البلاغات الاعتقاديّة

إيضاح

تقع مسؤوليّة تبيين "الدين"، وتصحيح عقائد النّاس في المسائل الاعتقاديّة والفكريّة بالأساس على عاتق الإمام المعصوم عليه السلام، فالأئمّة عليهم السلام كما يرسمون بأقوالهم وأفعالهم الصورة الصحيحة للاعتقادات والمتبنيّات الفكريّة، كذلك يواجهون ويجاهدون كلّ انحراف على هذا الصعيد.

فالتوحيد الخالص ما هو؟ وما هو دور وأثر الإيمان بالله والاعتقاد بالمبدأ والمعاد في الحياة؟ وما هو منهج الأنبياء عليهم السلام وما هي غايتهم؟ وكيف يستمرُّ ويتواصل خطّ "الرسالة" في قلب "الإمامة" ؟ وما هو الدين؟ ومن هم أهل البيت عليهم السلام ؟ وما هي مسؤوليّاتهم؟ وما هو تكليف وواجب الأمّة إزاء الإمام عليه السلام كلُّ هذا وذاك من تجلّيات "البلاغات الاعتقاديّة" لعاشوراء.

وإذا نظرنا من هذا الأفق إلى نهضة سيّد الشهداء عليه السلام فإنّنا سنتعلّم دروساً عظيمة، وسنجد عاشوراء مدرسة تربويّة رائعة، تتجلّى تعاليمها في أقوال وخطب الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأصحابه، بل تتجلّى المعاني والتعاليم الاعتقاديّة حتّى في أشعارهم ورجزهم منذ حركة الركب الحسينيّ من المدينة وحتّى عودته إلى المدينة.

وفضلاً عن أفق تبيين وتوضيح أصول الاعتقادات والخطوط الأساسيّة الفكريّة بواسطة الأقوال والخطب والأشعار، نجد أنّ هذه العقائد والأفكار قد تجلّت أيضاً في أفق التصرّفات والأعمال التي صدرت عنه عليه السلام وعن أهل بيته وأصحابه، فـ"التوحيد" مثلاً نراه - فضلاً عن تجلّيه في الأقوال والتصريحات والأشعار- قد تجلّى أيضاً في العبادة والطاعة في ميدان واقعة كربلاء يوم عاشوراء، وهذا التجلّي العمليّ أقوى في


23


التعليم وأشدّ في التأثير السلوكيّ من القول والخطاب في تأثيره الفكريّ والذهنيّ.

إنّ الاعتقاد بالله واليوم الآخر ينبغي ألّا يُكتفى بعرضه على العقل في صورة تصديق ذهنيّ جاف، بل ينبغي عرضه على روح الإنسان في أجمل صورة للحقيقة الكبرى التي هي منشأ كلّ الآثار المباركة في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للإنسان المسلم، وفي توجيهه في ميادين الجهاد والمقاومة.

والاعتقاد بالإمامة أيضاً ينبغي ألّا يكون محصوراً في إطار البحث الكلاميّ والاحتجاجات القرآنيّة والروائيّة في قضيّة من هو الرجل الذي يجب أن يكون الخليفة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، بل ينبغي عرضها على أساس أنّ الإمامة ركيزة نظام هذا العالم، وأنّها ضمان بقاء الإسلام المحمّدي الخالص بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنّها عنوان النظام السياسيّ الإسلاميّ، وأنّها الإيمان والقبول بولاية القائد الربانيّ المعصوم المنصوب من عند الله تبارك وتعالى والانقياد لها، وأنّها خطّ السير الذي لا يخالف القرآن وسنّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في صغيرة ولا كبيرة، وهي بالتالي مسألة من هو الشخص الحقيق بزعامة وقيادة الأُمّة الإسلاميّة.

ويمكن أيضاً عرض موقع أهل البيت عليهم السلام في المجتمع الإسلاميّ من هذه الزاوية، وكذلك أصل مسألة رسالة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن والوحي والشفاعة و... وكلٌّ من هذه القضايا الاعتقاديّة لها "بلاغ"، نقرأه في نهضة عاشوراء فقط في حال ما إذا استمرّت الحركة العاشورائيّة واتسعت على امتداد الزمان وخاطبت الأجيال الحاضرة والقادمة، وصارت الهادية لهم.

ينبغي ألّا يُغفل عن البعد الاعتقاديّ لواقعة كربلاء، فكما تتجلّى المعاني والمضامين العقائديّة في مجموع حركة أحداث هذه الملحمة المقدّسة، نلاحظ أيضاً أنّ أساس نهضة كربلاء هو حفظ العقائد الإسلاميّة الحقّة الخالصة من الزوال بسبب التحريف، لقد كان هذا هو الهدف المهمّ الذي مضى فداءً لتحقيقه شهيد عظيم مثل أبي عبد الله الحسين عليه السلام. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره :

"الشخصيّة العظيمة، الذي كان قد تغذّى من عصارة الوحي الإلهيّ، وتربّى في أُسرة سيّد الرسل محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وسيّد الأولياء عليّ المرتضى عليه السلام، وترعرع في حجر الصدّيقة الطاهرة عليها السلام، قام وصنع بتضحيته الفريدة


24


ونهضته الإلهيّة واقعة عظيمة هدمت قصور الظالمين، وأنجت الإسلام"1.

وفي موقع آخر، يقول قدس سره حول حقيقة الحكّام الأمويّين المعادية للإسلام وعقيدتهم الهدّامة:
"باسم خلافة رسول الله كانوا قد ثاروا على رسول الله!، كانت صيحتهم لا إله إلّا الله ولكنّهم ثاروا ضدّ الألوهيّة، كانت أعمالهم وتصرّفاتهم شيطانيّة لكنّ صيحتهم صيحة خليفة رسول الله"2.

في أقوال الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، هناك مفاهيم عقائديّة عالية، ينبغي التأمّل فيها واستيعابها، وقد وردت هذه المفاهيم العقائديّة في المحاور التالية: معرفة الله، رسالة الأنبياء، أثر الوحي والقرآن في الحياة، أصالة الدين وضلال أهل البدع، الحياة الخالدة والحياة بعد الموت، الجنّة والنّار، الثواب والأجر والعذاب، الشفاعة، أحقيّة الأئمّة عليهم السلام بالخلافة والولاية، وظيفة النّاس إزاء حجج الله عليهم السلام، نفاق عبدة الدنيا، التلاعب بالعقائد الدينيّة من أجل استغفال النّاس وخداعهم، و...

 

25


التوحيد في العقيدة والعمل

الاعتقاد بالله وبـ"التوحيد" لا ينحصر في ذهن الإنسان المسلم الموحّد فحسب، بل تمتدّ ظلاله في جميع شؤون وظروف وزوايا حياته، فالله من هو؟ وما هو؟ وهذه المعرفة ما تأثيرها في حياة الإنسان المسلم العمليّة وفي مواقفه الاجتماعيّة؟ هذه التساؤلات تكشف عن مكانة وتأثير هذه العقيدة في الحياة.

الاعتقاد بالله وبأنّه هو الحقّ، وأنّه لا يقول إلّا الحقّ، ولا يخلف وعده، وأنّ طاعته واجبة، وأنّ سخطه سبب الدخول إلى جهنّم، وأنّه حاضر لا تخفى عليه خافية في كلّ حال، قد أحاط علمه بكلّ صغيرة وكبيرة من أعمال الإنسان، بل قد أحاط بكلّ شيء علماً، و... مجموعة هذه الاعتقادات حينما ترقى إلى مستوى "اليقين" تكون أقوى دوافع الخير أو موانع الشرّ تأثيراً في حياة الإنسان.

إنّ مفهوم التوحيد لا ينحصر في الفكر والتصدّيق النظريّ، بل يتحوّل في البعد العمليّ إلى "التوحيد في الطاعة" و"التوحيد في العبادة".

لقد كان الإمام الحسين عليه السلام يعلم بشهادته من قبل، بل كان يعلم بجزئيّات وتفاصيل وقائع شهادته، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد ذكر هذه الفاجعة مراراً، لكنّ هذا العلم والاطّلاع المسبق لم يضعف من رأيه وتصميمه على مواصلة الطريق وورود ميدان الجهاد والشهادة، ولم يشكّكه في يقينه، بل زاد في حبّه للشهادة وفي الإقبال عليها.

لقد ورد الإمام الحسين عليه السلام ميدان كربلاء بنفس هذا الإيمان وهذا اليقين


26


وجاهد جهاد العاشق المتلهّف إلى لقاء الله، تماماً كما ورد في الشعر الذي يُذكر عن "لسان حاله":

تركتُ الخلقَ طُرّاً في هواكا               وأَيتمتُ العيالَ لكي أَراكا


هكذا كان يقين الإمام عليه السلام سامياً راسخاً في كلّ القضايا، وخصوصاً قضيّة عزمه على الشهادة، إذ لم يتذبذب رأيه لضعف، ولم يتزعزع يقينه بشكّ، حتّى في الموارد المتعدّدة التي سعى فيها بعض أهل بيته وأخوته وأبناء عمومته وبعض وجهاء قومه إلى منعه عن القيام أو عن الخروج إلى العراق، بدافع النصح والإشفاق عليه من القتل والاضطهاد، حيث حذّروه من التوجّه إلى الكوفة، ومن غدر أهلها وعدم وفائهم، وذكّروه بمظلوميّة أبيه وأخيه الحسنL من قبل وما عانيا من أهل العراق.

لقد كانت واحدة من هذه النصائح والتوسّلات تكفي لإثارة الشكّ وتضعيف اليقين في قلب الإنسان العادي، لكنّ عقيدة الإمام عليه السلام الواضحة، وعلمه الإلهيّ، ويقينه الصادق الذي لا ريب فيه، في اختياره هذا الطريق وهذا المصير الكريم، كان السبب في ثباته عليه السلام حيال كلّ محاولات التشكيك وإيجاد اليأس والتردّد، وفي تقديمه التسليم لأمر الله وقضائه ومشيئته على كلّ شيء.

فحينما طلب منه ابن عبّاس أن يتوجّه في أيّ طريق آخر غير طريق العراق وألّا يواجه بني أميّة، قال له الإمام الحسين عليه السلام في معرض حديثه عن أهداف ونيّات الأمويّين: "إنّي ماضٍ في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون"3، حيث ربط عليه السلام تصميمه بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثمّ استرجع، وذلك ليقينه بحقّانيّة طريقه وغايته، وبصدق وعد الله تبارك وتعالى.

إنّ "اليقين" مؤشّر دالّ على وضوح الإيمان بالدين وبأمر الله وبحكم الشريعة، وجوهرة اليقين في أيّ قلب حلّت، صنعت منه قلباً مقداماً مصمّماً لا يعرف الخوف، ولقد تجلّى اليقين في ميدان كربلاء يوم عاشوراء أتمَّ التجلّي في أُفق معسكر الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، اليقين بحقّانيّة سبيلهم واليقين بضلال أعدائهم واليقين بأنّ


27


المعاد حقّ والحساب حقّ واليقين بحتميّة الموت ولقاء الله، فكان ذلك اليقين هو الموجّه والباعث على المقاومة وكيفيّة المواجهة والجهاد، والثبات على الطريق الذي اختاروه.

إنّ "الاسترجاع" وهو عبارة: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" التي تقال عند السماع بخبر موت أو شهادة أحدٍ ما، وتقال عند كلّ مصيبة، كانت في منطق الإمام الحسين عليه السلام - فضلاً عن بعدها المعروف- تذكيراً بالحكمة العالية للوجود والحياة والمصير: "منه وإليه"، وكثيراً ما كان ينطق بها الإمام عليه السلام أثناء مسيره منذ خروجه من المدينة حتّى ساعة استشهاده، كيما تكون هذه العقيدة هي الموجّه لكلّ تصميم وعمل.

لقد استرجع الإمام مراراً في منزل الثعلبيّة بعد أن سمع بخبر شهادة مسلم وهاني4، وفي نفس هذا المنزل أيضاً كان الإمام عليه السلام في وقت الظهيرة قد وضع رأسه فرقد، ثمّ استيقظ " فقال: قد رأيتُ هاتفاً يقول: أنتم تسرعون، والمنايا تسرع بكم إلى الجنة.

فقال له ابنه عليُّ: يا أبه! أفلسنا على الحقّ؟

فقال: بلى يا بنيّ والذي إليه مرجع العباد.

فقال: يا أبه! إذن لا نبالي بالموت!

فقال له الحسين عليه السلام:جزاك الله يا بنيّ خير ما جزى ولداً عن والد..."
5.

كان تذكيره المتواصل على طول الطريق بحقيقة الارتباط بالله تبارك وتعالى، وبالرجوع إليه، وتأكيده المستمرّ عليها، من أجل إعداد أصحابه إعداداً روحيّاً عالياً للتضحية الكبرى في سبيل العقيدة، ذلك لأنّ المقاتل لا يستطيع بدون العقائد الصافية الواضحة أن يبقى إلى النهاية مقاوماً صلباً لا يكلُّ في دفاعه عن الحقّ.

لقد كان "اليقين" يتجلّى في معسكر الحسين عليه السلام في "الموضوع"، أي المعرفة الواضحة بالهدف وبالطريق وبالظروف، ويتجلّى كذلك في "الحكم"، يعني كون التكليف هو الجهاد والاستشهاد، وأنّ ذلك في صالح الإسلام في تلك الظروف، كما


28


تجلّى أيضاً في الإيمان بـ"الله" و"اليوم الآخر"، هذا الإيمان الذي هو الباعث الأساس للإقدام في ميدان الفداء والتضحية، نقرأ هذه الحقيقة في مضامين الرجز الذي أنشده وهب بن عبد الله في نزلته الثانية إلى الميدان، حيث كان يعرّف نفسه "المؤمن بالرّب"6 و"الموقن بالرّب"7.

ومن التجلّيات الأخرى لدور العقيدة الخلاّق في العمل: التوحيد في طلب النصرة والمعونة من الله تبارك وتعالى، والاعتماد على الله فقط.

لقد كان الإمام الحسين عليه السلام متوكّلاً ومعتمداً على الله تعالى وحده، لا على رسائل أهل الكوفة، ولا على ما ادّعوه من حمايتهم له، ولا على شعاراتهم.

فحينما منع جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ الطريق على ركب الإمام عليه السلام خطب فيهم الإمام عليه السلام خطبته التي عرّفهم فيها أنّه ما جاء إلّا استجابة لرسائل أهل الكوفة، وفي ختام هذه الخطبة قال عليه السلام داعياً إيّاهم إلى الوفاء بالبيعة ومحذّراً من نقضها: "وإنْ لم تفعلوا، ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم... فحظّكم أخطأتم، ونصيبكم ضيّعتم، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه، وسيُغني الله عنكم..."8.

وفي الطريق لمّا التقى عليه السلام الضحّاك بن عبد الله المشرقيّ ورفيقه، فحدثّاه عن أوضاع الكوفة، وتعبئة أهلها لمحاربته، كان جوابه عليه السلام على ذلك: "حسبي الله ونعم الوكيل"9.

وفي صبيحة عاشوراء أيضاً، لمّا أحاط الجيش الأمويّ بمعسكر الإمام عليه السلام، رفع الإمام عليه السلام يديه المباركتين بالدعاء إلى الله تعالى قائلاً:

"اللّهمَّ أنت ثقتي في كلّ كرب، وأنت رجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همّ يضعف فيه الفؤاد وتقلُّ فيه الحيلة، ويخذلُ فيه الصديق، ويشمتُ فيه العدوّ، أنزلته بك، وشكوته إليك، رغبة منّي إليك عمّن سواك، ففرّجته


29


عنّي وكشفته، فأنت وليّ كلّ نعمة، وصاحب كلّ حسنة، ومنتهى كلّ رغبة"10.

هذه الحالة الروحيّة السامية، تجلّي ظاهريّ رائع لعقيدة القلب وإيمانه بالله تبارك وتعالى، ولليقين الراسخ بنصرة الله عزَّ وجلَّ، وللتوحيد الخالص في الدعاء والطلب.

إنّ الهدف الأساس المنشود من المعارف الدينيّة هو تقرّب العباد إلى الله تبارك تعالى، وهذا المحتوى ظاهرٌ بيّنٌ أيضاً حتّى في نصوص زيارات شهداء كربلاء وخصوصاً زيارات الإمام الحسين عليه السلام المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام حيث نجد من خلال نفس ثقافة الزيارة خطوة من أجل التقرّب إلى الله، وهذا توحيد خالص.

لنقرأ مثلاً هذا النصّ المبارك من إحدى زيارات الإمام الحسين عليه السلام:

"اللّهمّ من تهيّأ وتعبّأ وأعدَّ واستعدَّ لوفادة إلى مخلوق، رجاء رفده وجوائزه ونوافله وفواضله وعطاياه، فإليك يا ربّ كانت تهيئتي وإعدادي واستعدادي وسفري، وإلى قبر وليّك وفدت، وبزيارته إليك تقرّبتُ رجاء رفدك وجوائزك ونوافلك وعطاياك وفواضلك..."
11.

وفي مواصلة هذا الدعاء الشريف أيضاً نقرأ هذه الفقرة التوحيديّة الخالصة التي جاءت على سبيل الحصر، حيث يقول الزائر ضارعاً إلى الله تبارك وتعالى: "... فإليك قصدتُ، وما عندك أردتُ..."12.

هذه المتون الشريفة كاشفة بوضوح عن البعد التوحيديّ في التعاليم الشيعيّة، التي تعتبر مراقد المعصومين عليهم السلام وزيارة أولياء الله معبراً وممرّاً إلى التوحيد الخالص، وتعبّداً بالأمر الإلهيّ الذي أوصى بإحياء وتخليد هذه الشعائر.


30


المبدأ والمعاد

إنّ الاعتقاد بالمبدأ هو أهمّ دوافع الجهاد والتضحية في سبيل الله تعالى، وبدونه لا تجد مقاتلاً يقدُم على الحرب طائعاً راغباً، ويرى نفسه المنتصر في معركة تنتهي بشهادته، إذ ما هو الدافع الذي يمكن معه استقبال الجهاد والاستبسال والتضحية، والترحيب بذلك والإقبال عليه، لو لم يكن هذا الدافع هو الاعتقاد بالحياة الأخرويّة!؟

من هنا، فقد كان لاعتقاد كهذا دور محوريّ وحضور قويّ في أقوال وخطب ومحاورات الإمام الحسين عليه السلام، وفي أشعاره وأشعار أنصاره ورجزهم، يتجلّى فيها في أورع صورة.

فحينما رأى الإمام الحسين عليه السلام جزع أخته عليها السلام قال لها مذكّراً إيّاها بهذا الاعتقاد والإيمان العالي: "يا أختاه! تعزّي بعزاء الله، وارضَي بقضاء الله، فإنّ سكّان السموات يفنون، وأهل الأرض يموتون، وجميع البرّية لا يبقون، وكلّ شيء هالك إلّا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون، وإنّ لي ولك ولكلّ مؤمن ومؤمنة أسوة بمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم "13، وفي نصّ آخر: "... وأنّ كلّ شيء هالك إلّا وجه الله الذي خلق الأرض بقدرته، ويبعث الخلق فيعودون..."14.

ويحدّث عليه السلام أصحابه ليلة عاشوراء، مؤكّداً على نفس هذا المحور الاعتقاديّ، فيقول في جملة حديثه: "... واعلموا أنّ الدنيا حلوها ومرّها حلم، والانتباه في


31


 الآخرة، والفائز من فاز فيها، والشقيّ من شقي فيها..."15.

إنّ اليقين بالمعاد يقطع جذور تعلّقات الإنسان بالدنيا، فيصير بإمكانه أثناء أداء التكليف أنّ يضحّي بنفسه بيسر وسهولة.

في لقاء الإمام عليه السلام مع الفرزدق في منزل16 من منازل طريقه عليه السلام إلى الكوفة أخبره الفرزدق بشهادة مسلم بن عقيل عليه السلام، فأنشد الإمام عليه السلام أبياتاً من الشعر أشار فيها إلى هذه العقيدة النيرّة وهي:

"فإنْ تكن الدنيّا تعدُّ نفيسة                     فدار ثواب الله أعلى وأنبلُ

وإنْ تكن الأبدان للموت أُنشئت                 فقتل امرءٍ بالسيف في الله أفضلُ"
17

وكان عليه السلام قد قال للفرزدق- قبل أن يُنشد هذه الأبيات- بعد أن استعبر باكياً: "رحم الله مسلماً، فلقد صار إلى رَوْح الله وريحانه، وتحيّته ورضوانه، أما إنّه قد قضى ما عليه، وبقي ما علينا".

فهو عليه السلام كان موقناً- في ضوء هذا الاعتقاد- أنّ شهادته وشهادة كلّ من أنصاره وأهل بيته وصول إلى الخلود والاستقرار والاطمئنان في جوار رحمة الله تبارك وتعالى، واللقاء مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والفوز بأعلى درجات النعيم.

وجميع تلك التأكيدات على الأجر الإلهيّ، والفوز والفلاح، والتلذّذ بأنواع شراب الجنّة، والتمتّع بمختلف النعم الإلهيّة الخالدة، كانت تخلق في النفس الدافع إلى الجهاد والشهادة، من هنا فإنّ شهداء كربلاء من خلال هذا الإيمان واليقين كانوا يرون الموت بداية الحياة الطيّبة في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا ختاماً عدميّاً، ولا نهاية للوجود.

فحينما ذهب عليّ الأكبر عليه السلام إلى ميدان القتال، وقاتل قتالاً شديداً، ثمّ عاد


32


إلى أبيه عليه السلام شاكياً إليه ما هو فيه من شدّة العطش، قال له الإمام عليه السلام:"واغوثاه! يا بنيّ قاتل قليلاً، فما أسرع ما تلقى جدّك محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم فيسقيك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأُ بعدها أبداً!"18.

وقد روي أنّ الإمام عليه السلام بعد أن قُتل عليّ الأكبر عليه السلام:"وضع ولده في حجره، وجعل يمسح الدّم عن ثناياه، وجعل يلثمه ويقول: يا ولدي! أمّا أنت فقد استرحت من همّ الدنيا وغمّها وشدائدها، وصرت إلى رَوْح وريحان، وقد بقي أبوك، وما أسرع اللحوق بك!"19.

ونقل أيضاً أنّ الإمام عليه السلام لمّا عاد إليه أحمد بن أخيه الحسن عليه السلام من ميدان الحرب. وقد غارت عيناه من شدّة العطش، فنادى: "يا عمّاه! هل من شربة أُبرّد بها كبدي، وأتقوّى على أعداء الله ورسوله؟ فقال له الحسين عليه السلام:يا ابن أخي! إصبر قليلاً حتّى تلقى جدّك رسول الله فيسقيك شربة من الماء لا تظمأ بعدها أبداً..."20.

وهنا نلاحظ أنّ هذا النصّ أيضاً يذكّر بهذه الحقيقة، وهي أنّ الشهادة في الجبهة تنجلّي مباشرة عن لقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والارتواء من شراب الجنّة.

وعلى أساس هذا الاعتقاد بالذات، كان مجاهدو المعسكر الحسينيّ يرون أعداءهم خارجين عن الدين، تاركين لسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، مخزيّين في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب جهنّم. ففي ضمن أبيات الشعر التي أنشأها الإمام الحسين عليه السلام بعد استشهاد أخيه وصاحب لوائه العبّاس عليه السلام، والتي ذمّ ووبّخ فيها الأعداء على قتلهم عترة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال عليه السلام:

"... فسوف تلاقوا حَرّ نارٍ توقَّدُ"
21.

ويموج رجز أنصار الإمام عليه السلام أيضاً بهذا الارتكاز على المبادئ الاعتقاديّة،


33


وبارتباط القتال بالدافع العقائديّ، وبالإيمان بيوم القيامة، والأمل بمرضاة الله ورجاء ثوابه، والفوز بدرجات الجنّات العليا، فعلى سبيل المثال: لمّا برز عمرو بن خالد الأزديّ إلى ميدان القتال كان يرتجز قائلاً:

"اليومَ يا نفسُ إلى الرحمن                      تمضين بالرَوْحِ وبالريحان"

"اليومَ تُجزين على الاحسان                     ما خطَّ في اللوح لدى الدّيان"

"لا تجزعي فكلّ حيّ فانِ"
22

ثمّ برز ابنه خالد وهو يقول:

"صبراً على الموتِ بني قحطان                 كيما تكونوا في رضى الرحمنِ

ذي المجد والعزّة والبرهان                     وذو العلى والطول والإحسان

يا أبتا قد صرتُ في الجنان                      في قصر دُرٍّ حسن البنيان"


ثمّ برز سعد بن حنظلة التميميّ مرتجزاً:

"صبراً على الأسياف والأسنّة                  صبراً عليها لدخول الجنّه

وحور عينٍ ناعمات هُنَّه                        يا نفسُ للراحة فاجهدنّه

وفي طلاب الخير فارغبنّه"
23

ولمّا برز مسلم بن عوسجة قال مرتجزاً:

"إنْ تسألوا عنّي فإنّي ذو لبد                من فرع قومٍ في ذرى بني أسد

فمن بغانا حائدٌ عن الرشد                    وكافر بدين جبّار صمد"


ولمّا برز عمرو بن مطاع الجعفيّ ارتجز قائلاً:

"اليومَ قد طاب لنا القراع                    دون حسين الضرب والسطاع


34


نرجو بذاك الفوز والدفاع                من حرّ نارٍ حين لا امتناع"24

وهناك نماذج كثيرة أخرى، تكشف جميعها عن المرتكز الاعتقاديّ والإيمانيّ بالمبدأ والمعاد في كفاح أبطال عاشوراء.

كان التذكير في كربلاء بالمبادئ الاعتقاديّة الإسلاميّة على لسان الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره، نوعاً من تجريد الأعداء من سلاحهم، وإدانة لهجومهم على أهل بيت العصمة عليهم السلام، المنافي لكلّ منطق ودين وغاية صالحة، ودليلاً على خروج أولئك الأعداء عن الدين وانفصالهم عن شريعة النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، كما كان تذكير الإمام الحسين عليه السلام بالأصول الاعتقاديّة وتأكيده عليها، منذ بدء نهضته المقدّسة وحتّى ساعة استشهاده، يتضمّن من ناحية أخرى أيضاً دفعاً وإبطالاً للشبهات التي كان سيختلقها الأمويّون فيما بعد.

فسيّد الشهداء عليه السلام في بدء قيامه لمّا عزم على الخروج من المدينة المنوّرة إلى مكّة المكرّمة، دعا بقرطاس ودواة، وكتب وصيّة إلى أخيه محمّد بن الحنفية، هذه الوصيّة إضافة إلى ما كانت تكشفه من مظلوميّة الإمام عليه السلام في ظروف كان الإعلام الأمويّ المضلّل مهيمناً على الأوساط الاجتماعيّة وعلى أذهان النّاس، كانت تكشف أيضاً عن اضطرار الإمام عليه السلام إلى كتابة وتدوين أصول اعتقاداته من أجل دفع وإبطال كلّ اتّهام كاذب وتزوير للحقائق يمكن أن يختلقه الأمويّون ضدّه فيما بعد، كما تضمّنت هذه الوصيّة أيضاً مروراً استعراضياً على المفاهيم الاعتقادية المسلّمة.

وكان نصّ هذه الوصيّة الشريفة: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن عليّ بن أبي طالب إلى أخيه محمّد المعروف بابن الحنفية: أنّ الحسين يشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، جاء بالحقّ من عند الحقّ، وأنّ الجنّة والنّار حقّ، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث من في القبور..."25.

ولا يخفى على المتأمّل أنّ الإمام عليه السلام بعد أن بيّن هذه الأصول الاعتقاديّة تعرّض


35


إلى ذكر علّة قيامه التي هي طلب الإصلاح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والسير على منهج النبيّ والوصيّL، حتّى لا تبقى هناك شائبة أو شبهة يمكن أن تثار ضدّ غايته وهدفه وحركته الدينية المقدّسة.


36


نبّوة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم

"الشهادتان" ركيزتا الاعتقاد والفكر الإسلاميّ، وهما علامة الإنسان المسلم، فبعد "التوحيد" يتصدّر مجموعة أصول العقيدة الإسلاميّة الإيمان بنبوّة الأنبياء عليهم السلام عامّة، وبنبوّة النبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خاصّة.

ولقد كان لهذا الموضوع العقائديّ "النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته" ظهورٌ جليٌ متكرّرٌ في ما صرّح به أبطال عاشوراء من متبنيّاتهم الإيمانيّة، سواء ما صدر عن الإمام الحسين عليه السلام، أو ما صدر عن أهل بيته عليهم السلام وعن أنصاره قدس سره .

إنّ ذكر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وذكر بعثته ورسالته، إحياء للتفكّر الإسلاميّ، كما أنّ ربط وجود الإمام عليه السلام وأهل بيته بالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تذكير آخر بمعتقد مهمّ من معتقدات المسلمين، كذلك فإنّ ربط حركة عاشوراء بإحياء سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ومواجهة البدع التي استحدثت في دين النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم تأكيد أيضاً على مسألة اعتقاديّة مهمّة.

في يوم عاشوراء كان زهير بن القين (رضي الله عنه) واحداً من مجموعة من أصحاب الإمام عليه السلام الذين خطبوا في الأعداء المحيطين بمعسكر الحسين عليه السلام، حيث قال رحمه الله: "يا أهل الكوفة! نذارِ لكم من عذاب الله، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنّا أمّة وأنتم أمّة، إنّ الله ابتلانا وإيّاكم بذرّية نبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم لينظر ما نحن وأنتم عاملون..."26.


37


إذن فهذه الخطبة المهمّة التي ألقاها زهير كشفت عن خروج الأعداء الذين تألّبوا لقتال الحسين عليه السلام عن جماعة "أمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ".

وكانت نهضة كربلاء الواقعة التي أوضحت الحدّ الفاصل بين أتباع الإسلام الحقيقيّين وبين أدعياء الإسلام الكاذبين، لقد انقسم النّاس في كربلاء إلى فريقين: الذابّين عن الحقّ والمخالفين له، وكانت واقعة عاشوراء فيصل هذا التمايز.

فبعد أن قتل الإمام الحسين عليه السلام، وأُخذ أهل بيته أسرى إلى الشام، ادّعى يزيد في ذروة سكره وغروره أنّ بني هاشم لعبوا بالملك وإلّا فلا خبر جاء ولا وحيٌ نزل من السماء، مستشهداً بأبيات ابن الزبعري التي ملؤها العداء للنبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم:

ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا                  جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحاً                       ثمّ قالوا يا يزيد لا تُشَل

قد قتلنا القرم من ساداتهم                   وعدلناه ببدرٍ فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا                       خبر جاء ولا وحيٌ نزل

لستُ من خندف إنْ لم أنتقم                 من بني أحمد ما كان فعل
27

وهذا كفر صريح ونفي لنبوّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته جرى على لسان أحد أدعياء الإسلام من قادة الحزب الأمويّ.

وفي محاورة الإمام الحسين عليه السلام مع ابن عبّاس في مكّة، كان عليه السلام قد سأل ابن عبّاس قائلاً: "يا ابن عبّاس! فما تقول في قومٍ أخرجوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من داره وقراره ومولده، وحرم رسوله، ومجاورة قبره ومولده ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً لا يستقرّ في قرار، ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله؟

فقال ابن عبّاس: ما أقول فيهم إلّا أنّهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلّا وهم كسالى، يراءون النّاس ولا يذكرون الله إلّا قليلاً، مذبذبين بين ذلك لا


38


إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأمّا أنت يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنّك رأس الفخار برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن نظيرة البتول، فلا تظنّ يا ابن بنت رسول الله أنّ الله غافل عمّا يعمل الظالمون، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك، وطمع في محاربتك ومحاربة نبيك محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فَمالَه من خلاق.

فقال الحسين عليه السلام:اللّهم اشهد!"28 فشهد ابن عبّاس صراحةً بكفرهم.

وفي كلّ منزل من منازل الطريق إلى ميدان الشهادة، كان الإمام عليه السلام وأهل بيته وأنصاره يذكرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصورة متواصلة، ويؤكّدون على ارتباطهم به واتبّاعهم له، وكان الإمام عليه السلام وأهل بيته يعرّفون أنفسهم بأنّهم ذريّة ذلك الرسول الطاهر صلى الله عليه وآله وسلم، ويرون أنّ كرامتهم وشرفهم في كونهم ذريّة وورثة ذلك المبعوث الإلهيّ الكريم، فكان هذا أيضاً مبضعاً ينكأ غدد حقد الأمويّين على دين الله وعترة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم.


39


الشفاعة

"الشفاعة" من المباحث الاعتقاديّة البنّاءة، وهي الاعتقاد بأنّ الله تبارك وتعالى يتجاوز عن ذنوب المؤمنين المخطئين بوساطة أوليائه عليهم السلام، والشفاعة لا تكون إلّا بإذن الله عزَّ وجلَّ، والمعصومون عليهم السلام أيضاً إنّما يشفعون لمن يستحقّ الشفاعة عندهم، فالشفاعة إذن لها أرضيّة مشروطة لازمة، والعقيدة بشفاعة الشفعاء تقتضي المراقبة في السلوك والعمل، وهذا هو البعد البنّاء للشفاعة.

إنّ مقام الشفاعة ثابت للنبيّ الأكرم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ولأهل بيته عليهم السلام، وإنّ أعمال الإنسان في الدنيا إنّما يكون نقدها ووزنها بالحقّ في الآخرة، وفي القيامة يأمل كلّ إنسان في شفاعة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وآله ويتطلّع إليها، وحيث لا بدّ لكلّ إنسان في ذلك اليوم من رؤية ولقاء أولئك الشفعاء الكرام ومواجهتهم بما قدّم في الدنيا، إذن فلينظر كلّ إنسان ماذا أعدّ لتلك المواجهة وذلك اللقاء من أجل الفوز بتلك الشفاعة؟

إنّ التذكير بمسألة الشفاعة ومواجهة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم القيامة تنبيه إلى هذا البعد الاعتقاديّ، في حاجة كلّ إنسان إلى شفاعة محمّد وآله صلى الله عليه وآله وسلم، وضرورة ألّا يجترح في الدنيا ذنباً يقطع الصلة ما بينه وبينهم عليهم السلام.

من هنا، نجد أنّ الإمام السجّاد عليه السلام وبقيّة أهل البيت بعد شهادة الحسين عليه السلام كانوا يركّزون في كلّ منزل من منازل الأسر على التنبيه إلى هذا البعد الاعتقاديّ، ففي الكوفة مثلاً، لمّا جاؤوا بالإمام السجّاد عليه السلام مغلول العنق واليدين


40


على تلك الحال المشجية، كان عليه السلام ينشد أبياتاً من الشعر، منها هذا البيت:

لو أنّنا ورسول الله يجمعنا                 يوم القيامة ما كنتم تقولونا؟
29

وقد تمثّلت أيضاً مولاتنا زينب عليها السلام في الكوفة بهذه الأبيات:

ماذا تقولون إنْ قال النبيّ لكم              ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم؟

بعترتي وبأهل بيتي بعد مفتقدي           منهم أسارة ومنهم ضرّجوا بدم!

ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم          أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي!
30

وتنقل بعض المصادر أنّ الذين حملوا رأس الحسين عليه السلام رأوا في أحد منازل الطريق من الكوفة إلى الشام يداً كتبت بقلم من الدّم على الحائط:

أترجوا أمّة قتلت حسيناً                   شفاعة جدّه يوم الحساب؟!31

لقد كان التذكير بموضوع الشفاعة نوعاً من الملامة والتوبيخ لأعداء أهل البيت عليهم السلام على ما اجترحوه بحقّهم، ذلك لأنّ تلك الجناية العظمى تتنافى مع حال أمّة تؤمن بشفاعة نبيّها صلى الله عليه وآله وسلم.

إنّ الأمل بالشفاعة وطلبها الوارد في نصوص الزيارات، له نفس هذا الأثر التربويّ بالذات، نقرأ في إحدى زيارات الحسين عليه السلام مثلاً: "فاشفع لي عند ربّك وكن لي شفيعاً"32.

ونقرأ في زيارة عاشوراء أيضاً: "اللهمّ ارزقني شفاعة الحسين عليه السلام يوم الورود"33.

إنّ أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم هم صفوة الله تبارك وتعالى، الذين اختارهم على العالمين، ولهم المقام الأسمى عنده، وقد تحدّثت نصوص الزيارات عن هذا المقام المحمود


41


لهم عليهم السلام، وكراراً ما كان في أقوال الإمام الحسين نفسه عليه السلام وفي خطبه تذكير بمقامهم السامي هذا، وكذلك في تصريحات وخطب الإمام السجّاد وزينب عليها السلام وبقيّة أهل البيت والأنصار.


42


الإمامة

الإمامة في العقيدة الإسلاميّة منصب إلهيّ يكون بعد النبوّة، بمعنى أنّ الإمامة من لوازم النبوّة التي لا تنفكّ عنها، أي لا بدّ للأمّة بعد النبيّ من إمام، من أجل "تبيين" الدين وحفظ الشريعة والمنجزات الدينيّة، وإقامة حدود الله وأحكامه في المجتمع.

إنّ فلسفة الإسلام السياسيّة في إدارة المجتمع طبقاً لأحكام الدين تتجلّى في قالب وشكل الإمامة، من هنا فإنّ "الجعل والنصب الإلهيّ" من مقوّمات ومعالم الإمامة فضلاً عن الأهليّة في العلم والتقوى، كما هو من مقوّمات النبوّة ومعالمها.

إنّ أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بلحاظ التأهّل الأعلى والقرب الأقرب من منبع الدين، هم الأولى من غيرهم بقيادة وزعامة المسلمين، وما حصل في غدير خمّ كان تأكيداً مجدّداً لبلاغات نبويّة سابقة متعدّدة، في أنّ الخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي حقّ للإمام الذي هو أسمى وأفضل فرد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يعني أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

وقد أكّد هو عليه السلام قبل وبعد وصول الخلافة إليه على هذا الحقّ في مواجهاته ومناقشاته مع الخلفاء ومع معاوية، كما أكّد أئمّة أهل البيت الآخرون عليهم السلام بعد شهادة عليّ عليه السلام على هذا الحقّ الصريح بصورة متواصلة، إذ إنّهم عليهم السلام كانوا يرونه حقّاً مسلّماً لهم.

ولقد كانت نهضة عاشوراء تجلّياً لتحقيق هذا الحقّ، من خلال الارتباط بهذا الركن الركين للمجتمع الإسلاميّ، ومع أنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في إطار ظروف


43


وشروط خاصّة (ليس هنا مجال بحثها) كان قد أمضى الصلح مع معاوية، وكان الإمام الحسين عليه السلام أيضاً قد التزم بهذه المعاهدة ما دام معاوية حيّاً، إلّا أنّ أهل هذا البيت عليهم السلام كانوا وبصورة مستمرّة يصرّحون بحقّهم في إمامة المسلمين ومنصب الخلافة، وكانوا يسعون بصورة متواصلة - بحسب الإمكان والاستطاعة- إلى تحقيق الوصول الفعليّ إلى هذا الحقّ منه خلال توعية النّاس وتهيئة المقدّمات والممهّدات اللازمة.

وفي هذا السبيل كان لأبي عبد الله الحسين عليه السلام عدّة برامج محوريّة، هي:

 بيان موقع ومكانة الإمامة، وشرائط وخصائص الإمام.
 بيان فقدان الآخرين لأهليّة التصدّي لهذا المنصب الإلهيّ.
 بيان أهليّة الإمام نفسه عليه السلام وأحقيّته بإمامة المسلمين.

ولقد كانت للإمام الحسين عليه السلام في كلٍّ من هذه المحاور الثلاثة بيانات وتصريحات عالية، نشير إلى بعض منها:

شرائط الإمام

بعد أن جاءت رسائل وجوه وأعلام أهل الكوفة وجماهيرها وكبار شيعتها إلى الإمام الحسين عليه السلام وهو في مكّة المكرّمة، يدعونه فيها إلى القدوم إلى الكوفة، ليثوروا في ظلّ إمامته على الطاغية يزيد بن معاوية، كتب الإمام عليه السلام إليهم رسالة، وبعثها إليهم مع اثنين من الرسل، وأشار فيها إلى أنّه قد بعث إليهم بابن عمّه مسلم بن عقيل عليه السلام ممثّلاً عنه، وقد صرّح عليه السلام في ختامها قائلاً: "... فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحقّ، الحابس نفسه على ذات الله..."34.

هذا البيان كاشف عن مواصفات الإمام الحقّ عليه السلام من منظاره هو، وإمام كهذا هو التجسيد الكامل لدين الله تبارك وتعالى، ومعرفة هذا الإمام ضرورة دينيّة وعقليّة، وإطاعته حتميّة.

فمعرفة الإمام المفترض الطاعة، وتسليم زمام الأمر إلى ولايته وهدايته شرط


44


لعبادة الله تعالى، وأرضيّة لمعرفة الله الكاملة، فقد ورد في إحدى زياراته عليه السلام:

"اللّهمّ إنّي أشهد أنّ هذا القبر قبر حبيبك، وصفوتك من خلقك، والفائز بكرامتك، أكرمته بالشهادة، وأعطيته مواريث الأنبياء، وجعلته حجّة على خلقك"
35.

ونقرأ في نص آخر من زيارته هذه الفقرة الشريفة:
"وأشهد أنّك الإمام الراشد والهادي، هديت، وقمت بالحقّ وعملت به، وأشهد أنّ طاعتك مفترضة وقولك الصدق، وأنّك دعوت إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة..."36.

أهليّته عليه السلام للإمامة ونفيه لأهليّة الآخرين

عندما تتّضح وتتبيّن الشرائط الكليّة للإمامة ومواصفات الإمام الصالح، يكون المحور الآخر للبحث هو انطباق ذلك العنوان على شخص خاصّ.

ولقد كان قائد نهضة عاشوراء، في مناسبات مختلفة ومواقع متعدّدة، يوجّه أذهان المسلمين نحو "الإمام الصالح" ويسوقها إليه، من خلال بيانه لمكانة أهل البيت السامية، وعدّه لفضائله وما يتمتّع به من ملاكات الإمامة، وذكره أيضاً لنقاط ضعف الأمويّين والإشكالات الأساسيّة لا يمكن الإغماض عنها فيهم عامّة، وفي يزيد بن معاوية خاصّة.

ونماذج هذه البيانات وهذه التحذيرات كثيرة، نشير هنا إلى بعض منها: بعد أن التقى الإمام الحسين عليه السلام في الطريق إلى الكوفة مع جيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ، وبعد أن صلّى عليه السلام فيهم صلاة العصر جماعة، خطب فيهم وكان من خطبته: "أمّا بعد أيّها النّاس، فإنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله عنكم، ونحن أهل بيت محمّد أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان..."37.

وفي رسالته التي كتبها بعد لقائه بجيش الحرّ بن يزيد الرياحيّ إلى وجهاء الشيعة


45


وجماعة المؤمنين في الكوفة، كان ممّا ذكر عليه السلام فيها: أنّ هؤلاء القوم (أي الحكّام الأمويّين) قد لزموا طاعة الشيطان، وتولّوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود، واستأثروا بالفيئ، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله، ثمّ قال عليه السلام بعد ذلك: "وإنّي أحقّ بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "38.

وفي بدء نهضته عليه السلام لمّا وصل خبر موت معاوية إلى المدينة، واستدعاه والي المدينة آنذاك الوليد بن عتبة بأمر من يزيد ليأخذ منه البيعة له، فجاءه الإمام عليه السلام، ورفض أن يبايع، قال عليه السلام في ختام ذلك اللقاء الساخن معلناً عن بدء قيامه ونهضته: "أيّها الأمير! إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومحلّ الرحمة، وبنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل النفس المحرّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايع لمثله، ولكن نُصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة "39.

لقد كانت هذه هي نظرة الإمام الحسين عليه السلام ليزيد بن معاوية من قبل ذلك بسنين، إذ لمّا أراد معاوية أخذ البيعة من النّاس بولاية العهد ليزيد في حياته، كان همّه الأكبر أن يحصل أوّلاً على موافقة وجهاء وكبار شخصيّات العالم الإسلاميّ يومذاك، وخصوصاً من كان منهم في المدينة، فلّما التقى معاوية ابن عبّاس والإمام الحسين عليه السلام في المدينة، وجمع الثلاثة مجلس خاصّ، دعاهما معاوية إلى بيعة يزيد، فكان ممّا ردّ عليه الإمام عليه السلام موبّخاً إيّاه على جسارته ووقاحته: "... ولقد فضَّلت حتّى أفرطت، واستأثرت حتّى أجحفت، ومنعت حتّى بخلت، وجرت حتّى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من أتمّ حقّه بنصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمّد! تريد أن توهم النّاس في يزيد، كأنّك تصف محجوباً! أو تنعت غائباً! أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ! وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ يزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبّق لأترابهنّ،


46


والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصراً، ودع عنك ما تحاول!"40.

وممّا كتبه عليه السلام في رسالة إلى معاوية بصدد نفس هذا الموضوع:

"واتّق الله يا معاوية! واعلم أنّ لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها، واعلم أنّ الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صبيّاً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب! ما أراك إلّا قد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعيّة..."
41.

ويخاطبه عليه السلام في نفس هذه الرسالة أيضاً قائلاً:

"وقلت فيما قلت: لا تردنَّ هذه الأمّة في فتنة! وإنّي لا أعلم لها فتنة أعظم من إمارتك عليها! وقلت فيما قلت: أنظر لنفسك ولدينك ولأمّة محمّد! وإنّي والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإنْ أفعل فإنّه قربة إلى ربّي، وإنْ لم أفعله فأستغفر الله لديني..."
.42

هذه نظرة الإمام الحسين عليه السلام في صدد خلافة وسلطة غير الصالحين، وقد ورد أيضاً في نقل آخر أنّ الإمام عليه السلام كتب رسالة إلى معاوية يؤنّبه فيها على جملة من الأمور، منها قوله عليه السلام:

"ثمّ ولّيت ابنك وهو غلام يشرب الشراب، ويلهو بالكلاب، فَخِنْتَ أمانتك وأخربت رعيّتك، ولم تؤدّ نصيحة ربّك، فكيف تولّي على أمّة محمّد من يشرب المسكر!. وشارب المسكر من الفاسقين، وشارب المسكر من الأشرار، وليس وشارب المسكر بأمين على درهم فكيف على الأمّة؟! فعن قليل ترد على عملك حين تطوى صحائف الاستغفار"
43 !

إنّ الرجل المؤهّل لإمامة المسلمين - في نظرة الإمام الحسين عليه السلام - هو الرجل الأعلى والأفضل في العلم والتقوى والأصل والنسب.


47


ففي سفر معاوية إلى المدينة، كان قد أمر بعد وصوله إليها أن ينادى في النّاس: أن يجتمعوا لأمر جامع، فاجتمع النّاس في المسجد، ورقى معاوية المنبر- وكان مجموعة من وجهاء المدينة الذين لم يبايعوا ليزيد على ولاية العهد يومذاك جالسين حول المنبر وكان منهم الإمام الحسين عليه السلام - فشرع معاوية في خطبته بذكر فضائل يزيد! وكان ممّا قاله فيها: "يا أهل المدينة! لقد هممتُ ببيعة يزيد، وما تركت قرية ولا مدرة إلّا بعثت إليها ببيعته، فبايع جميعاً وسلّموا، وأخّرت المدينة بيعته! وقلتُ: بيعته وأصله ومن لا أخافهم عليه، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله، والله! لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد لبايعت له" !

فقام الحسين عليه السلام وقال: "والله! لقد تركت من هو خير منه أباً وأمّاً ونفساً!"، فقال معاوية: كأنّك تريد نفسك!؟ فقال الحسين عليه السلام:"نعم، أصلحك الله"44.

وورد في رواية أخرى أنّ الإمام الحسين عليه السلام قال لمعاوية: "أنا والله أحقّ بها منه، فإنّ أبي خير من أبيه، وجدّي خير من جدّه، وأمّي خير من أمّه، وأنا خيرٌ منه"45.

إنّ الانقياد لأمر الحاكم- أيّاً كان- ليس صحيحاً في منطق عاشوراء والدين إذ ليس كلّ إمام وحاكم أهلاً للإتّباع، وفي الثقافة القرآنيّة هناك "إمام نارٍ" و"إمام نور"، فأئمّة الظلم والباطل هم "أئمّة النّار" الذين يردون جهنّم ويوردونها أتباعهم، أمّا "أئمّة النور" فهم الأئمّة الإلهيّون المنوَّرون والمنوِّرون، المهديّون الهادون من اتّبعهم إلى الصراط المستقيم.

ولقد كان أبطال عاشوراء على معرفة عميقة بهذه الحقيقة، فحينما انتهى الإمام الحسين عليه السلام إلى أرض نينوى، بالمكان الذي نزل به، كان رسول من قبل ابن زياد قد أقبل يحمل رسالة منه إلى الحرّ بن يزيد الرياحيّ، يأمره فيها أن يجعجع بالإمام عليه السلام، فنظر أحد أصحاب الإمام عليه السلام وهو يزيد بن المهاجر الكنديّ إلى رسول ابن زياد فعرفه، فقال له: ثكلتك أمّك! ماذا جئت فيه؟! قال: أطعتُ إمامي ووفيت


48


ببيعتي! فقال له ابن المهاجر: بل عصيت ربّك، وأطعت إمامك في هلاك نفسك، وكسبت العار والنّار، وبئس الإمام إمامك، قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّار وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنصَرُونَ46 فإمامك منهم47.

بلاغ عاشوراء هو هذا: أنّ الحاكميّة والولاية في المجتمع الإسلاميّ حقّ لأفضل أفراد هذا المجتمع، الذين هم أعلى النّاس إيماناً، وأشدّهم التزاماً، الذين لا يألون جهداً في سبيل تطبيق القرآن، وتحقيق أوامر الله تبارك وتعالى، وهداية المجتمع إلى الإسلام الخالص، ومنهاج حكومتهم قائم على أساس العدل والقسط واحترام أموال وأرواح وأعراض المسلمين، ولا يكون هذا الأمر إلّا بتنصيب الإمام من قبل الله تبارك وتعالى، أو من ينصبه الإمام المعصوم عليه السلام، وإلّا فلن يؤدّى حقّ هذا المنصب الإلهيّ، ولن تؤدّى حقوق النّاس.

ومع تسلّط غير الصالحين فإنّ مصير المجتمع سيؤول إلى سفال وسقوط، وسيزول دين الله، والإمام الحقّ لا يقبل مثل هذه الحكومة ولا يبايعها أبداً، ولقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بهذا الرفض القاطع ضمن عدّه لمعايب يزيد، ونفيه لأهليّته للخلافة، حيث قال عليه السلام:"... لا والله! لا يكون ذلك أبداً"48.

وفي سبيل هداية النّاس، واستنقاذهم من كلّ هلكة، الأمر الذي هو من شؤون الإمامة الحقّة، كان سيّد الشهداء عليه السلام قد اندفع إلى ميدان المواجهة التي ستختم بالشهادة، وهذا بالذات هو الأرضيّة الممهّدة لرفع الجهل عن الأمّة ولإيقاظها من سبات الغفلة والحيرة.

لنقرأ هذه الفقرة الشريفة من زيارة الإمام الحسين عليه السلام:

"فأعذَرَ في الدّعوة، وبَذل مُهجَته فيك ليَسَتنقذ عبادك مِن الضّلالة والجهالة والعمى والشكّ والارتياب، إلى باب الهدى والرشاد"49.


49


إنّ عمل الإمام كاشف عن الرؤية الإسلاميّة الصحيحة للزعامة والخلافة، والإمام الحسين عليه السلام حتّى لو لم يجد معيناً أو ناصراً، وحتّى لو لم يدعه أو يبايعه أحد لما بايع يزيد، ذلك لأنّ حكومة يزيد لا مشروعيّة لها، وقد صرّح الإمام الحسين عليه السلام بذلك قائلاً:

"والله! لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية"50.


50


مواجهة البدعة

يتعرّض الدين دائماً من قبل الأعداء إلى التحريف، وسوء الاستفادة، والتفسير الخاطئ، واختلاق البدعة، وبالمقابل فإنّ من مسؤولية أئمّة الحقّ وعلماء الدين صيانة العقيدة والشريعة الإسلاميّة من كلّ تحريف ومواجهة كلّ بدعة، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:

"إذا ظَهَرتِ البِدَعُ في أمّتي فَليُظهِرِ العالِمُ عِلمَهُ، فَمن لم يفعل فَعليه لعنةُ الله"51، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً أنّه قال:

"إنّ عندَ كلّ بدعةٍ تكونُ من بعدي يُكاد بها الإيمان وليّاً من أهل بيتي موكّلاً به يذبّ عنه، ينطق بإلهام من الله، ويُعلِنُ الحقّ وينوّره، ويردُّ كيف الكائدين، يعبّر عن الضعفاء، فاعتبروا يا أولي الأبصار، وتوكّلوا على الله "
52.

ولقد نهض الإمام الحسين عليه السلام لردّ كيد الأمويّين ومواجهة بدعهم الكثيرة التي ابتدعوها في هذا الدين، بصفته "أحقّ من غيّر"53 لإعادة الحقّ إلى نصابه وأهله، ولإزالة البدع، حفاظاً على الإسلام المحمّديّ الخالص. وكما أفصح عليه السلام عن دوافعه وغاياته من هذه النهضة المقدّسة في وصيّته لأخيه محمّد بن الحنفيّة وفي مناسبات أخرى، كذلك أفصح عنها في رسالته إلى وجهاء وأشراف البصرة التي بعثها إليهم من


51


مكّة المكّرمة، حيث قال عليه السلام فيها:

"أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ السنّة قد أميتت، والبدعة قد أُحييت"54.

هذه هي رسالة الإمام عليه السلام:أن يثير مشاعر الأمّة ويهيج حساسيتها، ويدفعها إلى القيام والنهضة عندما تتعرّض العقيدة الخالصة إلى التحريف، والسنّة الصحيحة إلى الموت، وتعود الجاهليّة إلى الحياة.

وتأكيده عليه السلام على المضيّ في هذا الطريق على سيرة جدّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسيرة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام صورة أخرى أيضاً لنفس هذه المواجهة مع البدعة، ولنفس هذا الحفاظ على الدين.

إنّ ما كان الأمويّون يدّعونه، ويعرضونه بل يفرضونه على النّاس، هو صورة محرّفة وممسوخة ومشوّهة لدين محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وكان المخدوعون بهذا التضليل الذين اعتقدوا بالإسلام الأمويّ لا يرون تعارضاً بين ذلك الإسلام وبين المفاسد والمظالم التي كان يجترحها يزيد بن معاوية وأبوه من قبل، وكان الأمويّون قد أضلّوا أكثر هذه الأمّة الإسلاميّة، لذا فقد رأى الإمام الحسين عليه السلام أنّ إنقاذ هذه الأمّة من هذا الضلال ومن استمرار هذا التضليل، وإثبات أنّ ما هو حاكم وسارٍ في النّاس ليس إسلام محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، لا يمكن أن يتحقّق إلّا عن طريق الكلام الصادق النابع من الروح أو سفك دمٍ عزيز- فقام الإمام عليه السلام ليريق دمه المقدّس- وهو نفس دم النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ويستشهد مظلوماً على هذا الطريق، هو ومن معه من صفوة أهل بيته وأنصاره، ليتحقّق بذلك "الفتح المبين" في تخليص الإسلام المحمّديّ الخالص من كلّ شائبة أمويّة وغير أمويّة إلى يوم الدين.

نقرأ في خطاب رائع للإمام الخمينيّ قدس سره هذه الفقرة الكريمة:

"يجب أن نسعى إلى كسر حصار الجهل والخرافة، حتّى نصل إلى منبع زلال الإسلام المحمّدي الخالص، وإنّ هذا الإسلام اليوم هو أكثر الأشياء غربة في هذا العالم، ونجاته تحتاج إلى أضاحي، فادعوا الله أن أكون أنا أيضاً من أضاحي هذا الإسلام"
55.


52


هوامش

1- صحيفة نور، ج12، ص181.
2- نفس المصدر، ج7، ص230.
3- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام، ص231.
4- مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزميّ، ج1، ص328.
5- بحار الأنوار، ج44، ص367.
6- راجع: بحار الأنوار، ج25، ص17.
7- راجع: المناقب لابن شهر آشوب، ج4، ص109 ـ 110.
8- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص361.
9- نفس المصدر، ص378.
10- بحار الأنوار، ج25، ص4.
11- تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسيّ، ج6، ص62.
12- نفس المصدر.
13- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص405 و404 على الترتيب.
14- نفس المصدر.
15- نفس المصدر، ص398.
16- هناك مجموعة من الأخبار تفيد أنّ الفرزدق لقي الإمام عليه السلام في أكثر من موضع، والصحيح أنّهما التقيا مرّة واحدة في منزل واحد، راجع تحقيق هذه القضيّة في موسوعة (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة).
17- بحار الأنوار، ج44، ص374، وتتمّة هذه الأبيات:
وإنْ تكن الأرزاق قسماً مقدّراً فقلّة حرص المرء في الرزق أجملُ
وإنْ تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به الحرّ يَبْخَلُ؟

18- اللهوف، ص49.
19- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص463.
20- معالي السبطين، ج1، ص455، المجلس 22.
21- راجع: بحار الأنوار، ج45، ص41.
22- المناقب، لابن شهر آشوب، ج4، ص102 و102.
23- نفس المصدر.
24- نفس المصدر.
25- بحار الأنوار، ح44، ص329.
26- حياة الإمام الحسين بن علي عليه السلام ، ج3، ص188.
27- اللهوف، ص79.
28- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ص306 و307.
29- راجع: مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم، ص410.
30- اللهوف، 74.
31- نفس المصدر، ص75 و76.
32- مقتل الحسين عليه السلام للمقرّم، ص444.
33- مفاتيح الجنان، زيارة عاشوراء، ص458.
34- الإرشاد، للشيخ المفيد، ج2، ص30، طبعة مؤتمر الشيخ المفيد.
35- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسيّ، ج6، ص 58 و59.
36-نفس المصدر.
37- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص32، بحار الأنوار، ج44، ص377.
38- بحار الأنوار، ج44، ص382.
39- مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص 184.
40- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص461.
41- كتاب الغدير، ج10، ص161.
42- نفس المصدر.
43- موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام ، ص258، نقلاً عن دعائم الإسلام، ج2، ص133، ح468.
44- نفس المصدر، ص263.
45- نفس المصدر، ص265.
46- القصص، 41.
47- راجع: بحار الأنوار، ج44، ص380.
48- راجع: مقتل الحسين عليه السلام ، للخوارزميّ، ج1، ص182.
49- تهذيب الأحكام، للشيخ الطوسيّ، ج6، ص59.
50- أعيان الشيعة، ج1، ص588.
51- أصول الكافي، ج1، ص54، رقم 2.
52- نفس المصدر، رقم 5.
53- قال عليه السلام في خطبة له في أصحابه وأصحاب الحرّ في منزل البيضة، بعد أن استعرض التحريفات والبدع التي قام بها الأمويون: «وأنا أحقّ من غيّر»، راجع: تاريخ الطبري، ج3، ص306.
54- تاريخ الطبريّ، ج3، ص28.
55- صحيفة نور، ج21، ص41.