المحاضرة الرابعة: سبيل المواجهة مع أحداث الفتنة

تصدير الموضوع:
قال عليه السلام: "وسأمسك الأمر ما استمسك فإذا لم أجد بداً فآخر الدواء الكيّ"1.

الهدف:

الحرص على الدخول في مواجهة الفتنة وفق الضوابط الشرعية دون ردات أو غوغائية.


121


المقدّمة
تختلف ظروف الفتنة عن غيرها من الظروف التي تمرّ على الأمّة، فهي تحتاج إلى الحد الأعلى من التنبّه واليقظة وعدم الغفلة عن صغائر مجريات الأمور فضلاً عن كبائرها، سيّما وأنّ أحداثها لا تجري في جبهةٍ خارجيّة ومواجهةٍ على الحدود، وإنّما في مواجهة الوعي وتحدّي البصيرة ومعركة الرأي العامّ قبل أن تكون أيّ شيء آخر ولذلك كان لها سياساتها الخاصّة وكان لا بدّ فيها من أعلى درجات الانتباه واليقظة ولذلك قال عليه السلام: "وَالله لَا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَيَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا وَلَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ وَبِالسَّامِعِ الْمُطِيعِ الْعَاصِيَ الْمُرِيبَ أَبَداً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي"2.

محاور الموضوع
سياسات المواجهة

في مواجهة الفتن الداخليّة سنّ أمير المؤمنين عليه السلام قاعدةً


122


شرعيّةً في إدارة هذا الموضوع، وهي تتمثّل بعدّة سياسات تأتي تباعاً بعد بعضها البعض، ولا يجوز الانتقال إلى المرحلة التالية إلّا بعد اليأس من إمكانيّة العلاج في المرحلة الأولى، وقد عبّر عنها على الشكل التالي:
أوّلاً: سياسة الإحتواء: قال عليه السلام: "وسأمسك الأمر ما استمسك"3.
ومن الواضح أنّ عليّاً عليه السلام كان يحرص على احتواء الجميع وعدم الانجرار إلى ما يمزّق الأمّة ويضعفها وأنّه سيبقى ممسكاً بعدم المواجهة ما دام ذلك ممكناً أي ما دام ذلك لا يشكّل خطراً على الرسالة، وأمّا وإن خرج الأمر عن هذا الحدّ فإنّ العلاج الاضطراريّ سيكون في كيّ الخطأ.

وهذه السياسة هي التي كان عليه السلام يأمر أتباعه بها بعيداً عن الاحتقان وإثارة الضغائن والنعرات كما نشاهد اليوم من صرف المليارات وتجنيد الملايين وتسخير الآلاف من المؤسّسات من أجل نشر الكراهية والضغينة بين المسلمين فيما كان


123


أمير المؤمنين عليه السلام يوصي بالوحدة والتماسك وعدم الردّ بالمثل وامتصاص الفتنة وعدم التصرّف بردات الفعل، فقال عليه السلام: "إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ وَقُلْتُمْ مَكَانَ سَبِّكُمْ إِيَّاهُمْ اللهمَّ احْقِنْ دِمَاءَنَا وَدِمَاءَهُمْ وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَبَيْنِهِمْ وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ"4.

ويمكن قراءة هذه السياسة مع الفئات الثلاث التي واجهها أمير المؤمنين عليه السلام:
مع ناكثي البيعة: قال عليه السلام لطلحة والزبير: "فَارْجِعَا أَيُّهَا الشَّيْخَانِ عَنْ رَأْيِكُمَا فَإِنَّ الْآنَ أَعْظَمَ أَمْرِكُمَا الْعَارُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَجَمَّعَ الْعَارُ وَ النَّارُ"5.
وبيّن عليه السلام موقفه منهما بقوله: "وَلَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ وَاسْتَأْنَيْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ فَغَمَطَا النِّعْمَةَ وَرَدَّا الْعَافِيَة"6.


124


مع معاوية: فقد كتب إليه: "فَاتَّقِ الله فِي نَفْسِكَ وَنَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ وَاصْرِفْ إِلَى الْآخِرَةِ وَجْهَكَ فَهِيَ طَرِيقُنَا وَطَرِيقُكَ وَاحْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ الله مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ تَمَسُّ الْأَصْلَ وَتَقْطَعُ الدَّابِرَ"7.

مع الخوارج: فقد حذّرهم عليه السلام وأنذرهم وحاول استيعابهم قبل القتال، بل لطالما حاججهم وأرسل لهم من يحاججهم علّهم يرتدعون عن ضلالتهم، فقال عليه السلام لهم: "فَأَنَا نَذِيرٌ لَكُمْ أَنْ تُصْبِحُوا صَرْعَى بِأَثْنَاءِ هَذَا النَّهَرِ وَبِأَهْضَامِ هَذَا الْغَائِطِ عَلَى غَيْرِ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا سُلْطَانٍ مُبِينٍ مَعَكُمْ".8

ثانياً: سياسة الكيّ:
قال عليه السلام: "فإذا لم أجد بُدّاً فآخر الدواء الكيّ"، وفي تعبيره عليه السلام بالكيّ إشارة لافتة إلى أنّ المعالجة ستكون بمقدار الجرح تماماً كما يكون الكيّ بمقدار الجرح.

ففي هذه المرحلة يحاول أمير المؤمنين عليه السلام التأديب بالسوط بعد فشل التأديب بالكلمة، كما يُقام الحدّ على


125


 المتجاوزين بالقصاص لما فيه من بثّ روح الحياة فيهم وفي المجتمع من جديد، وهو بذلك لا يريد خسارتهم أو طردهم من سلطته وولايته، بل يريد لهم أن يكونوا أفراداً صالحين لهم ما لأفراد الأمّة وعليهم ما عليهم، لأنّ الظاهر من كلامه عليه السلام أنّ سياسة الكيّ إنّما تأتي كآخر الإجراءات فيما يرتبط بسياسة الكيّ، وليست تدبيراً يأتي وفق سياسة القتال والمواجهة.

وعلى كلّ حال فمن الواضح أنّ المواجهة صعبة والتحدّي على مستوى الالتزام صعب والمغريات كبيرة جدّاً إلى الحدّ الذي يتقلّب الكثيرون بين ليلةٍ وضحاها، وهذا ما عبّر عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: "ليغشينّ أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل"9.

وقد ورد عنه عليه السلام إشارة إلى سياسة الاحتواء والكيّ بمقدار الضرورة حيث يقول: "‏أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ


126


الْأَوْصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا وَحَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا"10.

ثالثاً: سياسة المواجهة والقتال:
وهذه المرحلة الأخيرة تأتي بعد اليأس من المرحلتين السابقتين وإصرار أرباب الفتنة على تهديد الرسالة والدين، أي في هذه المرحلة لا يكون الخطر متوجّهاً إلى شخص أو إلى منافع أو تجاوز في السياسات المالية والإدارية أو غيرها من الأمور التي تشكّل خطراً على بعض التشريعات والقواعد التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنّما يكون الخطر موجّهاً نحو هدّ البنيان من أساسه وإزاحة الدين عن ممارسة السلطة السياسيّة كلّها، وهذا ما عبّر عنه بقوله عليه السلام: "قَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَبَطْنَهُ فَلَمْ أَرَ لِي إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ بِمَا جَاءَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم"11.

وفي مكانٍ آخر يقول عليه السلام: "وَقَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالُهُمْ أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وآله وسلم فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ


127


أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ وَمَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الْآخِرَةِ12.

وهذه المواجهة هي التي عبّر عنها بقوله عليه السلام: "فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي"13، ومن الواضح صعوبة تلك المرحلة وحساسيتها حيث مال الكثيرون من الناس إلى أرباب الفتنة وخاف البعض من المواجهة وبقي البعض أحلاس بيوتهم فيما لم يجرؤ على المواجهة وفضح المشروع الجديد للأمّة إلّا أمير المؤمنين عليه السلام.


128


هوامش

1- نهج البلاغة، ج2، ص 81.
2- المصدر نفسه ، ج1، ص 42.
3- نهج البلاغة، ج2، ص 81.
4- المصدر نفسه ، ج2، ص 185.
5- م.ن، ج3، ص 112.
6- م.ن، ج2، ص 21.
7- عيون الحكم والمواعظ، ص 81.
8- نهج البلاغة، ج1، ص 87.
9- المصدر نفسه، ج1، ص 196.
10- شرح نهج البلاغة، ج10، ص 99.
11- نهج البلاغة، ج1، ص 94.
12- المصدر نفسه ، ج1، ص 103.
13- شرح نهج البلاغة، ج7، ص 44.