المحاضرة السادسة: مظاهر تحرير الإنسان في الإسلام

تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ1.

الهدف:

بيان بعض المظاهر التي دعا إليها الدين الإسلامي من أجل تحرير الإنسان.


55


المقدَّمة
لا ريب في أنّ الدين إنما أراد تحرير الإنسان من كلّ ما يثقل كاهله ويطوّق رقبته سواء كانت تكاليف قاسية كما تحدّثنا الآية عن بني إسرائيل أو أعباء حياتية ترتبط بالجهل والضلال ورذائل الأخلاق وتشوّه المفاهيم واتباع الشهوات وغيرها من الأغلال التي يقيّد الإنسان إنسانيته بها فيصبح أسيراً ذليلاً لها وهو يحسب نفسه أنه يعيش أرقى لحظات الحرية، فمن أكبر المغالطات الثقافية التي تعيشها البشرية اليوم أنّ إطلاق الإنسان العنان لشهواته وغرائزه إنما يجسد الحرية بأبهى صورها، والحال أنّ الإسلام يعتبر أن ذلك هو أسرٌ للنفس الإنسانية بأبشع صورها وتكبيلها بقيود الشهوات وأغلال المعاصي، وقد ورد عن أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام: "ليس من ابتاع نفسه فأعتقها كمن باع نفسه فأوبقها"2.

محاور الموضوع
1- العبودية والرقّ:
أرسى الدين الإسلامي مجموعة من


56


القوانين والأحكام التي ساهمت في تحرير الإنسان من الرقّ والعبودية، لا سيّما أحكام الكفّارات وبعض المعاصي والآثام، وفي ذلك إشارة لطيفة إلى أن المعصية من الأمور التي تسيء إلى إنسانية الإنسان وبالتالي لا بدّ من القيام بفعلٍ يجبر هذا النقص في البعد الإنساني للإنسان، وليس من مصداقٍ لذلك أكثر مطابقة من تحرير رقبة وإخراجها من العبودية إلى الحرية.

2- العصبيّة:
قال تعالى:
﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا3، ولأن العصبية في بُعدها العملي لا تحترم جوهر الإنسان لكونها تنحاز إلى فردٍ دون آخر لخصوصية لا علاقة لها بالحقّ والمنطق، فهي شكلٌ من أشكال الولاء للباطل، لذا فقد نادى الإسلام بالتحرر من هذه التبعية البغيضة والولاء لغير الحقّ.


57


عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "من تعصّب أو تُعصّب له فقد خلع ربق الإيمان من عنقه"4.

وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من كان في قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"5.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "من تعصّب عصّبه الله عزَّ وجلَّ بعصابة من نار"6.

وورد عن الإمام عليّ عليه السلام: "إن كنتم لا محالة متعصّبين فتعصّبوا لنصرة الحقّ وإغاثة الملهوف"7.

3- وأد البنات:
وهو من أبشع أنواع سحق البعد الإنساني في الفتاة، بل لعلّ وأد البنات يجعل قيمتهنّ أدنى من قيمة الحيوان والجماد، بينما نرى أنّ الإسلام رفع من مكانة البنت فجعلها بمحاذاة الرجل من الناحية الإنسانية بلا أدنى تمييز، وإن كان هناك من بعض الفروقات من الناحية التشريعية فهي لا تمس الجانب الإنساني للبنت.


58


قال تعالى: ﴿وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ8، وهنا إشارة مهمّة إلى أن الله تعالى يسأل الموؤودة المظلومة يوم القيامة ولا يسأل الظالم الذي وأدها كما هو منطق القرآن ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ9, لأنّ الجريمة التي اقترفت بحقها هي جريمةٌ ضدّ الإنسانية والتي هي حرمانها من حياتها ودورها ومختلف أنواع النعم والفيوضات الإلهية بحقّها، وهي اعتداءٌ على مخلوقٍ أوجده الله والتعدي عليه مساس بالذات المقدّسة.

4- تحرير الإنسان من الإنسان:
ففي الحديث عن عليّ عليه السلام: "لا تكن عبد غيرك وقد خلقك الله حراً"10.

وعنه عليه السلام: "أيها الناس إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أمة، وإنّ الناس كلّهم أحرار"11.

وعن الإمام الباقر عليه السلام - في رسالته إلى بعض خلفاء بني أمية -: "ومن ذلك ما ضيع الجهاد الذي فضّله الله عزَّ وجلَّ


59


على الأعمال... اشترط عليهم فيه حفظ الحدود، وأول ذلك الدعاء إلى طاعة الله من طاعة العباد، وإلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى ولاية الله من ولاية العباد"12.

وفي روايةٍ أخرى عن الإمام الباقر عليه السلام تبين عدم العبودية إلا لله حتى ولو في وجه الحاكم الجائر يقول: "إن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحجّ، فبعث إلى رجل من قريش فأتاه، فقال له يزيد: أتقرّ لي أنك عبد لي، إن شئت بعتك وإن شئت استرقيتك، فقال له الرجل: والله يا يزيد! ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والإسلام، وما أنت بأفضل مني في الدين ولا بخير مني، فكيف أقرّ لك بما سألت؟! فقال له يزيد: إن لم تقرّ لي والله قتلتك، فقال له الرجل: ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي عليه السلام ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأمر به فقتل"13.

5- تحرير الإنسان من المادة والشهوات:
فعن الإمام علي عليه السلام: "من ترك الشهوات كان حرًّا"14.


60


ومن هنا نرى أنّ النصوص الشريفة ربطت بين الشهوات والعبودية لغير الله من جهة وبين الحرية الحقّ.

فعن عليّ عليه السلام: "لا يسترقَّنَّك الطمع وقد جعلك الله حرًّا"15.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ صاحب الدين... رفض الشهوات فصار حرًّا"16.

وعنه عليه السلام: "العبد حرّ ما قنع، الحرُّ عبد ما طمِع"17.

وعنه عليه السلام: "من زهد في الدنيا أعتق نفسه وأرضى ربه"18.

وعن السيد المسيح عليه السلام: "بماذا نفع امرؤ نفسه باعها بجميع ما في الدنيا ثمّ ترك ما باعها به ميراثاً لغيره؟! أهلك نفسه، ولكن طوبى لامرئ خلّص نفسه واختارها على جميع الدنيا"19.


61


وعن الإمام الصادق عليه السلام: "خمس خصال من لم تكن فيه خصلة منها فليس فيه كثير مستمتع، أولها: الوفاء، والثانية: التدبير، والثالثة: الحياء، والرابعة: حسن الخلق، والخامسة - وهي تجمع هذه الخصال - الحرية"20.

عن الإمام عليّ عليه السلام: "إياك وكلّ عمل ينفّر عنك حرًّا، أو يذلّ لك قدراً، أو يجلب عليك شرًّا، أو تحمل به يوم القيامة وزراً"21.

وعنه عليه السلام: "ألا حرٌّ يدع هذه اللماظة لأهلها؟! إنه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة، فلا تبيعوها إلا بها"22.

حرية العقيدة

ولابدّ أن نشير بعد ذلك إلى أنّ الإسلام لا يبيح "حرية العقيدة" بشكل مطلق. فقد ذهب نفر إلى ذلك مستدلاً بالآية الكريمة
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ23، واستنتج من هذه الآية أنّ الإسلام قد منح الناس الحرية فيما يعتقدون


62


ويؤمنون به حتى ولو كان شركاً أو عبادة للصنم والطاغوت. وليس هذا من الإسلام بشيء أبداً. فالمنهج الإسلامي قائم على أساس التوحيد وإلغاء الشرك، فكيف يمكن أن يتضمّن المنهج حرية مخالفة هذا الأساس؟! إنه تناقض واضح صريح. فكما أنّ القوانين الوضعية الراهنة لا يمكن أن تعطي للأفراد حرية مخالفتها فكذلك الإسلام لا يبيح مخالفة الأسس التي يقوم عليها تشريعه.

إنّ الآية المذكورة تؤكّد على أنّ الإسلام قد اتضح وانجلى بفضل القرآن والسنة، ولا حاجة إلى الإكراه والإجبار في قبول الإسلام، ويؤيد ذلك قوله تعالى:
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ.

إضافة إلى ذلك فإنّ جملة:
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ حقيقة تشريعية تستند إلى حقيقة تكوينية إذ إنّ الإكراه والإجبار لا يمكن أن يكون إلا في الأعمال والحركات الظاهرية، ولا يستطيع أن يؤثّر في القلب والفكر والاعتقاد: فالآية تنهى عن استعمال القوة في هداية الأفراد إلى نهج الدين فذلك غير ممكن تشريعيّاً وطبيعيّاً.


63


والآية بعد ذلك تشير إلى ترك التقليد الأعمى في العقائد وتحثّ الناس على اتباع المنطق والعقل فيما يؤمنون ويعتقدون. فالفرد المكره المجبر على اتباع عقيدة معينة يقلّد المؤمنين بتلك العقيدة دون أن ينطلق فيما يفعله من إيمان، وذلك مرفوض في نظر القرآن. من كل هذا يتبين لنا أن عدم الإكراه في الدين لا يعني أبداً حرية الأفراد في انتخاب العقيدة.


64


هوامش

1- الأعراف 157.

2- ميزان الحكمة، ج1، ص 583.

3- الفتح 26.

4- الكافي، ج2، ص 307.

5- المصدر نفسه، ج2، ص 307.

6- م.ن، ج2، ص 307.

7- ميزان الحكمة، ج3، ص 1993.

8- التكوير 8 ـ 9.

9- الصافات 24.

10- نهج البلاغة، ج 3، ص 51.

11- الكافي، ج8، ص 69.

12- كشف الغطاء، ج2، ص 384.

13- ميزان الحكمة، ج1، ص 582.

14- المصدر نفسه، ج1، ص 583.

15- م.ن، ج1، ص 582.

16- م.ن، ج1، ص 583.

17- م.ن، ج1، ص 583.

18- م.ن، ج1، ص 583.

19- م.ن، ج1، ص 583.

20- ميزان الحكمة، ج1، ص 582.

21- المصدر نفسه، ج1، ص 584.

22- م.ن، ج1، ص 584.

23- البقرة 256.