المحاضرة الرابعة: من محطات يوم القيامة (2)


تصدير الموضوع:


قال تعالى:
﴿وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ1.


الهدف: تكملة شرح بعض محطات الحساب يوم القيامة لا سيما ما يرتبط بشهادة الأنبياء والمساءلة وشهادة الجوارح.


215


مقدمة

إن الشهادات التي يواجه بها الإنسان يوم القيامة تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك الشهادات التي تؤدى في الدنيا والتي غالباً ما تقوم على إدراك الحواس ومعاينة الأشياء على فرض صدق هذه الشهادات، وأما يوم القيامة فتتحول الجوارح نفسها إلى شهود وتنطق بما عملت وتشهد الأنبياء على أعمالنا عن طريق الإحاطة العلمية بما فعل الإنسان، وكلّ ذلك ليؤكد مدى جدية تلك المحكمة وعدالة الأحكام التي تصدرها.

شهادة الأنبياء

والمراد من الشهادة مدى مطابقة أعمال الخلق لتعاليم الأنبياء ومدى تصديقهم واعتقادهم بما أمروا به أو نهوا عنه. وقال تعالى:
﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء2.

وقال تعالى:
﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا3. وهذه الآية تعطي لرسول الله مقاماً


216


سامياً ليس على الأمة الإسلامية فحسب، بل هو الشاهد على كافة الأمم السابقة واللاحقة وعلى كافة البشر حتى الأنبياء والأوصياء والأولياء. والقرأن الكريم يؤكد اجتماع الناس كلهم يوم القيامة، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ4.

وفي آيةٍ أخرى يقول تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا5.

وهذه الآية تبين أمرين أساسيين:

الأول: أن الأمة الإسلامية هي الأمة الشاهدة على الناس كافة وذلك لمقامها الوسط الذي جعلها الله عليه، فهي شاهدة على أعمالهم وسلوكهم وعقائدهم وأخلاقهم في الدنيا وشاهدة على ذلك في الآخرة.

الثاني: شهادة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كافة الخلائق والأمم لأنه شاهد على هذه الأمة الشاهدة.

ولا يخفى أن المراد بكون الأمة أمة شهيدة معناها قدرة هذا الدين على تربية وصناعة الإنسان الشاهد في الدنيا والآخرة وأما لو إنحرف الإنسان عن هذه الوسطية فلن يكون له هذا المقام.


217


السؤال

قال تعالى:
﴿َقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ﴾6. والسؤال من أهم مشاهد يوم القيامة لأن الله وإن كان عالماً بإجابات المرء ومطلع على خفايا ضميره ومكنونات باطنه، لكن الله يأبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها ويجيب الإنسان عن كافة أعماله ومعتقداته حتى يتبين له عدالة الجزاء الإلهي واستحقاقه لهذا الجزاء.

وهذا المشهد يؤكده الله تعالى بقوله :
﴿فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ7. هذه الآية التي ورد فيها عدة تأكيدات لتبين جدية المساءلة يوم القيامة.

والسؤال يوم القيامة لا يستهدف طلب الإعتذار أو استعتاب المرء، فهذا لا يجدي نفعاً بل السؤال يستهدف استصدار الحكم الإلهي، ولذلك قال تعالى:
﴿فَيَوْمَئِذٍ لَّا يَنفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ 8.

ويبين في آيةٍ أخرى قرار العذاب بقوله تعالى:
﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾9.


218


شهادة الجوارح

وهي أصدق الشهادات بحق الإنسان، لأنها الشهادة التي لا يستطيع إنكارها لأنها منه وذاته، قال تعالى:
﴿يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونََ10.

وقال تعالى:
﴿َحَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ11.

وقال تعالى:
﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ12.

وقال تعالى:
﴿هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ* وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ13. وهم لا ينطقون لأن جوارحهم تحكي أعمالهم، كما أن يوم القيامة ليس يوماً للإعتذار عما بدر من الإنسان، وتعبير القرآن غاية في الدقة، فالقرآن لم يقل أنهم يعتذرون فلا يُقبل عذرهم بل قال أنهم غير مأذونٍ لهم في الإعتذار أصلاً.


219


هوامش

1-  البروج، 2-3.
2- الزمر، 69.
3- النساء، 41.
4- الواقعة، 49-50.
5- البقرة، 143.
6- الصافات 24.
7- الأعراف، 6
8- الروم 57.
9- غافر 52.
10- النور 24.
11- فصلت، 20-21.
12- يس، 65.
13- المرسلات، 3536.