المحاضرة الخامسة: التزود للآخرة

تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ1.

الهدف:

التنبيه على أنّ الهدف من الدار الدنيا تزوّد الإنسان لآخرته قبل حلول الموت.


275


المقدّمة
عن الإمام عليّ عليه السلام - لمّا أشرف على القبور وهو يرجع من صفّين -: "يا أهل الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة، يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق. أمّا الدور فقد سُكنت، وأمّا الأزواج فقد نُكحت، وأمّا الأموال فقد قُسمت. هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم ؟ ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أنّ خير الزاد التقوى"2.

محاور الموضوع
الحثّ على التزوّد للآخرة

لعلّ أهمّ ما في حياة الإنسان أن يعي دوره جيّداً في هذه الحياة الدنيا وأنّها الدار التي ينبغي أن يكسب بها نفسه للآخرة، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "تزوّدوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً"3.


276


فالدنيا إن كانت كذلك كانت نعم الدنيا، وإن لم تكن كذلك كانت دار فقر ولو ملكت أطرافها وكلّ مالها، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "إنّ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها"4.

فهي الفرصة القصيرة للتزوّد للأبد، فعن الإمام عليّ عليه السلام: "تزوّدوا في أيّام الفناء لأيّام البقاء، قد دُللتم على الزاد، وأُمرتم بالظعن، وحُثثتم على المسير"5.
وعنه عليه السلام: "ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعماراً، وأبقى آثاراً؟.. تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّد، وآثروها أيّ إيثار، ثمّ ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ ولا ظهر قاطع"6.
وعنه عليه السلام: "إنّما الدنيا منتهى بصر الأعمى، لا يبصر ممّا وراءها شيئاً، والبصير ينفذها بصره ويعلم أنّ الدار وراءها، فالبصير منها شاخص، والأعمى إليها شاخص، والبصير منها متزوّد، والأعمى لها متزوّد"7.


277


وعنه عليه السلام: "إنّ الدنيا لم تُخلق لكم دار مقام، بل خُلقت لكم مجازاً لتزوّدوا منها الأعمال إلى دار القرار"8.

خير الزاد

ولطالما كان أمير المؤمنين يحثّ أصحابه على التزوّد من هذه الدار الدنيا وأن يستقلّ المرء زاده، فما أروع قوله عليه السلام إلى أربعة أمور أساسيّة: "آه! من قلّة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد"9.

نعم لأنّ قلّة الزاد وكثرته ترتبطان بطول الطريق وقصره وبعد السفر أو قربه وعظيم ما ترد عليه أو ضعفه، فإذا كان الورود على الحساب فجديرٌ بالمرء أن يستصغر عمله ويستقلّ زاده.

التقوى:
عن عليّ عليه السلام: "لا خير في شيء من أزوادها إلّا التقوى"10.
عنه عليه السلام - إذا صلّى العشاء الآخرة ينادي الناس ثلاث مرّات حتّى يسمع أهل المسجد: "أيّها الناس تجهّزوا رحمكم


278


الله، فقد نودي فيكم بالرحيل، فما التعرّج على الدنيا بعد نداء فيها بالرحيل؟! تجهّزوا رحمكم الله، وانتقلوا بأفضل ما بحضرتكم من الزاد وهو التقوى"11.

صالح الأعمال:
عن عليّ عليه السلام: "إنّك لن يغني عنك بعد الموت إلّا صالح عمل قدّمته، فتزوّد من صالح العمل"12.

وعنه عليه السلام - وكان كثيراً ما ينادي به أصحابه -: "تجهّزوا رحمكم الله فقد نودي فيكم بالرحيل، وأقلّوا العرجة على الدنيا، وانقلبوا بصالح ما بحضرتكم من الزاد، فإنّ أمامكم عقبة كؤوداً، ومنازل مخوفة مهولة، لا بدّ من الورود عليها، والوقوف عندها... فقطّعوا علائق الدنيا واستظهروا بزاد التقوى"13.

وعنه عليه السلام: "فليعمل العامل منكم في أيّام مهله قبل إرهاق أجله... وليتزوّد من دار ظعنه لدار إقامته"14.

ويشير أمير المؤمنين عليه السلام إلى ثلاثة أمور أساسيّة تشكّل خير الزاد، فلا ينبغي الغفلة عنها في دار الدنيا، الاجتهاد في


279


طاعة الله، والاستعداد للقاء الله والتزوّد لمجاورة الله فيقول عليه السلام: "عليكم بالجدّ والاجتهاد، والتأهّب والاستعداد، والتزوّد في منزل الزاد"15.

علّة كراهة الموت

ولكراهة الموت ارتباط وثيق بعدم التزوّد من الدنيا، بل لعلّ ذلك يصلح أن يكون مؤشّراً يقيس به المرء تزوّده، فكلما كره الموت كان ذلك دليلاً على قلّة الزاد، وكلّما أحبّ الموت كان ذلك مؤشّراً على وفرة الزاد، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- لرجل سأله عن علّة كراهة الموت: "ألك مال؟ قال: نعم، قال: فقدّمته ؟ قال: لا، قال: فمن ثَمَّ لا تحبّ الموت"16.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضا يشير إلى نفس المعنى لكن بقرينة أنّ المرء يحبّ أن يبقى مع ما يحبّ فيقول لأحدهم: "هل لك مال؟ فقدِّم مالك بين يديك، فإنّ المرء مع ماله، إن قدّمه أحبَّ أن يلحقه، وإن خلّفه أحبّ أن يتخلّف معه"17.


280


وعن الإمام الحسن عليه السلام في علّة كراهة الموت: "لأنّكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، وأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب"18.

فمن تزوّد وأحسن التزوّد أحبّ الإنتقال وانتظره وتمنّاه، ومن لم يتزوّد كره ذلك وفرّ منه، لكنّه فرار قصير وسرعان ما سيدركه الأجل.

وعن الإمام الجواد عليه السلام - لمّا سئل عن علّة كراهة الموت -: "لأنهم جهلوه فكرهوه، ولو عرفوه وكانوا من أولياء الله عزَّ وجلَّ لأحبّوه، ولعلموا أنّ الآخرة خير لهم من الدنيا، ثمّ قال عليه السلام: يا أبا عبد الله ما بال الصبيّ والمجنون يمتنع من الدواء المنقّي لبدنه والنافي للألم عنه ؟ قال: لجهلهم بنفع الدواء، قال: والذي بعث محمّداَ بالحقّ نبيّاً إنّ من استعدّ للموت حقّ الاستعداد فهو أنفع له من هذا الدواء لهذا المتعالج، أما إنّهم لو عرفوا ما يؤدّي إليه الموت من النعيم لاستدعوه وأحبّوه أشدّ ما يستدعي العاقل الحازم الدواء لدفع الآفات واجتلاب السلامات"19.


281


هوامش

1- البقرة 197.
2- نهج البلاغة, ج4, ص 2968.
3- ميزان الحكمة، ج3، ص 2968.
4- المصدر نفسه، ج3، ص 2968.
5- ميزان الحكمة، ج3، ص 2968.
6- المصدر نفسه، ج3، ص 2968.
7- م.ن، ج3، ص 2968.
8- م.ن، ج3، ص 2968.
9- نهج البلاغة، ج4، ص 17.
10- نهج البلاغة، ج1، ص 21.
11- ميزان الحكمة، ج3، ص 2968.
12- المصدر نفسه، ج3، ص 2968.
13- م.ن، ج3، ص 2968.
14- م.ن، ج3، ص 2969.
15- م.ن، ج3، ص 2968.
16- ميزان الحكمة، ج3، ص 2973.
17- المصدر نفسه، ج3، ص 2972.
18- م.ن، ج3، ص 2972.
19- ميزان الحكمة، ج3، ص 2960.