المحاضرة الخامسة: الإتعاظ بالعبر

تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ1.

الهدف:
بيان السبيل الصحيح للاعتبار والفوائد الكثيرة التي ينالها المعتبر في حياته.


49


المقدّمة
إنّ المتأمّل في أحداث زمانه وما يحيط به من سُنن يرى بعين البصيرة ما تزخر به صروف الحياة من دروسٍ وعِبَر، وهو بذلك يزيد إلى عمره أعمار الآخرين وإلى ثقافته ثقافتهم وإلى تجاربه تجاربهم، فيكون كمن عاش برصيدٍ من الوعي والغنى والقناعة يمكّنه من مواجهة التحديات مهما قست والإبتلاءات مهما اشتدّت وقست، وإلى هذا أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "من تبيّنت له الحكمة عرف العبرة، ومن عرف العبرة فكأنّما كان في الأوّلين"2.

محاور الموضوع
سبل الاعتبار

1- التأمّل: فلا يكون مغمض العينين فيما يجري حوله كمن يسير في جنازةٍ ولا يستحضر أهوال الموت أو يستمع إلى موعظةٍ فلا يجريها على نفسه فيحاسبها على أعمالها، فقد قال عليّ عليه السلام: "من تأمّل اعتبر، من اعتبر حذر"3.


50


2- التفكّر: أي إعمال العقل في صروف الحياة وربط الأسباب بمسبَّباتها والنتائج بمقدِّماتها بطريقة علميّة دينيّة، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "رحم الله امرءاً تفكّر فاعتبر، واعتبر فأبصر"4.

وعنه عليه السلام: "أفضل العقل الاعتبار، وأفضل الحزم الاستظهار، وأكبر الحمق الاغترار"5.
وعلى العكس من ذلك فمن لم يُعمل عقله ورضي بجهله حُرم بركات الاعتبار، كما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من جهل قلّ اعتباره"6.

3- الاستبصار: أي التبصّر لعواقب الأمور وتبعاتها ومختلف الآثار والنتائج المترتّبة عليها، فقد ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "بالاستبصار يحصل الاعتبار"7.


51


4- الخوف من الله: قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى8، فالخوف من الله يُصوّب طبيعة العلاقة بين العبد وربّه، وبالتالي فإنّ هذه العلاقة تصحّح مسار الإنسان وتجعله دائماً على النهج القويم.

5- العلم: فالعلم سبيل أهل النهى للاعتبار، لأنّ العلم ما لم يقترن بالتعقّل والتدبّر يصبح حجاباً على قلب صاحبه، فعن عليّ عليه السلام: "كفى معتبراً لأولي النهى ما عرفوا"9.

6- الإسلام: عن عليّ عليه السلام في صفة الإسلام: "فجعله... آية لمن توسّم، وتبصرة لمن عزم، وعبرة لمن اتعظ" 10.

الاعتبار بالقرآن الكريم
عن الإمام عليّ عليه السلام إنّه مرّ على المدائن فلما رأى آثار كسرى وقرب خرابها، قال رجل ممّن معه:
جرَتِ الرياح على رسوم ديارهم        فكأنّهم كانوا على ميعادِ


52


فقال عليه السلام أفلا قلت: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ11.

عن الإمام علي عليه السلام: "لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير العمل... يصف العبرة ولا يعتبر، ويبالغ في الموعظة ولا يتّعظ"12.

ثمرة الاعتبار

1- عدم الوقوع في المعصية: ويُشبّه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعتبر بتشبيه غاية في الروعة إذ يقول: "المعتبر في الدنيا عيشه فيها كعيش النائم يراها ولا يمسها، وهو يزيل عن قلبه ونفسه - باستقباحه معاملة المغرورين بها - ما يورثه الحساب والعقاب"13. فيبتعد باعتباره عن كلّ ما يُصعّب وقوفه بين يدي الله حتّى تحسبه لا يعصي كما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "الاعتبار يثمر العصمة"14. وعنه عليه السلام: "اعتبر تزدجر"15.


53


بل كأنّما الذي لا يزدجر لم يعتبر أصلاً، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "لا فكر لمن لا اعتبار له، لا اعتبار لمن لا ازدجار له"16.

2- قلّة الخطأ: فيعتبر من أخطاء الآخرين وزلاتهم ما يحجزه عن تقحّم الأخطاء كما يقول عليّ عليه السلام: "من كثر اعتباره قلّ عثاره"17.

3- العلم اليقين: لأنّ المعتبر يرى حقائق الأمور ونتائج المواقف المختلفة التي تصدر عن أنواع البشر فتورثه علماً ومعرفةً، فعن عليّ عليه السلام: "من اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم"18.

4- الوعي والبصيرة: وهما من أغنى ما يعطيه الاعتبار للإنسان، وأيّ فائدةٍ أرقى من أن يمتلك المرء بصيرةً ووعياً يواجه بهما تحدّيات الأيّام؟ فعن عليّ عليه السلام: "دوام الاعتبار يؤدّي إلى الاستبصار، ويثمر الازدجار"19. وعنه عليه السلام: "في كلّ اعتبار استبصار"20.


54


5- استبانة الرأي السليم: فالمعتبر بحوادث الأيّام يقف على الموقف السليم الذي ينبغي له اتباعه فقد ورد عن عليّ عليه السلام: "من اعتبر بعقله استبان"21. وعنه عليه السلام: "من اعتبر الأمور وقف على مصادقها"22. وبنفس المعنى ما ورد عنه عليه السلام: "الاعتبار يقود إلى الرشاد"23.

6- القناعة: لأنّ الاعتبار يُظهر العواقب الوخيمة التي يقدم عليها من لا يعتبر في الحياة، ولذا يقول عليّ عليه السلام: "اعتبر تقتنع"24.

7- الحذر والتنبُّه: فلا ينجرف المعتبر مع الرأي السائد وما يفعله الآخرون ولا يخوض مع الخائضين، بل يبقى يقظاً لما يدور حوله، كما عبّر أمير المؤمنين عليه السلام: "من اعتبر بالغير لم يثق بمسالمة الزمن"25.

8- عدم الطمع: فيرى المعتبر هلاك من لم يعتبر وقاده طمعه


55


إلى الخسران، فعن عليّ عليه السلام: "من اعتبر بغِيَر الدنيا قلت منه الأطماع"26.

9- التقوى: وهي خلاصة الاعتبار، فما أروع قول عليّ عليه السلام: "ذمتي بما أقول رهينة وأنا به زعيم: إنّ من صرّحت له العبر عمّا بين يديه من المثلات حجزه التقوى عن تقحّم الشبهات"27.


56


هوامش

1- ال عمران 13.
2- نهج البلاغة، ج4، ص 8.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص 1811.
4- المصدر نفسه، ج3، ص 1811.
5- م.ن، ج3، ص 1808.
6- م.ن، ج3، ص 1808.
7- م.ن، ج3، ص 1808.
8- النازعات 26.
9- ميزان الحكمة، ج3، ص 1810.
10- نهج البلاغة، ج1، ص 203.
11- ميزان الحكمة، ج3، ص 1810.
12- المصدر نفسه، ج3، ص 1808.
13- ميزان الحكمة، ج3، ص 1811.
14- المصدر نفسه، ج3، ص 1811.
15- م.ن، ج3، ص 1811.
16- م.ن، ج3، ص 1812.
17- م.ن، ج3، ص 1811.
18- نهج البلاغة، ج4، ص 47.
19- ميزان الحكمة، ج3، ص 1811.
20- المصدر نفسه، ج3، ص 1811.
21- م.ن، ج3، ص 1811.
22- م.ن، ج3، ص 1812.
23- م.ن، ج3، ص 1809.
24- م.ن، ج3، ص 1811.
25- م.ن، ج3، ص 1812.
26- ميزان الحكمة، ج3، ص 1812.
27- عيون الحكم والمواعظ، ص 154.