المحاضرة الثالثة: الفتح المبين بالرحمة الواسعة

تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ1.

الهدف:

تقديم بعض الدروس والعِبَر الأخلاقية التي تلائم ثقافة النصر في الإسلام والتي جسّدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكة.


229


المقدَّمة
كان فتح مكّة بداية فتح عظيم للمسلمين، فقد كان الناس تبعاً لقريش في جاهليتهم، كما أنهم تبع لقريشٍ في إسلامهم، وانت مكّة عاصمة الشِّرك والوثنية، وكانت القبائل تنتظر ما يفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع قومه وعشيرته، فإن نصره الله عليهم، دخلوا في دينه، وإن انتصرت قريش، يكونوا بذلك قد كفوهم أمره. ومن هنا فقد كان يوم فتح مكّة من الأيام الإلهية التي انهارت فيها أكبر قلاع الشرك والباطل، وتحطّمت الأصنام التي لطالما عكف عليها الناس، وصدع صوت الله أكبر وحده لا شريك له وأنّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم عبده ورسوله في مكّة المكرّمة كما واستسلم أهلها وكتب الله لرسوله النصر المبين.

ومن المعلوم أنّ هذه الحملة العسكرية على مكّة إنما كانت بعدما نقض المشركون بنود صلح الحديبية وذلك بإغارتهم على قبيلة خزاعة حليفة المسلمين، وبالتالي فقد كان الدرس الأوّل من هذه المعركة هو بيان عاقبة نكث العهود وأنه وخيم للغاية، إذ نكثت قريش عهدها فحلّت بها الهزيمة، وخسرت كيانها الذي كانت تدافع عنه وتحميه.


230


هذا اليوم سطّر فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أروع معاني الأخلاق الكريمة والسجايا الفاضلة التي انصهرت شخصيته الرسالية بها، فكان فتحاً لا يشابهه أيّ فتح في أيٍّ من الحروب والمعارك.

ومن المهمّ والضروريّ في يوم فتح مكّة الوقوف على المشاهد التالية:
1- العفو عند المقدرة: لمّا استتبّ الأمر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم فتح مكّة دخل الكعبة وطرح ما بها من أصنام وأمر بتكسيرها، ثمّ توجّه إلى المكيّين وسألهم: "ماذا ترون أني فاعلٌ بكم؟ قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إني أقول لكم ما قال أخي يوسف لإخوته، لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء"2.

وبهذا الموقف جسّد رسول الله أنّ الإسلام دين عفو ورحمة، وأنه لا يعامل قريش بحقدٍ وانتقام رغم معاناته معهم طيلة عشرين عاماً، ومحاصرتهم له وخوضهم المعارك ضدّه


231


وقتلهم لأصحابه وأنصاره ومحاولتهم اغتياله والقضاء على كلّ مشروعه.

2- المحافظة على الدماء والأعراض:
فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد لهذا الفتح أن يكون نموذجاً وتجسيداً لمكارم الأخلاق في الإسلام، فقد كان باستطاعته أن يدخل مكّة بالقوّة وقد جاءها في عشرة الآف مقاتل، لكنّه أعلن أنّ الموقف ليس للإنتقام والكراهية، بل إنّ الناس وأموالهم وأرزاقهم وممتلكاتهم في أمنٍ وأمان فنادى فيهم مقولته المشهورة: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن"3.

وفي روايةٍ أنّ أحد قادة جيش المسلمين أخذ ينادي حين دخول مجموعته العسكرية مكّة من أحد مداخلها: "اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحُرمة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الشعار وقال ردّاً عليه: اليوم يوم المرحمة"4، ولم يكتفِ بذلك بل أمر بأخذ اللواء منه ودفعه إلى شخصٍ آخر تأديباً له.


232


3- التواضع عند النصر: فالإنتصار عند غير المسلمين يكون مدعاة للتكبّر والتعالي والإستئثار وفرض القرارات الجائرة والإنتقامية والغفلة عن الله، بينما نرى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمّا أشرف على مكّة ورأى منازلها إغرورقت عيناه بالدموع، فانحنى تواضعاً لله وشكراً، وأنه لمّا دخل الكعبة فإنّ أوّل ما قام به أن صلّى ركعتي شكر لله تعالى.

ومن بيان تواضع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لربّه شكراً له على آلائه وإنعامه عليه إذ دخل مكّة وهو مطأطئ الرأس، حتى إنَّ لحيته لتمس رحلَ ناقته تواضعاً لله وخشوعاً. فلم يدخل - وهو الظافر المنتصر - دخولَ الظلمة الجبّارين سفّاكي الدماء البطَّاشين بالأبرياء والضعفاء.

4- الوفاء:
عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكّة في موكب عظيم وجليل دخلها من ناحيةٍ يُقال لها أذاخر وهي أعلى نقطة في مكة، فضُرب له قبّة عند قبر عمه أبي طالب ليستريح فيها، وقد أصرّوا عليه أن ينزل في بعض بيوت مكّة فأبى5،


233


وهذا الموقف منه صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لشدة محبته لأبي طالب ووفاءً لدوره في رعاية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحمايته الرسالة عند بدايات الدعوة.


234


هوامش


1- الانبياء 107.

2- تذكرة الفقهاء، العلامة الحلي، ج1، ص 428.

3- مستدرك سفينة البحار، ج8، ص109.

4- المغازي، ج2، ص821_822 .

5- الإمتاع، ج1، ص380 .