المحاضرة الرابعة: الإتعاظ بالعبر

تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ1.

الهدف:
تقوية حسّ الاعتبار في النفس وأن يكون الإنسان معلّم نفسه في الحياة.


41


المقدَّمة
عن الإمام زين العابدين عليه السلام: "مسكين ابن آدم! له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهنّ، ولو اعتبر لهانت عليه المصائب وأمر الدنيا: فأمّا المصيبة الأولى: فاليوم الذي ينقص من عمره، قال: وإن ناله نقصان في ماله اغتمّ به، والدرهم يخلف عنه والعمر لا يردّه. والثانية: أنّه يستوفي رزقه، فإن كان حلالاً حوسب عليه، وإن كان حراماً عوقب عليه. قال: والثالثة أعظم من ذلك، قيل: وما هي؟ قال: ما من يوم يمسي إلّا وقد دنا من الآخرة رحله، لا يدري على الجنّة أم على النار"2.

محاور الموضوع
الحثّ على الاعتبار

يحث ّالإسلام بقوّة على مبدأ الاعتبار معتبراً ذلك من دلائل الوعي والبصيرة عند المرء، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "فاتعظوا عباد الله بالعبر النوافع، واعتبروا بالآي السواطع،


42


وازدجروا بالنذر البوالغ"3.

فالعبر واضحة وضوح الشمس، فالماضي والحاضر وأحوال الماضين والحاليّين تصرخ في عقول الناس بعدم الغفلة عن الاعتبار، فعن عليّ عليه السلام: "لقد جاهرتكم العبر، وزجرتم بما فيه مزدجر، وما يبلّغ عن الله بعد رسل السماء إلّا البشر"4.

وعنه عليه السلام: "أوصيكم بتقوى الله... وداووا بها الأسقام، وبادروا بها الحمام، واعتبروا بمن أضاعها، ولا يعتبرنّ بكم من أطاعها"5.
فالمؤمن ينظر إلى الدنيا بعين الاعتبار، ويعتبر بتصاريف الأيّام ويرى في الاعتبار الناصح الصادق فيكون غيره عبرةً له قبل أن يخسر فيكون عبرةً لغيره، وقد وصفه عليّ عليه السلام بذلك إذ قال: "الاعتبار منذر ناصح، من تفكّر اعتبر، ومن اعتبر اعتزل، ومن اعتزل سلم"6.


43


ما ينبغي الاعتبار به
1- العذاب الإلهيّ: قال تعالى:
﴿فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى7، والعذاب الإلهيّ يجري وفق سنن أودعها الله في الوجود، والمؤمن المعتبر إذا وعاها وفهمها درأ العذاب عن نفسه.

2- قصص الماضين: قال تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ8.

ويعظ أمير المؤمنين عليه السلام بقصص الماضين فيقول: "وإنّ لكم في القرون السالفة لعبرة، أين العمالقة وأبناء العمالقة؟! أين الفراعنة وأبناء الفراعنة؟! أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيّين، وأطفؤوا سنن المرسلين، وأحيوا سنن الجبّارين"9.

وعنه عليه السلام: "واعتبروا بما قد رأيتم من مصارع القرون قبلكم، قد تزايلت أوصالهم، وزالت أبصارهم وأسماعهم،


44


وذهب شرفهم وعزّهم، وانقطع سرورهم ونعيمهم"10.
وقال عليه السلام: "فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم، من بأس الله وصولاته ووقائعه ومثلاته"11.

3- آيات الخلق: قال تعالى:
﴿يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ12.
فهذا التعاقب لليل الذي جعله الله للناس سكناً وللنهار الذي جعله الله معاشاً عبرةٌ لأهل البصائر، وقد قال عليّ عليه السلام: "في تعاقب الأيّام معتبر للأنام"13.

4- القبور: هذه الشواهد الصامتة الجامدة التي تعظ بما لا يعظه الأحياء فعن عليّ عليه السلام لمّا تلا:
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ: "أفبمصارع آبائهم يفخرون؟... ولأنّ يكونوا عبراً أحقّ من أن يكونوا مفتخراً... ولئن عميت آثارهم وانقطعت أخبارهم، لقد رجعت فيهم أبصار العبر، وسمعت عنهم آذان العقول، وتكلّموا من غير جهات النطق"14.


45


وعنه عليه السلام: "فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم"15.

5- الموتى: عن عليّ عليه السلام قبل شهادته على سبيل الوصيّة: "أنا بالأمس صاحبكم، واليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم. فما عبرة أبلغ من عبرة الموت، بل كفى بالموت عبرةً تغنيك عن العبر والمواعظ"16.

6- تشابه أحوال الدنيا: فالدنيا حالها مع الماضين كحالها مع المقيمين الحاضرين كحالها مع من سيأتي إليها مستقبلاً، تجري سُننها على الجميع مجرًى واحداً فعن عليّ عليه السلام: "كفى مخبراً عمّا بقي من الدنيا ما مضى منها"17.

وعنه عليه السلام: "إنّ الأمور إذا اشتبهت اعتبر آخرها بأوّلها"18.
عنه عليه السلام- من كتابه إلى الحارث الهمدانيّ -: "وصدّق بما سلف من الحقّ، واعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها، فإنّ بعضها يشبه بعضاً، وآخرها لاحق بأوّلها، وكلّها حائل مفارق"19.


46


7- أحداث الزمان: عن عليّ عليه السلام: "ثمّ إنّ الدنيا دار فناء وعناء، وغِيَر وعبر... ومن غِيَرِها أنّك ترى المرحوم مغبوطاً، والمغبوط مرحوماً، ليس ذلك إلّا نعيماً زال وبؤساً نزل، ومن عبرها أنّ المرء يشرف على أمله فيقتطعه حضور أجله"20.

وما أبلغ تعبيره عن غفلة المرء بأمله عن أجله فإذا بحضور الأجل يبدد آمال الحالمين ويقطعها، إلّا أنّ العبرة تبقى نافعة لأولي العقول والعقول كما قال عليه السلام: "في تصاريف القضاء عبرة لأولي الألباب والنهى"21.

8- اعتبار المرء بعمره: عن عليّ عليه السلام - من كتابه إلى معاوية: "لو اعتبرت بما أضعت من ماضي عمرك لحفظت ما بقي"22.
فالمرء لو نظر في سيرة نفسه وتحدّيات أيامه ووقف منها موقف المعتبر المتأمل لكان ذلك نافعاً له في سلامة ما بقي من عمره.

9- البلايا والنذر: فقد يغفل المرء عن بعض التفاصيل في


47


حياته فلا يعتبر بها، أمّا وأن يغفل عن الأمراض والفقر والزلازل والعقوبات الإلهيّة وتفشي الفساد وتسلّط الطغاة فهذا من أعظم العمى، وهذا عليّ عليه السلام يقول: "واعتبروا بالغِيَر، وانتفعوا بالنُّذُر"23.

10- الإعتبار بإبليس: وفي قصّة إبليس عبرة من أضاع عبادته لله بلحظة عصبيّة، وأعمته الأنا عن الله، وهي عبرةٌ قد تصيب - وهي تصيب - الكثيرين، ويشير إليها عليّ عليه السلام بقوله: "فاعتبروا بما كان من فعل الله بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد"24.

وفي الختام لا يسعنا إلّا أن نذكر مقالة الإمام عليّ عليه السلام التي يبيّن فيها أنّ المشكلة ليست في قلّة العبر، فالعبر كثيرة، وإنّما كلّ المشكلة في قلّة المعتبرين، فيقول عليه السلام: "ما أكثر العِبَر، وأقلّ الاعتبار"25.


48


هوامش

1- الحشر: 2
2- الاختصاص، الشيخ المفيد، ص 342.
3- نهج البلاغة، ج1، ص 148.
4- المصدر نفسه، ج1، ص 58.
5- م.ن، ج2، ص 158.
6- ميزان الحكمة، ج3، ص 188.
7- النازعات 25 ـ 26.
8- يوسف 111.
9- ميزان الحكمة، ج3، ص 1809.
10- المصدر نفسه، ج3، ص 1810.
11- م.ن، ج3، ص 1810.
12- النور 44.
13- ميزان الحكمة، ج3، ص 1810.
14- ميزان الحكمة، ج3، ص 1809.
15- المصدر نفسه، ج3، ص 1810.
16- نهج البلاغة، ج2، ص 24.
17- ميزان الحكمة، ج3، ص 1810.
8- المصدر نفسه، ج3، ص 1809.
19- م.ن، ج3، ص 1810.
20- ميزان الحكمة، ج3، ص 1809.
21- المصدر نفسه، ج3، ص 1810.
22- م.ن، ج3، ص 1810.
23- م.ن، ج3، ص 1810.
24- نهج البلاغة، ج2، ص129.
25- المصدر نفسه، ج4، ص 72.