الدرس الخامس: مهارات تبليغية (2) التبليغ العلمي

مقدمة:
أشرنا في المقال السابق إلى موقع التبليغ في الإسلام حيث ذكرنا العديد من الروايات التي تؤكد المقام الرفيع للتبليغ، واعتبرنا أن المبلغ كالطبيب والمجاهد اللذين يجب أن يمتلكا رأس مال وإمكانيات وتجهيزات كافية للموفقية في الطبابة والجهاد، كذلك ينبغي أن يحظيا بمهارة استعمال تلك الأمور بشكل يتناسب مع موقفهم ومن أهم المهارات التي يجب الإشارة إليها "العمل" و"التبليغ السلوكي".

المهارة العلمية (القولية والكتابية):

إن العصر الذي نعيش فيه هو عصر الإعلام وهناك مجموعة من وسائل الإعلام التي تمكنت من ربط مختلف نقاط هذه الكرة الأرضية، وكأننا نعيش اليوم في قرية صغيرة بحيث نتمكن من الاطلاع على ما يحدث فيها بسهولة.

إن وجود الوسائل والشبكات الصوتية والصورية وتنوع البرامج زاد من قدرة المخاطب على الاختيار حيث يتمكن المخاطب وبسهولة بالغة من اختيار ما يريد. وازداد أيضاً الطلب على البرامج حيث أصبحت في الطليعة من حيث "المضمون" و"القالب".

والمضمون في التبليغ هو كالمواد الضرورية للبناء، والدواء للطبيب والمواد


61


الغذائية للطباخ... وإذا كان وجود المواد الأولية ضرورياً فإن الذي يضفي الجاذبية هو "القالب" الذي نضع فيه المضمون والمواد الأولية لذلك نرى الناس تختار من بين مجموعة الألبسة والمباني والأطعمة والأقوال والكتابات وتصبح متعلقة بالبعض فقط.

بعبارة أخرى المبلغ كالبائع الذي يعرض بضاعة الثقافة والمعنويات في الواقع فإن المبلغ يعيش في سوق ملتهب، لذلك ينبغي عليه أن يقدّم البضاعة المرغوبة في قالب جذّاب ومناسب وإلا فلن يكون هناك إقبال عليه.

المحتوى الخالص‏

إن دين الإسلام القائم على أساس الفطرة والعقل والتفكير، يتمكن من الإجابة على كافة احتياجات البشر في جميع الأزمنة والأمكنة لما يتمتع به من غنى في المصادر، بحيث لا نجد أي نقص فيه.

﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ1.

إن القرآن الكريم هو ذلك المحيط السماوي اللامتناهي وهو ذلك المصدر الذي لا ينضب، والذي يحمل أغنى جواهر المعرفة في أعماقه.

قال الإمام الباقر عليه السلام: "إن الله لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة إلا أنزله في كتابه، وبيَّنه لرسوله، وجعل لكلّ شي‏ءٍ حَدَّاً، وجعل عليه دليلاً يدلّ عليه"2.

وقال الإمام الباقر عليه السلام: "إنّ حديثنا يُحيي القلوب"3.

ينبغي أن يكون المبلغ كالغواصّ الماهر في أعماق القرآن والعترة، يستخرج


62


جواهر الهداية ويروي بمعارفه العطشى.

يجب أن يعلم المبلّغ بأنّ امتلاكه مضموناً خالصاً لا يكفي لتوفيقه في متراس التبليغ بل اكتساب المهارات لوضع المضمون في قوالب مناسبة وجذابة هو أيضاً مسألة لا يمكن إنكارها.
وإذا كنا نعرف من المبلغين والعلماء العارفين بالمصادر الدينية ممن لم يوفقوا في المواضيع الإسلامية عند عرضها على الطالبين، فإن ذلك يعود إلى كيفية تقديم هذه البضاعة الثقافية، وإذا تمكنت الحوزة العلمية من التقدم على مستوى المضمون جنباً إلى جنب المهارات القولية والكتابية، فستكون مؤثّرة ومفيدة بشكل أكبر في الجبهة الثقافية.

عند التبليغ (سواء للحق أو الباطل) هناك أربع أوجه متصورة:

أ- مضمون قوي, قالب قوي.
ب- مضمون قوي, قالب ضعيف.
ج - مضمون ضعيف, قالب قوي.
د- مضمون ضعيف, قالب ضعيف.

أما الحالة (أ) فهي أفضل الحالات وأكثرها تأثيراً لأننا نمتلك مضموناً سماوياً خالصاً إلا أننا نبتلى في الكثير من الحالات بالحالة "ب" وهي حالة ليست ذات فائدة كبيرة، وهناك من يختار الحالة "ج" حيث أن هؤلاء لا يمتلكون إطّلاعاً عميقاً ودقيقاً على المعارف الإسلامية إلا أنهم يمتلكون جاذبية ظاهرية تجعل البعض ينجر إليهم تحت تأثير جمال الخِطاب، وهو من الطرق التي يعمل أعداؤنا على امتلاكها لمحاربتنا.

أما الحالة "د" فإن عدم فائدتها واضحة حيث تطفو عليها المشاكل.


63


المهارات العلمية:
تحدثنا فيما مضى عن "التبليغ العملي" واعتبرناه الطريق الأساسي لإيصال رسالة الله تعالى إلى الناس ومن خلال دراسة الآيات والروايات ندرك الحقيقة التالية وهي أن المبلغ الديني يجب أن يلتزم بشكل جديّ بجميع الأصول والقيم الإسلامية، وينبغي امتلاك الأسلحة والأدوات اللازمة والضرورية لإيصال هذه الرسالة العظيمة وينبغي من خلال المهارة العلمية تقديم المضمون الديني الخالص والفني بشكل جذاب ومناسب.

القرآن والعترة هما أفضل نموذج في هذا المجال حيث قدّما المعارف الإلهية بأعلى مستوى من الفصاحة والبلاغة".

قال الإمام الصادق عليه السلام: "أعربوا حديثنا، فإنّا قوم فصحاء"4.

سلاح القلم و اللسان

﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ5.

إن تعليم "البيان" هو من أبرز مظاهر الرحمة الإلهية للإنسان حيث يمكنه بواسطة هذه النعمة الكبيرة توضيح ما في ضميره وبهذا النحو يتمكن الإنسان من التواصل مع أبناء نوعه.
ويمتلك الإنسان وسيلتين هامتين وأساسيتين لإظهار احتياجاته الداخلية ونعبر عنهما بالسلاح وذلك لأهمية موضوع التبليغ.

وإذا رغب المبلّغ في إقامة علاقة مؤثّرة مع مخاطبيه فيمكنه اللجوء إلى "الكتابة" و "الخطابة" وهذا يعني أن على الإنسان امتلاك مهارة استعمال سلاح القلم واللسان.


64


قال الإمام علي عليه السلام: "الألفاظ قوالب المعاني"6.

وأقسم القرآن الكريم بالقلم وما يسطرون، واهتم أئمة الدين بالقلم واللسان منذ صدر الإسلام فكان للخطابة في ذاك الزمان ظهور ونبوغ واضح7.

ويتمكن المبلغ الذي يمتلك هذين السلاحين من دخول معركة "الجهاد الثقافي" وسيكون بلا شك موفّقاً في معركة الدفاع عن القيم الإسلامية.

أما فيما يتعلق بفن الكتابة فإذا راجعنا سوق المطبوعات فسنجد أن حضورنا فيه قليل وقليل جداً، وإذا قدّمنا شيئاً مكتوباً فسنجد عدم الإقبال عليه لعدم جاذبيته حتى وإن كان ذا مضمون عالٍ.

وفيما يتعلق بفن الكلام والخطابة فصحيح أنّ هناك بعض الجلسات واللقاءات التي تقام هنا وهناك إلا أنه يجب الاعتراف بأن هذا الفن يتجه نحو الأفول، وبما أن هذين الأمرين مرتبطين ببعضهما البعض فسنجدهما يظهران ويتجليان بشكل تقليدي يمارسهم البعض من منطلق العادة مع أنه لا فائدة عملية مرجوة من ذلك. من هنا نجد أن المبلغين لا يمتلكون الشوق والرغبة والإقبال لتعلم فنون الخطابة والكتابة.

أما أسباب عدم الاهتمام بهذين الفنين فتعود إلى عدم الاطلاع على قيمتهما وفعاليتهما المؤثرة في تنظيم رسالة التبليغ المؤثرة.

فيما يلي نشير إلى بعض الآيات والروايات والنقاط التي تبين أهمية القلم واللسان ونوكل التفصيل فيها إلى المقالات اللاحقة.

1- اعتبر الله تعالى في القرآن الكريم أن تعليم "البيان" للإنسان هو أحد مصاديق رحمته.


65


"البيان" هو إظهار ما في الضمير الذي قد يحصل بالقلم واللسان وهذا يعني أن البيان غير محصور بالقول فقط.

2- يرتبط الكلام والكتابة بعلاقة وثيقة وقد دلّت التجربة أنّ الأفراد الذين يمتلكون مهارة الكتابة بشكل جميل، فإن هذه المهارة تظهر في أقوالهم أيضاً فيتحدثون بعبارات جميلة أيضاً.

3- التبليغ هو عملية ذات طرفين وليست كما يتصور البعض بأنهما ذات طرف واحد. وهذا يعني أن المبلغ ومن خلال نوع سلوكه الكتابي يحدد كيفية سلوك وتصرف الناس معه.
قال الإمام علي عليه السلام: "أجملوا الخِطاب، تسمعوا جميل الجواب"8.

4- كان أهل البيت عليهم السلام يتحدثون وهم في أعلى مستويات الفصاحة والبلاغة وجمال العبارات. يقول الإمام علي عليه السلام: "وإنّا لأمراء الكلام، وفينا تنشبت عروقه، وعلينا تهدّلت غصونه"9.

عن سليمان بن مهران قال: دخلت على الصادق عليه السلام وعنده نفر من الشيعة فسمعته يقول:

"معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حُسناً، واحفظوا ألسنتكم وكفوّها عن الفضول وقبيح القول"
10.

5- الأسلوب الحسن والجميل في القول والكتابة من وسائل جذب الأشخاص. قال الإمام علي عليه السلام: "من عَذُبَ لسانه كَثُرَ إخوانه"11.

6- القلم واللسان وسيلتان هامتان لإظهار العقائد والمطالب الموجودة


66


في ضمير الإنسان. قال الإمام علي عليه السلام: "الكتاب ترجمان النية"،
وقال عليه السلام أيضاً: "الألفاظ قوالب المعاني"12.

7- تترك المكتوبات والمقولات آثاراً عميقة (حسنة أو سيئة) في وجود الأفراد.
قال الإمام علي عليه السلام: "ربّ قول أنفذ من صول"13.

8- شخصية الإنسان مخبوءة تحت لسانه وقلمه، وتلعب المكتوبات والمقولات دوراً أساسياً في التعريف بعقائد الشخص وروحياته.
قال الإمام علي عليه السلام: "تكلّموا تُعرفوا فإنّ المرء مخبوءٌ تحت لسانه"14.

9- يبقى الموضوع ملكاً لنا ما لم نكتب أو نتحدث فإذا كتبنا وتحدثنا خرج من عندنا إلى المخاطبين الذين سيقومون بتلقّيه.
قال الإمام علي عليه السلام: "الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلّمت به صرت في وثاقه"15.

د. خسروي، كاتب وباحث إسلامي
مجلة مبلغان


67


هوامش

1- سورة النحل، الآية: 89.
2- بصائر الدرجات، 6.
3- بحار الأنوار، ج‏7، ص‏144.
4- أصول الكافي، ج‏1، كتاب فضل العالم، الباب 17، الحديث 13.
5- سورة الرحمن، الآيات: 1 - 4.
6- ميزان الحكمة، ج‏8، ص‏451.
7- لمزيد من المعلومات راجع: أدبيات وتعهد د.اسلام، محمد رضا حكيمي.
8- ميزان الحكمة، ج‏8، ص‏451.
9- نهج البلاغة، الخطبة 133.
10- ميزان الحكمة، ج‏8، ص‏450.
11- ميزان الحكمة، ج‏8، ص‏451.
12- المصدر نفسه، ص‏222.
13- المصدر نفسه، ص‏430.
14- نهج البلاغة، ق 392.
15- نهج البلاغة، ق 381.