلى النجف، ثمّ من النجف إلى باريس، ثمّ في هجرته من باريس عائداً إلى الوطن من جديد.


311


إحياء عاشوراء

تشكّل المناهج التذكاريّة الواسعة التي كان يقيمها الأئمّة عليهم السلام أو يوصون بها لإحياء ذكرى واقعة عاشوراء المحور الرئيس لسنن إحياء شعائر تلك الملحمة المقدّسة الخالدة.

ولقد سعى الأمويّون دائماً للتعمية والتعتيم على تلك الواقعة ولإغفال النّاس عنها وإنسائهم ذكرها، من أجل التغطية على فضيحتهم المخزية بارتكابهم تلك الجناية العظمى، أمّا أئمّتنا عليهم السلام فقد حرصوا دائماً على إحياء ذكرى تلك الفاجعة من أجل فضح حقيقة كفر العدوّ، وبيان مظلوميّة أهل البيت عليهم السلام، وتوجيه الأمّة إلى ثقافة الجهاد والاستشهاد البنّاءة التي تضمّنتها نهضة عاشوراء الخالدة.

إنّ التأكيدات الكثيرة على زيارة سيّد الشهداء عليه السلام وباقي شهداء الطفّ (قدّس سرّهم)، وبيان الفضيلة والمثوبة العظيمة للبكاء في عزاء الإمام الحسين عليه السلام وشهداء عاشوراء، وإقامة مجالس العزاء والبكاء من قبل الأئمّة عليهم السلام على قتلى كربلاء، وترغيبهم وحثّهم على إنشاد الشعر وقراءة المراثي المشجية على سيّد الشهداء عليه السلام، والمراسم الأخرى في شأن هذه القضيّة، كلّ منها له نصيب مهمّ من الأثر الفعّال في إبقاء تلكم الملحمة الملهمة حيّة خالدة لا يطمرها النسيان حتّى قيام الساعة.

لنتبرّك مرّة أخرى بقراءة هذه الرواية الشريفة المرويّة عن زيد الشحّام: أنّ الإمام أبا عبد الله الصادق عليه السلام قال لجعفر بن عفّان الطائيّ: "بلغني أنّك تقول


312


الشعر في الحسين عليه السلام وتُجيد! قال: نعم. فأنشده، فبكى ومَن حوله حتّى سالت الدموع على وجهه ولحيته! ثمّ قال: يا جعفر! والله لقد شهدك ملائكة الله المقرّبون هاهنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام، ولقد بكوا كما بكينا وأكثر! ولقد أوجب الله لك يا جعفر في ساعتك الجنّة بأسرها وغفر لك! فقال: ألا أزيدك؟ قال: نعم، يا سيّدي! قال: ما من أحدٍ قال في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى به إلّا أوجب الله له الجنّة وغفر له"35.

كلّ هذا التعظيم والثناء والثواب للبكاء والإبكاء والنياحة وقراءة المراثي على سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، من أجل الآثار المترتّبة على ذلك في إحياء واقعة عاشوراء، وبتعبير الإمام الخمينيّ (قدس سره):

"بهذه الضجّة، بهذا البكاء، بهذه النياحة، بهذه القراءة للشعر، بهذه القراءة للنثر، نريد أن نحفظ هذا الدين، كما هو كذلك محفوظ إلى الآن"
36.

وفي رواية زيارة الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء عن الإمام الباقر عليه السلام فيما يوصي به زائر الحسين عليه السلام في ذلك اليوم أنّه قال: "... ثمَّ ليندب الحسين عليه السلام ويبكيه، ويأمر من في داره ممّن لا يتّقيه بالبكاء عليه، ويقيم في داره المصيبة بإظهار الجزع عليه، وليعزِّ بعضهم بعضاً بمصابهم بالحسين عليه السلام..."37.

هذه الشعائر إذن لأجل الحؤول دون نسيان عاشوراء، وهي سبب أساس من أسباب "إحياء أمر" أهل البيت عليهم السلام، الأمر الذي كان قد أكّد عليه أئمّتنا المعصومون عليهم السلام:أن أحيوا أمرنا وخطّنا ونهجنا وهدفنا.

يقول الإمام الخمينيّ (رضوان الله عليه) أيضاً في صدد مثل هذه الشعائر:

"هذه مجالسٌ كانت تُقام على طول التأريخ، وبأمر الأئمّة عليهم السلام كانت هذه المجالس... لقد أصرّ الأئمّة عليهم السلام إصراراً بالغاً على أن اجتمعوا، وابكوا، ذلك لأنّ


313


هذا يحفظ كيان مذهبنا..."38.

في تلك الظروف القاسية من الاختناق والضغط الذي مارسه الأمويّون والعبّاسيّون ضدّ أهل البيت عليهم السلام ونهجهم، كانت مثل هذه المجالس والنياحة ومحافل الذكر والإحياء تُحيي في روح أهل العزاء حسّ الدعوة إلى العدالة والسعي إلى الانتقام من الظالمين، كما كانت هذه الشعائر تضيّق الخناق على الظالمين، ذلك لأنّ كُلاًّ منها كانت صرخة اعتراض واحتجاج على الظلم، وسعياً لإحياء ذكر المظلومين والشهداء، وفضلاً عن بُعدها العاطفيّ كان لها بعدها السياسيّ أيضاً.

يقول إمام الأمّة (رضوان الله عليه):"المسألة ليست مسألة البكاء، المسألة ليست مسألة تباكي، المسألة مسألة سياسيّة أنّ الأئمّة عليهم السلام مع تلك الرؤية الإلهيّة التي كانت لهم، كانوا يريدون أن يُعبّئوا هذه الأمم معاً، يوحّدوها عن السُبل المختلفة حتّى لا يصيبها ضرر ولا نكبة..."39.

"البكاء على شهيد، محافظة على النهضة وإحياءٌ لها"
40.

"إنّ جميع هذه المثوبات التي تُعطى من أجل العزاء، من أجل مجالس العزاء، من أجل البكاء والنياحة، إضافة إلى بُعدها العباديّ والروحيّ، هنالك بعدها السياسيّ المهمّ المحسوب في الأمر، فتلك الأيّام التي كانت قد صدرت فيها هذه الروايات، كانت أيّاماً قد ابتليت فيها هذه الفرقة الناجية بالحكومة الأمويّة، وبالحكومة العبّاسيّة أكثر، وكانت هذه الفرقة فئة قليلة جدّاً، أقليّة ضئيلة في مقابل قوى عظمى، آنذاك رسم الأئمّة عليهم السلام طريقاً صحيحاً لتنظيم الفعاليّة السياسيّة لهذه الأقليّة، وكان هذا الطريق منظّماً بذاته... كان الشيعة مع أقليّتهم آنذاك يجتمعون، ولعلّ كثيراً منهم لم يكونوا يعلمون ما هو الغرض والهدف، لكنّ الغرض هو تنظيم جماعة أقليّة في مقابل تلكم الأكثريّات، وعلى طول التأريخ كانت ولم تزل مجالس العزاء هذه تنظيماً عامّاً في كلّ البلدان الإسلاميّة، وفي إيران التي هي مهد التشيّع والإسلام والشيعة كانت مجالس العزاء هذه، وهذه


314


 المواكب الحسينيّة، هي التي وقفت في وجه الحكومات الظالمة التي كانت تتوالى على الأمّة، وكانت تريد أن تمحو أساس الإسلام، وتمحو أساس الروحانيّة، وهذه المجالس والمواكب هي التي كانت تُخيف تلك الحكومات"41.

وكما أنّ سُنّة العزاء والجزع والبكاء على الإمام الحسين عليه السلام وبقيّة شهداء عاشوراء حصن وحارس لحقيقة تلك الملحمة الملهمة، كذلك في ظلّ حفظ وحياة وبقاء تلك الذكرى انطوت أيضاً حراسة الدين والقيم الإسلاميّة.


315


زيارة كربلاء

ومن المظاهر الأخرى لإحياء نهضة عاشوراء الحضور والتجمّع عند تربة أولئك الذين أحيوا الدين، أبطال ملحمة كربلاء، الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره المستشهدين بين يديه عليهم السلام وزيارة مراقدهم المطهّرة.

وفضلاً عن الآثار التربويّة والروحيّة والعطاءات المعنويّة والأخلاقيّة الكامنة في زيارة تربة ومراقد الأئمّة الأولياء الأطهار، فإنّ لزيارة كربلاء ميزة أخرى أيضاً وهي الاستمداد من هذا المصدر والمنبع للحماسة والاستنهاض والتثوير من أجل الجهاد في سبيل الحقّ والتضحية في سبيل الله والدين.

وعلى رغم أحكام وقرارات منع زيارة كربلاء التي كانت تصدر عن الحكّام الطغاة الأمويّين والعبّاسيّين، كان أئمّتنا عليهم السلام دائماً يرغبّون النّاس في زيارة قبر الحسين عليه السلام ويحثّونهم عليها، ويوصون بعدم تركها، ومن خلال بيانهم للفضائل والمثوبات العظيمة التي تكون لزوّار قبر سيّد الشهداء عليه السلام كان الأئمّة عليهم السلام يريدون أنّ يبقى هذا المركز المُشعُّ بالمعنويّة والحماسة والاستنهاض حيّاً في قلوب وعقول النّاس دائماً، يرون ذلك أحد علامات الانتماء لخطّ أهل البيت عليهم السلام، ووفاءً من الشيعة بعهدهم وبيعتهم لأئمّتهم عليهم السلام.

يقول الإمام الصادق عليه السلام:

"من لم يأت قبر الحسين عليه السلام وهو يزعم أنّه لنا شيعة حتّى يموت، فليس هو


316


 لنا بشيعة"42.

وفي رواية أخرى عنه عليه السلام أنّه قال:

"زيارة الحسين بن عليّ واجبة على كلّ من يقرّ للحسين بالإمامة من الله عزَّ وجلَّ"
43.

إنّ دعوة الأئمّة عليهم السلام شيعتهم ومحبّيهم ومواليهم للذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام حتّى في ظروف الخوف والخطر وعدم الأمان، وتبشيرهم بالفضل الأعظم والثواب الأكبر المترتّب على مثل هذه الزيارة، دليل على الأثر والدور المهمّ الذي تقوم به الزيارة في إحياء حماسة عاشوراء وقيمها وبلاغاتها.

وفي رواية عن ابن بُكير أنّه شكى للإمام الصادق عليه السلام خوفه من عيون السلطان وسُعاته وأصحاب المسالح إذا أراد الذهاب إلى زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام وأنّه يظلّ خائفاً وجلاً مُشخصاً (مشفقاً) حتّى يرجع، فقال له الإمام الصادق عليه السلام:"يا ابن بُكير! أما تحبُّ أن يراك الله فينا خائفاً؟ أما تعلم أنّه من خاف لخوفنا أظلّه الله في ظلّ عرشه، وكان محدّثه الحسين عليه السلام تحت العرش، وآمنه الله من أفزاع يوم القيامة، يفزع النّاس ولا يفزع، فإنّ فزع وقرته الملائكة، وسكّنت قلبه بالبشارة"44.

وفي رواية أخرى أنّه عليه السلام قال لمحمّد بن مسلم في صدد هذه المسألة:

"ما كان من هذا أشدّ فالثواب فيه على قدر الخوف، ومن خاف في إتيانه آمن الله روعته يوم يقوم النّاس لربّ العالمين"
45.

وفي رواية أخرى أنّه عليه السلام قال:

"إيتوا قبر الحسين كلّ سنة مرّة"
46.

كانت زيارة كربلاء في تلك العصور على الدوام محدودة مقيّدة أو ممنوعة، وما كان لزوّار قبر الإمام الحسين عليه السلام من حريّة كاملة ولا أمان ولا طمأنينة، ذلك لأنّ زيارة


317


 كربلاء كانت منشأ ومنطلق حركة ونهضة وتجمع الثوّار من محبّي أهل البيت عليهم السلام.

في سنة 121هـ.ق بعد ثورة زيد بن عليّ (رضوان الله عليه) في الكوفة واستشهاده مُنعت زيارة كربلاء من قبل هشام بن عبد الملك واشتدّت المراقبة من قبل السلطة الأمويّة بصدد هذا الأمر، وقد نشر هشام جنده وشرطته على طريق كربلاء للسيطرة على ذهاب النّاس وإيابهم47. وفي زمان هارون العبّاسيّ والمتوكّل خربوا قبر الإمام الحسين عليه السلام وكربوه عدّة مرّات، ومنعوا زيارته، حتّى أنّهم في زمان هارون قطعوا السدرة التي كانت علامة على قبر الإمام الحسين عليه السلام هناك، حتّى يضيع مكان القبر على النّاس فلا يجتمعون بعد ذلك عنده48.

لقد أخربوا قبر الإمام عليه السلام سبع عشرة مرّة بأمر من المتوكّل العبّاسيّ49، لكنّ تشدّد وعنف وإرهاب الحكّام الطغاة المتواصل لم يستطع أبداً أن يقطع علاقة النّاس مع القبر المقدّس لسيّد الشهداء أبي عبد الله عليه السلام.

"بلغ المتوكّل جعفر بن المعتصم أنّ أهل السواد يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه السلام فيصير إلى قبره منهم خلق كثير، فأنفذ قائداً من قوّاده، وضمَّ إليه كنفاً من الجُند كثيراً، ليشعَّث (ليشعب خ) قبر الحسين عليه السلام ويمنع النّاس من زيارته والاجتماع إلى قبره، فخرج القائد إلى الطفّ وعمل بما أُمر، وذلك في سنة سبع وثلاثين ومائتين، فثار أهل السواد به واجتمعوا عليه، وقالوا: لو قُتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا، فكتب بالأمر إلى الحضرة فورد كتاب المتوكّل إلى القائد بالكفّ عنهم والمسير إلى الكوفة، مُظهراً أنّ مسيره إليها في مصالح أهلها، والانكفاء إلى المصر.

فمضى الأمر على ذلك حتّى كانت سنة سبع وأربعين، فبلغ المتوكّل أيضاً مصير النّاس من أهل السواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام، وأنّه قد كثر جمعهم لذلك، وصار لهم سوق كبير، فأنفذ قائداً في جمع كثير من


318


الجند، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمّة ممّن زار قبره، ونبش القبر وحرث أرضه، وانقطع النّاس عن الزيارة، وعمل على تتبّع آل أبي طالب والشيعة، فَقُتِلَ، ولم يتمَّ له ما قدّره"50.

من السُنن الدينيّة في ما يتعلّق بشرف وفضل وقداسة تربة سيّد الشهداء عليه السلام ما أوصى به الإمام الصادق عليه السلام:

"حنّكوا أولادكم بتربة الحسين فإنّها أمان"
51.

وفي استحباب الاستشفاء بهذه التربة المقدّسة قال عليه السلام أيضاً:

"في طين قبر الحسين عليه السلام الشفاء من كلّ داء، وهو الدواء الأكبر"52.

ولقد وردت هكذا روايات أيضاً في فضل ماء الفرات.

وهناك روايات عديدة في فضل السجود على تربة سيّد الشهداء عليه السلام، وفضل المسبحة المصنوعة من تربة الحسين عليه السلام وفضل الذكر بها، حتّى لقد روي أنّه كان للإمام الصادق عليه السلام خريطة ديباج صفراء (كيس) فيها تربة أبي عبد الله عليه السلام، فكان إذا حضرت الصلاة صبّه على سجّادته وسجد عليه، وأنّه عليه السلام قال: "السجود على تربة الحسين عليه السلام يخرق الحُجب السبع"53.

إنّ أُنساً كهذا وأُلفة مع تربة سيّد الشهداء عليه السلام إحياءٌ لتلك الحماسات والبطولات التي كانت في ملحمة عاشوراء.

يقول العلّامة الأمينيّ (رضوان الله عليه):"أليس الأمثل والأفضل اتّخاذ المسجد من تربة تفجّرت في صفيحها عيون دماءٍ اصطبغت بصبغة حبّ الله، وصيغت على سُنّة الله وولائه المحض الخالص؟ من تربة عُجنت بدم من طهّره الجليل وجعل حبّه أجر الرسالة الخاتمة، وخُمّرت بدم سيّد شباب أهل الجنّة، حُبّ الله وحُبّ رسوله، وديعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لدى أُمّته كما جاء في السُنّة؟..."54.


319


وهناك أمرٌ آخر تنطوي عليه زيارة شهداء كربلاء، وهو المفاهيم العالية الاعتقاديّة والتربويّة التي تضمّنتها متون زيارات الإمام الحسين عليه السلام وبقيّة شهداء الطفّ عليهم السلام. لقد كان أئمّتنا عليهم السلام بتعليمهم الشيعة هذه المتون الشريفة يذكّرون أيضاً بالقيم الدينيّة والمفاهيم القيّمة، إنّ التأمّل العميق في محتوى متون هذه الزيارات الشريفة يكشف بوضوح عن كثير من الإشارات واللفتات المنوّعة التي انطوت عليها هذه المتون فإضافة إلى كون هذه المتون فاضحة لما اجترحه آل أميّة من ظلم بحقّ أهل بيت الرسالة عليهم السلام، وإضافة إلى كونها ترسم صورة مشرقة وضّاءة للغرر الرشيدة والطلعات البهيّة للشهداء ولشخصيّاتهم الملهمة، تشعّ هذه المتون الشريفة أيضاً بالدروس الأخلاقيّة والاعتقاديّة والعرفانيّة، كما أنّها تكشف أيضاً عن خطّ الزائر وموقفه الفكريّ والعمليّ وانتمائه لصفّ أهل الحقّ 55عليهم السلام.

بمرور عابر على متون الزيارات نجد أنفسنا أمام هذه المفردات والمفاهيم: المحبّة، الموالاة، الإطاعة، الصلوات، السلام، اللعن، العهد، الشفاعة، التوسّل، الوفاء، الجهاد، الدعوة، النصرة، التسليم، التصديق، الصبر، التولّي، التبرّي، المواساة، الزيارة، الصلاة، الزكاة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التبليغ، وراثة السمات الإلهيّة، المساعدة، التعاون، السعادة، الرضا، طلب الثأر، الحرب والصلح، التقرّب إلى الله، البراءة من الأعداء، الولاية، الفوز، النصيحة، الفداء، وعشرات العناوين الأخرى.

إنّ الشوق إلى زيارة مراقد أهل البيت عليهم السلام عامّة ومراقد شهداء الطفّ خاصّة، كان ولم يزل سبباً دائماً يدفع الشيعة ويثيرهم إلى الإعلان والكشف عن محبّتهم وولايتهم للأئمّة المعصومين ولشهداء الطفّ.

ولقد حُفِظت هذه الثقافة الإيمانيّة والسنن الولائيّة في أوساط العوائل والبيوتات الموالية لأهل البيت عليهم السلام طيلة قرون متمادية، إذ كانوا ولا يزالون يتوارثونها جيلاً بعد جيل، ويحرصون عليها كما يُحرص على الجوهرة النفيسة.

ولسبب هذه الآثار والبركات الكامنة في الارتباط والتعلّق بتربة قبر الإمام الحسين عليه السلام وتربة كربلاء، كان أئمّتنا عليهم السلام قد حثّوا وأكّدوا على زيارة كربلاء


320


حتّى تبقى تلك الملحمة الدامية خالدة ومؤثّرة، وهذا أيضاً نوع من الإحياء لثقافة ورسالة عاشوراء.

ولقد كان مشهوداً أيضاً أثر مثل هذا الارتباط والتعلّق بالتربة الحسينيّة وبتعظيم شعائر ومراسم العزاء والنياحة والبكاء على سيّد الشهداء عليه السلام في تأريخ الثورة الإسلاميّة في إيران، وفي سنوات الدفاع المقدّس في الحرب المفروضة عليها، إذ كانت ثقافة الشهادة والزيارة هذه من العناصر المهمّة في بثّ روحيّة الجهاد والفداء، وفي تأسّي أبطال الإسلام واقتدائهم بشهداء كربلاء، حتّى لقد كان شعار المجاهدين وأملهم هو: إمّا الزيارة أو الشهادة!

إنّ بلاغ عاشوراء وتعاليم أئمّتنا عليهم السلام العمليّة ووصاياهم لإحياء تلك الملحمة المقدّسة ولمداومة ذكر تلك الدماء الطاهرة هو أنّ علينا أن نتّخذ من عطاءات وإلهامات دم الشهيد ومزار الشهيد واسم الشهيد وذكره منبعاً للاستلهام والتلقّي، ولأجل استمرار ودوام ثقافة الشهادة وحفظ بقاء ميراث الشهداء يجب أن نحرص على إقامة مجالس ذكرهم وتكريمهم وإحياء ذكرياتهم ومناسباتهم من خلال القلم والفن والشعر والأدبيّات الأخرى، وأن لا ننسى مواصلة هذا الالتزام أو نغفل عنه أبداً.


321


هوامش

1- الصحيفة السجّاديّة، دعاء رقم 47.
2- مفاتيح الجنان، ص541 و542.
3- نقرأ في الدعاء لصاحب الزمان عليه السلام : "وأظهر به دينك" (مفاتيح الجنان، ص525 ونقرأ في دعاء آخر له عليه السلام : "اللّهمّ وأعزّ به الدين بعد الخمول، وأطلع به الحقّ بعد الأفول" (المصدر، ص527)، نقرأ في دعاء الإفتتاح: "اللّهمّ وأظهر به دينك وسنّة نبيّك..." (
المصدر، ص182).

4- تاريخ الطبريّ، ج4، ص266، مؤسّسة الأعلميّ ـ بيروت.
5- الأخبار الطوال، للدينوريّ، ص246.
6- تذكرة الخواص، ص217 و218.
7- وقعة الطفّ، ص139.
8- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص332 و333.
9- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص 444.
10- نفس المصدر، ص 445.
11- نفس المصدر، ص 445 – 446.
12- كما قال الشاعر:
لولا صوارمُهم ووقعُ نبالهم لم تسمع الآذانُ صوتَ مُكبّر
عن كتاب: عنصر الشجاعة، فارسي، ج1، ص 18.

13- هذا البيت المشهور قائله الشاعر محسن أبو الحَبّ الكبير المتوفّى سنة 1305 هـ ق.
14- بحار الأنوار، ج45، ص40.
15- مفاتيح الجنان، ص448، زيارة الحسين عليه السلام والشهداء في عيد الفطر والأضحى.
16- نفس المصدر، ص440، زيارة الإمام الحسين عليه السلام .
17- نفس المصدر، ص453.
18- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص366.
19- أعيان الشيعة، ج1، ص581.
20- وقعة الطفّ، ص177.
21- صحيفة نور، ج8، ص12.
22- نفس المصدر.
23- نفس المصدر، ص69.
24- تاريخ الطبريّ، ج3، ص314.
25- نفس المصدر، ج3، ص326.
26- راجع: وقعة الطفّ، ص232.
27- نفس المصدر، ص266.
28- تهذيب الأحكام، ج6، ص67، زيارة وارث.
29- راجع: مفاتيح الجنان، ص401.
30- صحيفة نور، ج12، ص148.
31- القصص، 21.
32- بحار الأنوار، ج44، ص367.
33- راجع: كتاب إبصار العين للشيخ محمّد السماويّ.
34- مفاتيح الجنان، ص423.
35- وسائل الشيعة، ج10، ص464.
36- صحيفة نور، ج8، ص71.
37- وسائل الشيعة، ج10، ص398.
38- صحيفة نور، ج10، ص217.
39- نفس المصدر، ج13، ص153.
40- نفس المصدر، ج10، ص31.
41- نفس المصدر، ج16، ص217.
42- وسائل الشيعة، ج10، ص334.
43- نفس المصدر، ص346.
44- كامل الزيارات، ص135 و136، ب 45، ح2.
45- بحار الأنوار، ج98، ص11.
46- نفس المصدر، ج98، ص13.
47- راجع: تاريخ النياحة على الإمام الشهيد، ج1، ص126.
48- راجع: تاريخ الشيعة، محمّد حسين المظفّر، ص89.
49- راجع: تتمّة المنتهى، ص241.
50- بحار الأنوار، ج45، ص397.
51- وسائل الشيعة، ج10، ص410.
52- نفس المصدر.
53- راجع: بحار الأنوار، ج82، ص153 وص334.
54- سيرتنا وسنَّتُنا، للعلاّمة الأميني، ص166.
55- راجع: البحث المبسوط في صدد هذا الموضوع في كتاب "كربلاء كعبةً دلها" (كربلاء كعبة القلوب) للمؤلف.