المحاضرة الثامنة: العيد في القرآن الكريم

تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ1.

الهدف:

إبراز بعض الجوانب الدينية لمفهوم العيد من خلال آيات من سورة المائدة.


271


المقدَّمة
رُوي عن الإمام عليّ عليه السلام أنه قال: "اليومَ لنا عيد، وغداً لنا عيد، وكلَّ يوم لا نعصي الله فيه, فهو لنا عيد"2، نحن ننتظرُ سَنة كاملة ليأتي العيد، ولكن أمير المؤمنين عليه السلام يوسّع من المفهوم، فبإمكان الإنسان أن يحوِّل كُلَّ يَوم إلى يومِ عيد: فمن لا يُذنب مِنَ الصباحِ إلى الليل, معَ غروب الشمس فإنّ ذلك اليَوم هو يومُ عيد له.

الرواية الثالثة: قال الإمام الصادق عليه السلام: (للصائم فرحتان: فرحةٌ عند الإفطار، وفرحةٌ عند لقاء الله عزَّ وجلَّ).. إنّ البعض يُفسّر عبارة "عندَ إفطارهِ", أي عندَ إفطارهِ في كُلِّ يَوم!.. ولكنّ هُناكَ معنى آخر, أي: "عندَ فطره في العِيد"، فالصائم يفرحُ بأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أعانهُ على صيامِ هذا الشَهر.

قال الإمام عليّ عليه السلام: "إنما هو عيد لمن قبلَ الله صيامه وشكر قيامه3".


272


محاور الموضوع
تناول القرآن الكريم في أواخر سورة المائدة مفهوم العيد من خلال الحوار الذي دار بين عيسى عليه السلام والحواريّين، يقول تعالى:
﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ * إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ4.

ومن الواضح أنّ الحواريين طلبوا من نبي الله عيسى عليه السلام إنزال هذه المائدة من السماء ليس على نحو الاعتراض على


273


قدرة الله، وإنما بحسب الآية استهدفوا أربع مسائل أساسية:

﴿قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ5.. إن الهَدف من هذا الطَلب:
أوّلاً: الأكل: هم يريدون أن يأكلوا من هذهِ المائدة، يقال إنّهم طلبوا مائدة فأنزلَ اللهُ عزَّ وجلَّ عليهم مائدة فيها السَمَك كما روي عن ابن عبّاس حيث قال: "نزل على عيسى ابن مريم والحواريّين خوان عليه خبز وسمك، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا"6.

ثانياً: الاطمئنان:
إنّ إبراهيم الخليل عليه السلام كان أعلى درجة من الحواريّين فهو لا يُقاس بهم، ومع ذلك تقول الآية:
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي7، أيضاً الحواريّون طلبوا من اللهَ عزَّ وجلَّ إنزالَ مائدةِ تقوّي قلوبهم على الإيمان.

ثالثاً: التصديق:
أي أنّ هذه المائدة تكشف لنا عن صدق


274


ما جئتنا به من الوحي عن الله تعالى فنؤمن لك ونعترف لك بأنّ ذلك إنما هو من ربِّ العالمين.

رابعاً: الإعتراف يالآية:
بمعنى أن يحدّثوا الناس بهذه الآية التي شهدوها بأمّ أعينهم فيكونوا بذلك دعاة إلى الله تعالى وإلى تعاليم السيّد المسيح.

-
﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ8.. أنظروا إلى أدب المسيح عيسى ابنِ مريم عليه السلام!.. هو رَفعَ هذا الطَلب إلى السَماء، ولكن بشيءٍ من التحوير والتبديل، ما قال: "اللهمّ!.. أنزل علينا مائدةً لنأكل منها، وتطمئنَّ قلوبنا"، بل قال:

أولاً:
﴿تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا9..أي أن يكون هذا اليوم يوماً خالداً في الأمة وليس يوماً لخصوص من رأوا الآية بل للأوّلين والآخرين على حدّ سواء، يقول المسيح


275


عليه السلام: "رَبّنا أنتَ عندما تُنزل علينا مائدة, فهذا لطف وكرامة تنزلهما على الأمة، لذا فإننا نتخذُ هذا اليَوم عِيداً لأوّلنا وآخرنا, أي في كُلِّ عامٍ نتذكّرُ فيه إنزال هذهِ المائدة، نحتفل بذلك اليَوم.. فإن كان نزولُ المائدة من السماء مناسبة للاحتفال والعِيد, فكيفَ بنزول ما هو أعظم من المائدة"؟!

ثانياً:
﴿وَآيَةً مِّنكَ10.. هذهِ المائدة آيةٌ إلهية، وآيةٌ سماوية, أي: اجعل هذهِ المائدة علامة من علامات العناية الخاصة بأُمّة المسيح عليه السلام.

ثالثاً:
﴿وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ11..ثم دعا أخيراً باستدرار الرزق من الله إذ جَعلَ الأكلَ من هذا الطعام في مرحلةٍ لاحقة.

فإذاً، إنّ المسيح عليه السلام طلب أن يكون هذا الطعام آية، وعلامة من علامات العناية الإلهية, وهذا أمر معنويّ، ثُمَّ بعد ذلك طلب الرزق الماديّ.. فالحواريّون جعلوا الطعام مُقدّماً على اطمئنان القَلب، بينما المسيح عليه السلام جَعلَ اطمئنانَ


276


القَلب مُقدّماً على الأكل وعلى الرزق.

رابعاً:
إنّ هذه المائدة التي ينزلها الله تعالى على الأمّة أصبحت تشكّل تكليفاً جديداً للأمّة بضرورة الإيمان والرجوع إلى الله وعدم السقوط في المعصية, لأنّ بها تمّت الحجّة على الناس، يقول تعالى:
﴿قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ12 لذا إن كفرتم بهذه النعمة سيكون هناك عذاب خاصّ بكم.

.. ولكنّ هذا التهديد لم يَكُن حَصراً على الحواريّين، بل يشمل كلّ إنسان نزلت عليه مائدة سماوية، فمن شملتهُ النفحات الإلهيّة في شهرِ رمضان المُبارك، وأحيا ليلة القَدر إحياءً مُناسباً، ورَقَّ قلبه، وجرت دمعته، وأحسَّ بجوٍّ خاصّ, فهذهِ مائدة سماوية نزلت عليه.

فإذاً، لنحذَر المعصية بَعدَ مواسم الطاعة، فالإنسان الذي عمل شَهراً كاملاً: قامَ ليلاً، وصامَ نهاراً، وتلا كتابَ رَبه، ومرّت عليهِ ليالي القَدر ببركاتها المعهودة، وبَعدَ الشَهر الكريم في أوّلِ يَوم من أيام العِيد وقعَ في هفوة قوليّة أو نظريّة ولو الصغيرة, آلا يُعدُّ


277


هذا من باب الكُفران بالنعمة الإلهيّة, بنعمة المائدة؟.. ولهذا البعض في شهرِ شوال يرى قساوةً في قلبه، فالبَعض في يوم العيد يرتكب ما لم يَكُن يرتكبه قَبلَ شهرِ رمضان المُبارك، علينا أن نحذر كُفران النِعم الباطنية والمعنويّة، فربّ العالمين هدّد الحواريّين بأنَّ الكُفران بَعدَ نزول المائدة فيهِ عذابٌ عَظيم!..

وفي الختام من الضروريّ التعرّض لمسألة ابتلائية كبيرة تصيب أكثرنا في أيام الأعياد، وهي مسألة الإسراف في الطعام، فقد نُقل عن أمير المؤمنين عليه السلام: "دخلت عليه يوم عيد، فإذا عنده فاثور (أي خوان) عليه خبز السمراء، وصفحة فيها خطيفة (أي لبن يطبخ بدقيق)، وملبنة (أي ملعقة).. فقلت: يا أمير المؤمنين!.. يوم عيدٍ وخطيفةٍ؟.. فقال: إنما هذا عيدُ من غُفر له"13.

وهذه الرواية تشير إلى مسألة ابتلائية كبيرة وهي أننا في الأعياد نتفنّن في المَطْعَمِ والمَشرَب، بل أكثر من ذلك نُبتلى بالإسراف والتبذير برمي الطعام، ولعلّ ذلك كان سائداً حتى في زمن أمير المؤمنين عليه السلام، ولذلك استنكر السائل


278


بقوله: "يَومُ عِيدٍ وخطيفة"..

(إنّما هو عيدُ مَن غُفِرَ له): وهو نفس المعنى الذي أورده رسول الله في الخطبة الغرّاء التي استقبل بها شهر رمضان المبارك والتي قال فيها: (فإنّ الشقيّ من حُرم غفران الله في هذا الشهر العظيم)، فإنّ من يقطع بالمغفرة، بإمكانه أن يفرح, ولكن إن كان شاكّاً في المغفرة عليه التوقف عن هذا الفرح.


279


هوامش


1- المائدة: 114.

2- شرح إحقاق الحق، السيد المرعشي، ج17.

3- وسائل الشيعة، ج15، ص308.

4- المائدة: 111 ـ 115.

5- المائدة: 113.

6- الدر المنثور في التفسير المأثور، السيوطي، ج2.


7- البقرة: 260.

8- المائدة: 114.

9- المائدة: 114.

10- المائدة: 114.

11- المائدة: 114.

12- المائدة: 115.

13- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر اشوب، ج1.