الدرس الرابع: مهارات تبليغية (1) التبليغ العملي

نحن ندرك أن التبليغ رسالة تقف على رأس وظائف أنبياء الله تعالى. وهي من دون شك من أهم وظائف وارثي الأنبياء عليهم السلام. والذين أخذوا على عاتقهم القيام بهذا العمل قد حملوا أفضل وأهم الوظائف،﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين1.

إذا أردنا الإطلاع على الموقع الواقعي لمبلّغ الدين يجب علينا أن نطّلع على المنزلة التي كان يتمتع بها أنبياء الله عليهم السلام وعلى رأسهم خاتم الرسل محمدصلى الله عليه وآله وسلم ونتعرف على الدور الذي كان يقوم به بين الناس.

مما لا شك فيه أن الاطلاع على دور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يتضح - وقبل أي كلام من خلال العبارة التي ذكرها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة 108 من نهج البلاغة، يتحدث فيها الإمام عليه السلام حول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ويقول: "طبيب دوار بطبه، قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه..."2.

وإذا دققنا في مسألة تشبيه المبلّغ بالطبيب لطالعتنا مسائل عميقة ودقيقة يحتاج الحديث حولها إلى مجال آخر. ولكن يظهر في النظرة الأولى أننا إذا رغبنا بوجود تبليغ لائق ومؤثر يجب علينا التعرف على الأشخاص أصحاب الاستعدادات،


55


ثم اختيارهم للعمل بعد وضع الإمكانات اللازمة والضرورية في متناول أيديهم، والأهم من ذلك جعلهم قادرين على الاستفادة المناسبة من الإمكانيات والأدوات والتعاليم.

من جهة أخرى يمكن الحديث عن المبلّغ باعتباره جندياً يقف في الخط الأول من الجبهة الثقافية، لذلك إذا أردنا الانتصار في هذه الجبهة يجب أن نمتلك معرفة دقيقة بالجبهتين الموافقة والمخالفة، وامتلاك الإمكانيات المناسبة، والقدرات والمهارات التي تسمح للمبلغ بالاستعانة بالسلاح المناسب لدخول المعركة.

وإذا كان المبلّغ في المعركة الثقافية يمتلك الاستعداد الكافي للتضحية والإمكانيات الضرورية إلا أنه يفتقد إلى مهارة استخدامها عند ذلك لن يخرج منتصراً من المعركة وهذا يعني أننا لن نصل إلى الهدف المطلوب.

بناءً على ما تقدم فإذا رغبنا بالنصر في متراس التبليغ ينبغي أن نمتلك جناحي "المضمون" و"المهارة" لنتمكن من التحليق في سماء هذه الرسالة الإلهية الكبيرة.

سنركز في هذا المقال على مسألة "المهارة" وهذا لا يعني الغفلة عن "المضمون" على أساس أن أهمية المضمون وضرورة الاهتمام بإتقانه أمر لا يخفى على أحد، لا بل المضمون هو الركن الأساسي في التبليغ الذي يجب الحديث عنه في مكانه. من جهة أخرى يبرز موضوع القالب كعنوان أساسي على أساس أن المضمون يجب أن يظهر في قالب معين، وعلى المبلغ أن يمتلك مهارة الاستفادة من القوالب.

تحدثنا فيما تقدم أن التبليغ عبارة عن الطبابة الروحية والمعنوية، ومضمون التبليغ بمثابة الدواء الذي يعطى للمريض عند حالات خاصة، هنا يمكن الحديث عن مهارة الطبيب في إعطاء الدواء المناسب للمرض المناسب.


56


مهارة "العمل"

قال الإمام علي عليه السلام: "علم المؤمن في عمله"3.

إذا رغب مبلغ الدين دخول وادي الهداية والوصول إلى مستوى التبليغ المؤثر، فأمامه طريقان: الطريق العملي، والطريق العلمي حيث يكون أحدهما أساسياً أصيلاً والآخر فرعياً.

الطريق الأصيل‏
تفيد الآيات والروايات أن المبلّغ مكلّف باللجوء إلى أفضل الطرق وأكثرها تأثيراً ألا وهو العمل. يقول الإمام الصادق عليه السلام:

"كونوا دعاة الناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير وأنّ ذلك داعية"4.

ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إن الوعظ الذي لا يمجّه سمع، ولا يعدله نفع، ما سكت عنه لسان القول، ونطق به لسان الفعل"5.

نرى في هذين الحديثين الشريفين أن التبليغ الواقعي هو "التبليغ العملي". وهذا يعني أن على المبلغ وقبل أن يدعو الآخرين أو يعلمهم يجب أن يدعو نفسه ويصدق ما يطلب من الآخرين القيام به. ومن هنا نجد القرآن الكريم يتحدث عن الأشخاص الذين يقولون ما لا يفعلون:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ6.

قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "يا بن مسعود، لا تكونن ممن يهدي الناس إلى الخير ويأمرهم بالخير وهو غافل عنه، يقول الله تعالى:
﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ


57


وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ"7.

وقالب العمل من أكثر القوالب تأثيراً في عمل المبلغ، لا بل لن يكون التبليغ مؤثراً من دون العمل، يقول الإمام الصادق عليه السلام: "العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته من القلوب، كما يزلّ المطر عن الصفا"8.

ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ذاكراً تمثيلاً جميلاً: "يا أبا ذر! الذي يدعو بغير عمل، كمَثَل الذي يرمي بغير وتر"9 ويخاطب صلى الله عليه وآله وسلم الإمام علي عليه السلام قائلاً: "يا عليّ لا خير في قول إلا مع الفعل"10.

وإذا راجعنا كتاب تأريخ الأنبياء لوجدناهم أسرع الناس إلى العمل بالأوامر الإلهية وكانوا أكثر الناس عبادة وعملاً وتقوى.

إذاً العمل هو أكثر الأسلحة فعالية في متراس التبليغ. وأكثر القوالب تأثيراً في المحتوى هو التزام المبلغ بالتعاليم الدينية.


58


خصائص التبليغ السلوكي‏
أ- المخاطب الأول:
"المبلِّغ" هو المخاطب الأول بالأوامر الإلهية. فهو مسلم وعليه هداية نفسه قبل العمل على هداية الآخرين، وأما إذا كان العمل مخالفاً للقول فإنّ التبليغ لن يكون مؤثراً على الإطلاق.

ب - التأثير
يقول الإمام علي عليه السلام: "العلم يرشدك، والعمل يبلغ بك الغاية"11. وإذا كان التبليغ السلوكي هو إظهار للقيم الإلهية، لا يمكن للناس أن تؤمن وتصدق وتقبل هذه القيم إلا إذا شاهدتها تخرج من عمل المبلغ. ولعل حياة المعصومين عليهم السلام فيها الكثير من الدروس في هذا المجال لذلك خاطب الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:
﴿إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ12.

ج - البساطة
قال الإمام الصادق عليه السلام: "يا ابن جندب!... رَحِم الله قوماً كانوا سراجاً ومَنَاراً، كانوا دعاة إلينا بأعمالهم, ومجهود طاقتهم"13.

إذا أردنا إيجاد شبكة تبليغية فعالة ينبغي أن يسبق ذلك تخطيط دقيق، وتظهر أهمية التخطيط إذا أخدنا بعين الاعتبار وجود رسالة ورسول ومرسل إليه، وإذا أخدنا بعين الاعتبار المشكلات التي تعترض الطريق. ومن هنا يكون التبليغ العملي أو السلوكي أبسط الأساليب لنقل البيان والرسالة إلى المخاطب.


59


د - السهولة
من أهم الأمور التي ينبغي على المبلّغ الاهتمام بها، رعاية التناسب أي تقديم المضمون في قالب يتناسب مع عمر، ولغة، وثقافة، واستعداد ومستوى المخاطب.
من أبرز الخصائص التي يحظى بها التبليغ السلوكي أنه أداة ووسيلة سهلة لنقل الرسائل والبيانات. فالعمل هو لغة يفهمها الجميع ولا تحتاج إلى ترجمة أو تعليم أو ما شابه ذلك.

هـ - الميزانية المحدودة
الإعلام والتبليغ يحتاجان إلى ميزانيات مالية كبيرة، أما التبليغ العملي فهو وسيلة لا تتطلب المزيد من الميزانيات، على أساس أن جميع الإمكانيات والأدوات تتلخص في عمل المبلغ.
"اللهم صلِ على محمد وآله وارزقني صحة في عبادة، وفراغاً في زهادة، وعلماً في استعمال، وَوَرعاً في اجمال"14.


د. خسروي، كاتب وباحث إسلامي
مجلة مبلغان


60


هوامش

1- سورة فصلت، الآية: 33.
2- نهج البلاغة، الخطبة 108.
3- غرر الحكم، ص‏220.
4- الحياة، ج‏1، ص‏113.
5- المصدر نفسه، ص‏291.
6- سورة الصف، الآيتان: 2 - 3.
7- الحياة، ص‏286.
8- المصدر نفسه، ج‏1، ص‏113.
9- المصدر نفسه.
10- المصدر نفسه.
11- الحياة، ج‏1، ص‏263.
12- سورة القلم، الآية: 4.
13- تحف العقول، ص‏221.
14- الصحيفة السجادية، الدعاء العشرين.