المحاضرة الخامسة: قراءة في صلح الإمام الحسن عليه السلام

تصدير الموضوع:
عن أبي جعفر عليه السلام قال: "والله لَلذي صنعه الحسن بن عليّ عليهما السلام كان خيراً لهذه الأمّة مما طلعت عليه الشمس"1.

الهدف:

بيان أسباب صلح الإمام الحسن عليه السلام والحكمة منه في حفظ المؤمنين.


243


المقدَّمة
من الشبهات العقائدية التي أوردها بعض المتزلّفين لحكّام عصورهم هي الصلح الذي جرى بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان حيث ذهب البعض إلى إثارة شبهة مفادها أنّ الإمام الحسن عليه السلام قد خالف نهج أبيه عليّ عليه السلام وأنه كان يعتمد سياسة مختلفة عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام وعن أخيه الحسين عليه السلام، علماً أننا نؤمن أنّ الصلح الذي وقع بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية لم يكن صراعاً منشؤه الدنيا وزمامه تقديم المصالح الشخصية وهما الأمران اللذان يكوّنان أسس العلاقات السياسية على مرّ التاريخ، ففي القاموس السياسي للحكّام يكون عدو الأمس صديق اليوم وعدوّ اليوم صديق الأمس.

أمّا في قاموس شريعة السمحاء فـ "حلال محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة"، ولذا: فمعاوية ومروان بن الحكم ونظراؤهما قبل الصلح هم أنفسهم بعد الصلح.


244


محاور الموضوع
قال الإمام أبو عبد الله الحسين عليه السلام لمروان بن الحكم حينما أراد أن يخطب أمّ كلثوم بنت عبد الله بن جعفر وأمها العقيلة زينب عليها السلام، ليزيد بن معاوية فذكر أمام الحاضرين أنّ الغرض من هذه المصاهرة هو الإصلاح بين هذين الحيين.

فردّ عليه السلام الحسين عليه السلام قائلاً: "وأمّا صلح ما بين هذين الحيين، فإنّا قوم عاديناكم في الله، ولم نكن نصالحكم للدنيا، فلعمري فلقد أعيا النسب فكيف السبب!"2.

الصلح في كلمات الإمام الحسن عليه السلام

ولقد أجاب الإمام الحسن عليه السلام عن هذا الإشكال بنفسه في غيرِ موقع:
أوّلاً: حينما سأله أبو سعيد عقيصاً، قال قلت للحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أنّ الحق لك دونه وأنّ معاوية ضالٌّ باغ؟.
فقال: "يا أبا سعيد، ألستُ حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم بعد أبي عليه السلام"؟


245


قلت: بلى. قال: "ألست الذي قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي ولأخي، الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟ قلت: بلى. قال: فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذا قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية هي علة مصالحة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكّة حين انصرف من الحديبية أولئك كفّار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفّار بالتأويل. يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفَّه رأيي فيما أتيته من مهادنة. وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً ألا ترى الخضر عليه السلام لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه السلام فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي, هكذا أنا سخطتم عليّ بجهلكم بوجه الحكمة فيه ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل"3.

ثانياً:
يردّ الإمام الحسن عليه السلام على هذه الشبهة بموضع آخر فيقول عليه السلام: "والله لو قاتلت معاوية لأخذوا بعنقي حتى


246


يدفعوني إليه سلماً، فوالله لأن أسالمه وأنا عزيز، خير من أن يقتلني وأنا أسيرهُ، أو يمنّ عليّ فتكون منّة على بني هاشم إلى آخر الدهر، ومعاوية لا يزال يمُنُّ بها وعقبه على الحيّ منّا والميت"4.

ثالثاً:
وهناك ما هو أعظم من هذا، فمعاوية الذي استحلّ قتال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كعمار بن ياسر، ومحمّد ابن أبي بكر، وحجر بن عديّ الكنديّ، وغيرهم كيف لا يأتي بما هو أعظم من قتل الإمام الحسن عليه السلام، وهو ما صرح به الإمام الباقر عليه السلام في حديثه مع سدير، قائلاً له: "يا سدير أذكر لنا أمرك الذي أنت عليه فإن كان فيه إغراق كففناك عنه وإن كان مقصّراً أرشدناك".

قال: فذهبت أن أتكلّم، فقال أبو جعفر عليه السلام: "أمسك حتى أكفيك، إنّ العلم الذي وضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند عليّ عليه السلام من عرفه كان مؤمناً ومن جحده كان كافراً، ثم كان بعده الحسن عليه السلام قلت: كيف يكون بذلك المنزلة وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية"؟.


247


فقال: "اسكت! فإنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمراً عظيماً"5.

رابعاً:
ما يؤكّده التاريخ من محاولات عديدة لقتل الإمام الحسن عليه السلام فضلاً عن هروب الكثير من جيشه إلى الشام وتخاذل البعض الآخر.

تلك المحاولات كالآتي:

دسّ معاوية إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي دسيساً أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه إنّك إذا قتلت الحسن فلك مائة ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي فبلغ الحسن عليه السلام ذلك فاستلام (استلام: أي لبس لامة الحرب)، ولبس درعاً وسترها وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة إلا كذلك فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللامة"6.

خامساً:
محاولة قتل الإمام: فلم تقف محنة الإمام عند هذا الحدّ فقد أقدم المرتشون والخونة والخوارج على قتله، فقد


248


 طعنه الجراح بن سنان في فخذه، وقال الشيخ المفيد رحمه الله: إنّ الحسن أراد أن يمتحن أصحابه في طاعتهم له وليكون على بصيرة من أمره فأمر أن ينادى بالصلاة جماعة فلمّا أجتمع الناس قام خطيباً فقال: "أما بعد فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنّه وأنا أنصح خلق الله لخلقه وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له بسوء ولا غائلة وأنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبّون في الفرقة وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردّوا عليّ رأيي غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا"7.

قال: فنظر الناس بعضهم لبعض وهم يقولون ما ترونه يريد بما قال؟ واندفع بعضهم يقول: والله يريد أن يصالح معاوية ويسلّم الأمر إليه فقالوا: كفر والله الرجل ثم شدّوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته ثم شدّ عليه عبدالرحمن بن عبدالله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالساً متقلداً السيف بغير رداء ثم دعا بفرسه


249


فركبه وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته ومنعوا منه من أراده.

فقال: أدعوا إليّ ربيعة وهمدان فدعوا فاطافوا به ودفعوا الناس عنه عليه السلام وسار معهم شعوب من غيرهم، فلما مرّ في مظلم ساباط بدر إليه رجل من بني أسد يقال له الجراح ابن سنان فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول وقال الله أكبر أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل ثم طعنه في فخذه فشقه حتى بلغ العظم ثم اعتنقه الحسن عليه السلام وخرّا جميعاً إلى الأرض فوثب إليه رجل من شيعة الحسن عليه السلام يقال له عبدالله بن خطل الطائي فانتزع المغول من يده وخضخض به جوفه فكب عليه آخر يقال له ضبيان بن عمارة فقطع أنفه فهلك الرجل من ذلك، وأخذ آخر كان معه فقتل، وحُمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن8.


250


هوامش


1- الوافي، الكاشاني، ج3.

2- بحار الأنوار، المجلسي، ج44.

3- علل الشرائع، الصدوق، ج1، ص211.

4- الاحتجاج، للطبرسي، ج2، ص10.

5- علل الشرائع، ج1، ص211.

6- المصدر نفسه.

7- بحار الأنوار، المجلسي، ج44.

8- الارشاد للمفيد، ج2، ص19.