المقدمة

 بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على رسوله محمّد وآل بيته الهداة الميامين.

كربلاء محطّة تاريخيّة لا تقف عند حدود سنة إحدى وستّين للهجرة، ولا على حدود كربلاء الجغرافيّة، بل تتعدّى بأطرافها المعنويّة حدود الزمان والمكان لتبقى غضّة طريّة تتجدّد مع الأيّام والشهور والسنوات، صادعاً صوتها، مجاوباً صداها، تضيء بنورها ظلمة الليالي الحالكة، لتقشع عن العيون أغشية الظلام الدامس الذي أرسته أيدي الظالمين والطغاة على مرِّ العصور.

إنّها صوت الحسين عليه السلام الخالد، الذي يطرق مسامع الزمن مدويّاً في أرجائه، ويقضّ مضاجع الطواغيت وينكّس عرشهم في عليائه..إنّها أنشودة الأحرار، وأغنية الثوّار، تصغي إليها آذانهم وتعيها قلوبهم، وتترنّم بها أفواههم وتجسّدها أقوالهم وأفعالهم..إنّها مدرسة الحسين عليه السلام التي تخرّج منها أحبّاء كحبيبه، وأحرار كحرّه، وأبرار كبريره، وأزهار كزهيره...وعشّاق شهداء... لا سبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من جاء بعدهم..وقد أوضح الإمام الحسين معالم مدرسته من خلال نداءاته وخطاباته وكلماته النيّرة، بما يشكّل بلاغاً للنّاس، وقد قال الله تعالى مخاطباً نبيّه الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في بعض آيات كتابه:
﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ1، والإمام الحسين عليه السلام هو السائر على منهاج جدّه والمقتفي لأثره بمقتضى نصِّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:"حسين منّي وأنا من حسين"، فدعا ونادى وأبلغ وهدى، بما هو وظيفة الإمام من ربّه كما في بعض خطب أمير المؤمنين عليه السلام:"إنّه ليس على الإمام إلّا ما حمل من أمر ربّه، إلّا بلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والإحياء للسنّة، وإقامة الحدود على مستحقّيها، و.."2.

ومن هنا جاء في بعض زيارات الإمام الحسين عليه السلام:"صلّى الله عليك يا أبا عبد الله، أشهد أنّك قد بلّغت عن الله عزَّ وجلَّ ما أمرت به، ولم تخش أحداً غيره، وجاهدت في سبيله وعبدته صادقاً حتّى أتاك اليقين، أشهد أنّك كلمة التقوى وباب الهدى والعروة الوثقى.."3.

فقد قام الإمام عليه السلام بالبلاغ والإبلاغ، وسعى جاهداً أن يسمع صوته حتّى إلى من أصمَّ أذنيه عن كلماته، تقول الرواية: وأحاطوا بالحسين من كلِّ جانب حتى جعلوه في مثل الحلقة، فخرج عليه السلام حتى أتى الناس فاستنصتهم فأبوا أن ينصتوا حتّى قال لهم: "ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا إليَّ فتسمعوا قولي، وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد، فمن أطاعني كان من المرشدين، ومن عصاني كان من المهلكين، وكلّكم عاص لأمري غير مستمع قولي، فقد ملئت بطونكم من الحرام، وطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟! ألاتسمعون؟!"4.

فقد أراد الإمام الحسين عليه السلام لكلماته المضيئة أن تخترق الحجب وتنير القلوب المظلمة، فوجّه بلاغاته ودروسه في مختلف الاتجاهات والجوانب، ممّا يستدعي بحقّ ضرورة الوقوف عند هذه البلاغات العاشورائيّة الكربلائيّة واستلهام الدروس العظيمة منها والسير على هديها ونهجها.

هذا الكتاب:


وكان مركز الدراسات الإسلاميّة قد قام بطبع كتاب "بلاغ عاشوراء" لمؤلّفه سماحة المحقّق والكاتب الخبير حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ جواد محدّثي، و الذي قام بتعريبه ونقله من اللغة الفارسيّة إلى اللغة العربيّة العالم الفاضل الأستاذ عليّ الشاوي.

ونحن بدورنا في معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ وبعد اطّلاعنا على هذا الكتاب وأهميّته في نشر الثقافة العاشورائيّة، إرتأينا إعادة طبعه ونشره تعميماً للفائدة.

وحيث كان الكتاب قد طبع في الجمهورية الإسلاميّة المباركة، وقد راعى الكاتب فيه ارتباط مفاهيمه بالتاريخ المعاصر المتعلّقبالثورة الإسلاميّة والدفاع المقدّس، فقد قمنا في المعهد باختصار هذه التطبيقات- على أهميّتها- لعدم ارتباطها المباشر بساحتنا الإسلاميّة في لبنان، على أمل أن يلتفت القارئ الكريم إلى تطبيق هذا الربط مع التجربة الإسلاميّة الرائدة على أيدي المجاهدين الأبطال في المقاومة الإسلاميّة.

كما وحذفنا بعض نصوص الكتاب- وهي موارد قليلة- لعدم انسجامها مع سياسات المعهد.

وختاماً فإننا إذ نشكر المؤلّف والمعرّب والجهة الناشرة جهودهم المباركة نسأله تعالى أن يثيب العاملين في هذا الكتاب وأن يتقبّل عملهم بأحسن القبول، وأن يشركنا معهم في الأجر والثواب، ويوفّقنا جميعاً لما فيه إحياء أمر محمّدٍ وآل بيته الطاهرين، ويرزقنا شفاعتهم يوم الدين، إنّه سميع مجيب.

مقدّمة المؤلّف


لم تكن "عاشوراء" حادثة قدّر لها أن تقع في نصف أو في جلّ نهار يوم من أيّام سنة إحدى وستّين من الهجرة منفصلة عمّا قبلها وما بعدها، فلقد كان لواقعة عاشوراء جذور في وقائع حركة الأحداث والتحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة التي عاشها المسلمون منذ رحلة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتّى سنة ستّين من الهجرة، كما أنّ نتائجها وآثارها التي كان لها تأثير عظيم في حياة المسلمين فكراً وعملاً لم تزل إلى اليوم تمتدّ وتتّسع في تأثيرها البالغ في حياة الأمّة، وستبقى ممتدّة في هذا التأثير المبارك المتّسع إلى يوم القيامة.

ومع جميع ما أُخذ عن نهضة كربلاء وشهادة أبي عبد الله الحسين عليه السلام إلى اليوم، من استفادات ومواعظ وعبر، ودروس حماسيّة، وجهاديّة، وتربويّة، ومعنويّة، إلّا أنّنا نرى أنّ غناء هذه النهضة الإلهيّة أكثر بكثير ممّا أُخذ عنها واستفيد منها حتّى الآن، وأنّ على الأجيال الحاضرة والقادمة أن تنهل وترتوي بلا انقطاع من معين كوثر الإيمان واليقين هذا، وأن تسقي هي أيضاً عطاشى الحقيقة الخالصة.

من هنا، فمع كلّ الآثار والأعمال الفكريّة والأدبيّة التي تحقّقت على طريق معرفة هذه الملحمة الخالدة، إلّا أنّ الحاجة لم تزل قائمة وماسّة في كلّ زمان لمزيد من هذه الجهود الثقافيّة، من أجل مزيد متواصل من الاكتشاف الجديد، وقراءة أشدّ وضوحاً في العمق، وسعة أكثر شمولاً في الإحاطة، حتّى يمكن مواصلة تدوين دروس وعِبر هذه الواقعة المقدّسة بشكل ومحتوى أفضل، وتعليمها ونشرها في جميع العالم، كي تنجذب البشريّة عامّة، والأرواح الباحثة عن الحقيقة خاصّة إلى تجلّيات وجماليّات هذه الملحمة الرائعة.

فلعاشوراء إذن "بلاغ" تشعُّ به أبداً، ولجميع النّاس...فيليق بنا إذن أن ننتمي إلى مدرستها الخالدة، ونأخذ عنها دروسها، حتّى نبلغ بذلك المراتب العليا من الإيمان، والمعرفة بالدين، والعلم بالتكليف.

ما هو بلاغ عاشوراء؟ وعمّن يؤخذ؟من أجل استخراج دروس وبلاغات وعبر عاشوراء يمكننا هنا أن نشير إلى أفضل المنابع والطرق التي يمكن الاطمئنان إليها في هذا السبيل:

أقوال وخطب الإمام الحسين عليه السلام وأنصاره -المستشهدين بين يديه- وذويهم.

المنهج العمليّ والأخلاقيّ لسيّد الشهداء عليه السلام، وأهل بيته عليهم السلام، وأصحابه (قدّس سرّهم).

النصوص الدينيّة (خصوصاً الواردة منها عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام)، والمتون التأريخيّة المعتبرة المرتبطة بعاشوراء.

وفي بداية هذا الكتاب، وقبل التورّط في أصل بحث "بلاغ عاشوراء" سنتعرّض إلى المقصود من كلمة "البلاغ"، والفرق بينها وبين الدرس، وما هو الشيء الذي نحن في طلبه في هذا البحث.

أضف إلى ذلك: أنّنا في بداية كلّ بحث من بحوث هذا الكتاب التي وردت تحت عنوان: البلاغات الاعتقاديّة والبلاغات السياسيّة والبلاغات الأخلاقيّة والبلاغات العرفانيّة والبلاغات التأريخيّة... سنقدّم إيضاحاً حول مفهوم ونطاق كلّ عنوان، كي يتجلّى هدف المؤلّف من وراء ذلك العنوان، ثمّ بعد شرح وإيضاح العناوين سنتناول بالتفصيل شرح المحاور الفرعيّة لكلّ عنوان، مدعوماً بالمستندات التأريخيّة والشواهد المستفادة من كلمات أبطال ملحمة عاشوراء، وسنكشف في بعض الموضوعات عن ارتباط هذه المفاهيم بتأريخنا المعاصر، وسنشير على هذا الصعيد إلى أمثلة بليغة من أقوال الإمام الخمينيّ {، وشواهد من ثقافة الجهاد والشهادة التي تبلورت أبعادها في عهد الثورة الإسلاميّة والدفاع المقدّس، كيما يكون البحث أكثر تخصّصاً وأفضل هداية، وليكون الهدف المنشود من وراء هذا البحث عمليّاً أكثر في نقل دروس عاشوراء، حتّى يستفيد منها النّاس.

ويجدر هنا أن أتقدّم بالشكر الجزيل إلى الأخ الكريم السيّد عليّ المقيمي الذي أعانني كثيراً في نقل قسم من متون موضوعات هذا الكتاب عن مصادرها.

جواد محدّثي ـ قم ـ آذار 1998م

معهد سيّد الشهداء عليه السلام للمنبر الحسينيّ

هوامش

1- آل عمران:20.
2- نهج البلاغة, الخطبة 105.
3- الكلينيّ: الكافي ج 4 ص 573.
4- المجلسيّ: بحار الأنوار ج 45 ص 8.