المحاضرة الثانية عشرة: الرأفة والرحمة في دعوة الأنبياء

تصدير الموضوع:
قال تعالى:
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ1.

الهدف:

عرض لبعض النماذج القرآنية التي تبيّن سيرة الأنبياء عليهم السلام في الدعوة.


105


المقدَّمة
المتأمّل في دعوة الأنبياء الناس إلى التوحيد يرى أنّ البعد الحقيقيّ لهذه الدعوة هو البعد التربويّ والتعليميّ والتوجيهيّ ومحاولة بيان فساد الآراء أو القناعات التي يعتقدونها وإرشادهم برفقٍ ولينٍ إلى صلاحهم وسعادتهم بدون إساءةٍ أو أذىً أو إهانةٍ أو أيّ شكلٍ من أشكال عدم احترام إنسانيتهم بل كان دأب الأنبياء تزكية نفوس الناس وتصفية قلوبهم وأرواحهم وإصلاح سرائرهم وتنقية معتقداتهم, لأنّ الإنسان إذا صَلُحَ باطنه صَلُحَ ظاهره وسلوكه، وإذا سلِمت عقائده من الخطأ والضلالة سلِم الناس منه.

محاور الموضوع

العنف منهج حكّام الجور

يبين القرآن الكريم منهج العنف عند فرعون سواء في مواجهته للنبيّ موسى عليه السلام حيث قال تعالى:
﴿وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ2.


106


أو منهجيته في التعامل مع الناس قبل دعوة موسى عليه السلام، قال تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ3.

قال تعالى:
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ4.

وسرعان ما يُسارع الظالم إلى القتل مستخدماً العنف بأبشع صوره، قال تعالى:
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ5.

وهذا ما فعله قوم لوط مع نبيّهم حيث عمدوا إلى نبذه وجماعته وإخراجهم من القرية، قال تعالى:
﴿وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ6.


107


وأمّا مع نبي الله شعيب فهدّدوه بالرجم بدون رأفة أو مراعاة لأيّ اعتبار، قال تعالى: ﴿قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ7.

الرفق واللين منهج الأديان

قال تعالى:
﴿لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ8، وما أروعها من مواجهة بين اثنين أحدهما يخاف الله والآخر لا يخافه، فالتهديد بالقتل يواجَه بالنهر والدعوة إلى مخافة الله وعدم الوقوع في المعصية.

وهذا نبيُّ الله لوط الذي كان قومه يرتكبون أعظم الفاحشة، ومع ذلك لم يعاملهم بالعنف والقسوة، ولم يسلَّ في وجههم سيف الدين، بل راح يعظهم ويقدّم لهم دليلاً ليس دينيّاً، وإنما أمرٌ عقلي مفاده أنّ هذا الفعل لم يسبقكم إليه أحد من قبل، فلو كان فيه جهة حسنة لفعله من سبقكم من الأمم،


108


قال تعالى: ﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ9.

قال تعالى:
﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ10.

ونقرأ في دعوة نوح عليه السلام الحكمة والأسلوب الهادئ فهو يدعو قومه إنطلاقاً من خوفه عليهم وعلى آخرتهم، فهو المبلّغ لهم والناصح الأمين كما يعبر كتاب الله وليس الحاكم المسلّط عليهم، قال تعالى:
﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ *  قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ *  أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ11.


109


وهذه دعوة بقية الأنبياء من صالح عليه السلام إلى هود عليه السلام إلى إبراهيم عليه السلام إلى غيرهم من أنبياء الله الذين ذكرهم القرآن الكريم ولا ترى في دعوتهم إلا الوعظ والتذكير والدعوة إلى التأمّل ومراجعة الذات وبيان المعارف الإلهية والنعم التي أنعمها الله على بني البشر وغيرها من الأساليب التي لا تنطوي إلّا على المحبّة والرفق والخوف على الآخر والنصيحة بدون عنف أو قسوة، قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ12.

قال تعالى:
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ


110


الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ13.

وفي حوار نبي الله إبراهيم مع أبيه ترى عظمة الرحمة والقلب الرؤوف والدعوة اللينة، قال تعالى:
﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا *يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا * وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا14.

وأمّا في مواجهة موسى عليه السلام لفرعون، ورغم التسلط والإستكبار والعتوّ الذي كان يمارسه فرعون ضدّ شعبه نرى


111


أنّ الله تعالى يأمر نبيّه بالتعامل معه بالحسنى، قال تعالى: ﴿اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى15.

وفي الخطاب الإلهي لبني إسرائيل نقرأ قوله تعالى:
﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ16.


112


هوامش

1- الأعراف: 62.

2- الأعراف: 127.

3- البقرة: 49.

4- القصص: 38.

5- المائدة: 27.

6- الأعراف: 82.

7- هود: 91.

8- المائدة: 28.

9- الأعراف 80.

10- آل عمران: 75.

11- الأعراف: 59 ـ 62.

12- الأعراف: 73 و 74.

13- الأعراف: 85.

14- مريم 42 ـ 50.

15- طه: 42 ـ 44.

16- المائدة: 32.