المحاضرة الثانية: مقام المجاهدين (1)

تصدير الموضوع:
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "خير الناس رجل حَبَسَ نفسَه في سبيل الله يجاهد أعداءه يلتمس الموت أو القتل في مصافّه"1.

الهدف:

بيان المقام الروحيّ والمعنويّ الذي خصّ به الإسلام أهل الجهاد في سبيله وضرورة إعانتهم وذمّ إيذائهم.


197


المقدّمة
الحديث عن أهل الجهاد وصفاتهم ومقامهم هو كالحديث عن أولياء الله، بل عن خاصّة أوليائه، كما وصفهم أمير المؤمنين عليه السلام، هؤلاء الذين عزفوا عن كلّ لذائذ الدنيا ومشتهياتها وخلّفوا وراء ظهورهم ما يلهث خلفه الكثيرون ويحيا من أجله، ووجدوا أنسهم وسعادتهم في ساحات المواجهة لأنّها الساحات الأقرب إلى الله وإلى رضوانه، فرشفوا من كأس كربلاء ما جعلهم لا يرون لأنفسهم وجوداً إلّا بمقدار تضحياتها وبذلها وإزهاقها في الحبّ الإلهيّ والعشق الأبديّ حيث لا يجرؤ العقل على الولوج إلى هذا العالم ليصف ما يشعرون به، فلا يمكن لأحد أن يصف شعورهم إلّا من يشاركهم هذه اللذّة وهذه الكرامة الإلهيّة.

محاور الموضوع
فضل أعمال المجاهدين

وعمل المجاهد لا يساويه أي عمل آخر لأنّ المجاهد وحده


198


الذي يوقّر للأمة ظروف العبادة وعمل الخير ولذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما أعمال العباد كلّهم عند المجاهدين في سبيل الله إلّا كمثل خطاف أخذ بمنقاره من ماء البحر"2.

فمثل عمل المجاهد كمثل نور الشمس التي يغفل الكثيرون عن أنّهم لا يستطيعون القيام بأيّ عمل من دونه، وعمل المجاهد هو الذي يوفّر لكافّة شرائح الأمّة الظروف الكريمة التي يحيون بها ويتنعمّون بظلالها.

وحتّى إنّ الله يفتخر به ويباهي به الملائكة كما عبّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "إنّ الله عزَّ وجلَّ يباهي بالمتقلّد سيفه في سبيل الله ملائكته، وهم يصلّون عليه ما دام متقلّده"3.

وصلاة الملائكة هي صلاة الرحمة والاستغفار ولذلك كانت عبادته وصلاته لها أجرها المضاعف، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة الرجل متقلداً بسيفه تفضل على صلاته غير متقلّد بسبعمائة ضعف"4.


199


وكلّ الأعمال تنقطع عن صاحبها إلّا الجهاد، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "كلّ عمل منقطع عن صاحبه إذا مات إلّا المرابط في سبيل الله، فإنّه ينمى له عمله ويجرى عليه رزقه إلى يوم القيامة"5.

في حديثٍ لأمير المؤمنين عليه السلام يصف فيه المجاهدين الذين شاركوا في حرب الجمل ويبين المقام الشامخ الذي يحظون به فيقول عليه السلام: "أنتم الأنصار على الحقّ، والإخوان على الدين والجُنن يوم البأس، والبطانة دون الناس، بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل، فأعينوني بمناصحةٍ خليّةٍ من الغشّ، سليمةٍ من الريب، فوالله إنّي لأولى الناس بالناس"6.
وفي هذا النصّ يرفع أمير المؤمنين عليه السلاممن مقام المجاهدين من خلال وصفهم بسبع خصال هي:
1- أنتم الأنصار على الحقّ: فهم يحملون الحقّ قضيةً في حياتهم ينصرونه ويعزِّزونه، فحياتهم رسالة بحدّ ذاتها في الدعوة إلى الحقّ والذود عنه، وبهذا المعنى ورد قوله تعالى


200


على لسان نبيّ الله عيسى ﴿مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ7.

2- والإخوان على الدين:
فما يربطهم بأمير المؤمنين أخوّة الإيمان والعقيدة، لا علاقة المصالح والمنافع المشتركة التي تربط أعداء الأمّة بعضهم ببعض، ووحدها هذه العلاقة التي تستمرّ يوم القيامة فيما تتبدّد سائر أنواع العلاقات التي كان الناس يتمسّكون بها في الحياة الدنيا.

3- الجُنن يوم البأس:
فالمجاهدون هم الذين يقون الأمّة بأس الأعداء ويدرأون عنها شرّهم، فهم أشبه بالصخرة التي تتحطّم عليها أحلام المجرمين الذين يريدون النيل من الأمّة، فكأنّهم يفدون الأمّة بما أُريد لها من شرٍّ فيحملونه بأنفسهم ويدرأونه عنها.

4- البطانة دون الناس:
أي خواصّه الذين يأنس بهم ويستشيرهم ويُسرّ إليهم، وبابه إلى الأمور لما أكرمهم الله تعالى بخاصيّة الجهاد فرفعهم دون غيرهم من الناس، فالجهاد هو الذي


201


صفّى نفوسهم وطهّر سرائرهم وأبدع أفكارهم فجعلهم أرقى من غيرهم شأناً ومنزلةً، عن أمير المؤمنين عليه السلام.

5- بكم أضرب المدبر:
أي كأنّهم ساعده ويمينه التي يقاتل بها أعداء الدين والمنحرفين عن جادّة الإيمان فيجتثّ بهم رؤوس الفساد ويقتلعها بسواعدهم، وأيّ كرامةٍ بعد أن يكون المؤمن يد الإمام المعصوم التي يحارب بها أعداء الشريعة؟

6- أرجو طاعة المقبل:
لأنّهم بجهادهم أضحوا قدوةً للآخرين يتأسّون بهم ويقتدون بأعمالهم، فباتوا ممّن يُرجى طاعة الآخرين وانضمامهم إلى طائفة الحقّ، فكما أن العلم والتقوى والعمل الصالح أبواب إلى الله فإنّ المجاهد بجهاده وتضحياته يصبح دليلاً للناس يقبلون به إلى رحاب الإسلام.

7- فأعينوني بمناصحةٍ خليّةٍ من الغشّ، سليمةٍ من الريب:
وأخيراً يعطيهم أمير المؤمنين عليه السلام لياقة ومكانة وأهليّة من يقدّم له النصيحة والعون، فهم أهل للنصيحة الخالية من


202


الغشّ والريب، وهُم ليسوا كسواهم ممّن يقدّمون النصيحة ويستبطنون المنفعة لهم، أو يساهمون برأي ويضمرون السوء من ورائه.
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ8.


203


هوامش

1- ميزان الحكمة، ج1، ص 445.
2- ميزان الحكمة، ج1، ص 445.
3- المصدر نفسه، ج1، ص 448.
4- م.ن، ج1، ص 448.
5- ميزان الحكمة، ج1، ص 449.
6- نهج البلاغة، ج1، ص 234.
7- آل عمران ، 52.
8- المائدة 54.