المحاضرة الثالثة: حسن التدبير

تصدير الموضوع
عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "قوام العيش حسن التقدير, وملاكه حُسْنُ التدبير"1.

الهدف:

إيضاح بعض المفاهيم التي تساعد على حسن التدبير وحسن التقدير في الحياة.


157


المقدّمة
حسن التدبير في الحياة ليس مسألة مزاجيّة أو خاضعة لأفهام الناس وأذواقهم المختلفة، بل هي علم ودراية له قواعده وأحكامه التي تساعد المرء على اتخاذ القرارات الصائبة وتحديد الأولويّات بشكلٍ علميّ والعمل على تطبيقها بشكل دقيق، وهذا ما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مخاطباً بقوله: "يا ابن مسعود، إذا عملتَ عمَلاً فاعملْ بعلمٍ وعقلٍ، وإيّاكَ وأنْ تعملَ عملاً بغيرِ تدبّرٍ وعلمٍ، فإنّه جلَّ جلالهُ يقولُ: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثَاً"2.

فالتدبير يحتاج إلى أمرين لا يُستغنى عنهما، وهما العلم والتعقّل، وبهما يدرك المرء حقيقة الأشياء ويضع الأمور في مواضعها، وهذا معنى قوله تعالى في حديثه عن الأمثال في القرآن:
﴿وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ3 يعني هو ضرب للناس أمثالاً وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلّا العلماء.


158


محاور الموضوع
أهميّة التدبير

علامة التدين: روي أنّ رجلاً قال للإمام الصادق عليه السلام: بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب! فقال عليه السلام: "لا، بَل هُو الكسبُ كلُّهُ، ومِن الدِّينِ التَّدبيرُ في المعيشةِ"4.

وإذا كان التدبير من الدين فإنّ عدمه مؤشر على عدم سلامة التديّن والالتزام.
كلّ الكمال: عن الإمام الصادق عليه السلام: "الكَمالُ كُلُّ الكَمالِ: التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبرُ عَلَى النّائبَةِ، وَتَقديرُ المعيشةِ".5
فكما أنّ الحياة بلا علم تتضاعف مشاكلها والنائبة ما لم يتحلّ صاحبها بالصبر يتضاعف ثقلها وهمّها فكذلك فإنّ عدم التقدير في المعيشة يُقعد الإنسان ملوماً يقلّب كفّيه أسفاً على ما فرّط وضيّع.


159


صلاح المؤمن: وقد أكّد الإمام الصادق عليه السلام على هذه الحقيقة، بقوله: "لا يَصلُحُ المؤمنُ إلّا على ثَلاثِ خِصالٍ: التَّفقُّهِ في الدِّينِ، وحُسنِ التَّقديرِ في المعيشةِ، والصَّبرِ على النّائبَةِ"6.

طرق حسن التدبير

1- التنظيم والضبط: ونعني بذلك أن يعتمد المرء التخطيط الواضح للدخل والمصروف بما يتناسب إنفاقه مع دخله، والواقع أنّ ذلك حياة أكثر شعوب الأرض الذين يعملون في وظائف محدّدة ويتقاضون رواتب ثابتة وعليهم أن يحسنوا تدبير أمورهم بما يتناسب مع مدخولهم.

ولقد علّمنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ: "حسن التقدير مع الكفاف خير من السعي في الإسراف"7.
فحسن التقدير يجعل من القليل كثيراً كما أنّ سوء التقدير يجعل من الكثير هباءً ضائعاً.


160


ومن التنظيم أن يحسن المرء تنظيم وقته في الكسب والعمل والبيت والأسرة وعلاقته بالله تعالى فلا يغرق في جانب دون آخر، كما أنّ التخطيط وحسن الإدارة يوجبان عليه النظر في عواقب الأمور والتمتّع برؤية مستقبليّة غير ضيّقة فإنّ ذلك من علامات أهل الإيمان كما ورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "المؤمِنُونَ هُم الَّذينَ عَرَفُوا ما أمامَهُمْ8".

2- مراقبة الأمور المستهلكَة:
وهذا الأمر يحتاج إلى ثقافة وتعليم لأنّ اليوم تجتاح الأسواق آلاف السلع غير الضروريّة بل وغير المفيدة، وفي بعض الأحيان قد تكون مضرّة وتقدّم للمستهلك بطرق دعائيّة على أنّها سلع مفيدة، وهذا الأمر يحتاج إلى مراقبة السلع أوّلاً ونوعيّة هذه السلع والكميّات التي تستهلك من هذه السلع، فعلى سبيل المثال قد تجد اليوم في مجتمعاتنا من يشتري هواتف لكافّة أفراد العائلة وكلّها مرتبطة بشبكة الأنترنت وتُدفع المبالغ الطائلة على ذلك، والكلّ يعتبر أنّ هذا مهمّ وضروريّ ولا يمكن العيش


161


دون مواكبة هذا التطوّر، فيقع في عسر وحرج اقتصاديّين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما عال امرؤ في اقتصاد"9.

3- أولويّات الإنفاق:
لا يمكن للمرء لا سيّما أصحاب الدخل المحدود أن يحصلوا على كافّة مشتهياتهم دفعةً واحدة، بل لا بدّ من وضع جدول يرتّب أولويّات الأسرة وحاجاتهم وفق الأهمّ فالأهمّ، مع الأسف نجد اليوم من يراكم كافّة الحاجات فوق رأسه ويقسّطها على راتبه بما يستهلك أكثر من نصفه ثم يقعد حيرانَ يحاول أن يتلمّس المساعدة والعون من هنا وهناك.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "حسن التدبير ينمّي قليل المال وسوء التدبير يفني كثيره"10.

ومن الأخلاق المهلكة في هذا الجانب أن ينظر المرء في الأمور الماليّة إلى من فوقه ويحاول أن يقلّدهم ويتشبّه بهم فيما علّمنا أئمّة أهل البيت أن ينظر المرء في الأمور الماليّة إلى من هم تحته، وفي الأمور العلميّة والمعنوية إلى من هم فوقه.

4- الاعتدال:
قال تعالى:
﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا


162


وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا11.

فالاعتدال سياسة الإنفاق، وبكلمةٍ أصحّ فإنّ الإنفاق ليس مرتبطاً بوجود المال وعدمه، بل يرتبط بالسلوك الأخلاقيّ والمستقيم للإنسان، فإنّ الشرع حرّم على المرء الإسراف والتبذير حتّى ولو كان موسراً، لأنّ ذلك يتحوّل عنده إلى خُلُق فيفقده السيطرة في غير موارد الإنفاق.

وفي الصحيفة السجادية: "اللهمَّ صلِّ على محمّد وآله واحجبني عن السرف والازدياد وقوّمني بالبذل والاقتصاد، وعلّمني حسن التقدير، واقبضني بلطفك عن التبذير"12.

5- الشفافيّة داخل الأسرة: والمراد هنا أن تكون موارد الصرف واضحة للجميع وسياسات الصرف مسوَّغة عندهم كذلك فلا يجد أحد أفراد العائلة أنّ الأهل يغدقون على أنفسهم فيما يبخلون عليه أو تُدفع المبالغ لأحدهم دون الآخر، وينفق أحياناً وفق سياسات وأحياناً تخرق القواعد، كما من المفيد في هذا الجانب اعتماد سياسة المشورة


163


حتّى يشعر الجميع بمشاركتهم في القرار وإنجاحه، كما من المفيد داخل الثقافة الأسريّة أن تبقى القيم الأسريّة والعامّة هي الحاكمة على الأداء فلا تتحوّل القيم إلى جمعٍ للمال كيفما كان حتّى ولو على حساب القيم الرساليّة، ففي رواية عن الإمام الرضا عليه السلام: "لا يجتمع المال إلّا بخصال خمس: ببخل شديد، وأمل طويل، وحرص غالب، وقطيعة الرحم، وإيثار الدنيا على الآخرة" 13.

آثار سوء التّدبير

ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ حسن التدبير وسوء التدبير لا يقتصر نفع الأوّل وضرر الثاني على حياة الإنسان بشكل فرديّ بل يتعدّى ذلك إلى المجتمع والدولة والأمّة.
ومن أهمّ الآثار السيّئة التي يتركها سوء التدبير في حياة الإنسان: الندم على أفعاله وما ضيّعه وابتلائه بالفقر والعوز وضعف الإيمان والارتباط بالله تعالى والشعور بالنقص والتبعية للآخرين واستجداء المال بالطرق الملتوية، إلى غير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى.


164


هوامش

1- ميزان الحكمة، ج4، ص 2217.
2- المصدر نفسه، ج4، ص 2130.
3- العنكبوت 43.
4- الأمالي، الشيخ الطوسي، ص 670.
5- ميزان الحكمة، ج3، ص 2747.
6- المصدر نفسه، ج4، ص 2879.
7- عيون الحكم والمواعظ، ص228.
8- بحار الأنوار، ج75، ص25.
9- ميزان الحكمة، ج3، ص 2557.
10- ميزان الحكمة، ج2، ص 1385.
11- الفرقان 67.
12- الصحيفة السجادية، ص 151.
13- الخصال، الشيخ الصدوق، ص282.