موقف أهل الكوفة

" إن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل يا ابن رسول الله فقد اخضرَّ الجناب وأينعت الثمار وأورقت الأشجار أقدِم إذا شئت فإنما تُقدم على جندٍ لك مجنَّدة ".

هذه الرسالة كانت اخر ما وصل إلى الإمام الحسين عليه السلام من أهل الكوفة تعبّر عن مدى استعدادهم لنصرة الحسين عليه السلام والقتال تحت رايته ضد يزيد بن معاوية الذي تسلَّم السلطة والخلافة، وقد بلغ مجموع الرسائل الواصلة إليه منهم إلى اثني عشر ألف رسالة كما تذكر أغلب المصادر الإسلامية ومنها ما كان يعبّر عن رأي شخص المرسل، ومنها ما يعبّر عن رأي جماعة، مما يعطي انطباعاً كافياً بأن الرأي العام في الكوفة كان يميل بنسبة كبيرة لصالح الإمام عليه السلام، وأن هناك حالة من الانفصال والانقطاع بين أهل الكوفة وبين النعمان بن بشير والي الأمويين عليها.

إلاَّ أن الإمام عليه السلام لم يكن مطمئناً كلياً لذلك، وأراد أن يحصل على اليقين من نصرة الكوفيين فكتب رسالة جوابية إليهم انتدب لحملها ابن عمه وثقته " مسلم بن عقيل " لكي يطَّلع على الأوضاع عن قرب، ومما


65


جاء في رسالة الحسين عليه السلام:
" ... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي وأمرته أن يكتب إليّ‏َ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب أنه قد اجتمع رأي ملاءكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليّ‏َ به رسلكم وقرأت في كتبكم، أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله فلعمري ما الإمام إلاَّ العامل بالكتاب الاخذ بالقسط والدائن بالحق والحابس نفسه على ذات الله والسلام "
.

إن التجربتين السابقتين مع أمير المؤمنين عليه السلام والإمام الحسن‏عليه السلام لا تشجعان على الاطمئنان للتجاوب مع رغبة أهل الكوفة إذ لعلّ‏َ الأمر ناتج عن حالة انفعالية أو عن ولاء قابل للتزلزل أو الرضوخ كما حصل في المرتين السابقتين، ولهذا انتخب الإمام عليه السلام لتلك المهمة الدقيقة في نتائجها شخصاً من خواصّه وثقاته يليق بحمل تلك المسؤولية الكبيرة وعالماً بخطورة المهمة الملقاة على عاتقه ودقّتها، فمضى مسلم رضوان الله تعالى عليه بجواب الإمام عليه السلام إلى أن وصل إلى الكوفة، ونزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي، ليبدأ من هناك بحملة تقصّي الأوضاع والاطّلاع على الأمور عن كثب.

وما أن علم أهل الكوفة بقدوم مسلم عليهم بدأوا يتوافدون عليه مظهرين الطاعة والانقياد والولاء للإمام الحسين عليه السلام فواحد يقول... " والله لأجيبنَّكم إذا دعوتم ولأقاتلنّ‏َ معكم عدوّكم والاخرين بسيفي دونكم حتى ألقى الله لا أريد بذلك إلاَّ ما عند الله " واخر يتكلَّم نفس المضمون وهكذا إلى أن بلغ مجموع المؤيدين والمبايعين عشرات الالاف على ما تشير المصادر التاريخية، مما ولَّد في نفس مسلم رضوان الله تعالى عليه الانطباع بأن أهل الكوفة حاضرون للنصرة والجهاد بين يدي الإمام


66


 الحسين عليه السلام وهذا ما دفع بمسلم إلى أن يرسل البشارة إلى الإمام‏عليه السلام قائلاً له في الرسالة التي بعثها إليه: " الرائد لا يكذّب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي ".

إلى هذا الحد، كانت الأمور تسير بانتظام ووفق التصوُّر الذي حدَّده الإمام عليه السلام كشرط لخروجه إلى الكوفة، إلاَّ أن التطورات ما بين إرسال مسلم رسالته إلى الإمام عليه السلام وبين دخول عبيد الله بن زياد لعنه الله إلى الكوفة قلبت الأوضاع رأساً على عقب، خاصة وأن دخوله كان بطريقة ماكرة جداً جعلت الناس يتوهَّمون أنه الحسين عليه السلام مما حدا بهم إلى استقباله الاستقبال الحار بقولهم: " مرحباً يا ابن رسول الله‏صلى الله عليه وآله وسلم" وكان أول عمل قام به ابن زياد أنه جمع الناس في المسجد الجامع في الكوفة وخطب فيهم متوعداً ومهدداً بقوله: " أيما عريف وجد عنده أحد من بغية أمير المؤمنين ولم يرفعه إلينا صُلِب على باب داره ".

هذه التطورات جعلت مسلماً ينتقل إلى مكان اخر غير المكان الذي عُرف أنه كان ضيفاً على أهله، حتى يعيد تنظيم الأمور وضبطها تمهيداً لمجي‏ء الإمام الحسين عليه السلام وصار الأتباع المخلصون يتّصلون به سراً لتهيئة القوة الكافية للتخلُّص من ابن زياد، وفي هذه الأثناء استطاع ابن زياد وعبر جواسيسه معرفة الدار التي يختبى‏ء مسلم فيها وهي دار " هاني بن عروة " فأرسل في طلبه ودار بينهما حوار كانت نتيجته أن حبس ابن زياد " هاني " عنده، مما دفع كل ذلك بمسلم رضوان الله تعالى عليه أن ينظّم صفوف أنصاره الذين بلغوا أربعة الاف ليهاجم قصر الإمارة


67


وفعلاً تمَّت محاصرة ذلك المكان الذي تمترس فيه ابن زياد وكاد أن يتحقق الهدف، لولا الغدر والخيانة والنفاق الذي جُبِلَ عليه أهلها التي أنقصت ذلك العدد الكبير إلى ثلاثمائة فقط، وهذا ما دفع كما تجمع المصادر بالرجل أن يأخذ ابنه والزوجة تأخذ زوجها والأم ولدها، كل ذلك خوفاً من التهديدات التي أطلقها ابن زياد وجلاوزته، وبذلك تفرَّقت الناس عن مسلم رضوان الله تعالى عليه، فبقي معه ثلاثون رجلاً صلَّى فيهم في مسجد الكوفة وبعد الصلاة لم يبق معه إلاَّ ثلاثة فقط، ثم وصل الأمر إلى أن صار وحيداً فريداً لا يجد من يدلّه على الطريق الذي يتوجّب عليه سلوكه، وهذه التطورات كلها أتاحت لابن زياد الفرصة الثمينة للبحث عن مسلم واعتقاله ثم قتله رضوان الله تعالى عليه بعد أن حاول مرات ومرات أن ينهض بأولئك الغادرين المنافقين الذين نكثوا البيعة وخانوا العهد وقد عبَّر مسلم عن المرارة التي كان يعتصرها بقوله: " اللهم احكم بيننا وبين قوم غرُّونا وخذلونا وكذَّبون "، وقد صدق الشاعر الفرزدق الذي التقى الإمام الحسين عليه السلام في الطريق إلى الكوفة عندما أجابه بعد أن سأله عن خبر الناس في الكوفة " قلوبهم معك، والسيوف مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء " فقال له الإمام عليه السلام: " صدقت لله الأمر، والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربّنا في شأن ".

لقد صار أهل الكوفة بذلك الغدر وتلك الخيانة مثلاً مشؤوماً ينعت به كل إنسان طلب نصرة ثم تراجع وانهزم، بل وقاتل الحق وأهله كما فعل أهل الكوفة الذين خاطبهم الإمام الحسين عليه السلام يوم كربلاء بقوله:
 " تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً استصرختمونا والهين فأصرخناكم


68


 موجفين ثم سللتم علينا سيفاً لنا في إيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدونا وعدوّكم فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم... "، إلى أن قال عليه السلام " ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنَّا تتخاذلون أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه أصولكم وتازرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة ".

إن ذلك الموقف هو الذي أعطى الفرصة لبني أمية لقتل الحسين‏عليه السلام وأهل بيته وأصحابه وبمشاركة منهم بل بأيديهم أيضاً عندما رضوا لأنفسهم عار الدنيا وذل الاخرة بنفاقهم وجبنهم وخضوعهم للظلم والظالمين وحبّهم للحياة وتفضيلها على القتل في سبيل الله بين يدي سبط رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

لذلك، فإن موقف أهل الكوفة ينبغي أن يحذر من الوقوع في مثله المجاهدون المؤمنون لأنه موقف المتخاذلين الجبناء الذين لن يحصلوا على ما يأملون بنفاقهم وجبنهم لا في الدنيا ولا في الاخرة تماماً كأهل الكوفة الذين غدروا بالحسين عليه السلام فاستحقوا غضب الله بسبب مرضاة المخلوق حفاظاً على دنيا لم تدم لهم بل لم يحصلوا عليها كعمر بن سعد لعنه الله وشمر بن ذي الجوشن وغيرهما.

في مقابل هذا الموقف المتخاذل لأهل الكوفة نجد موقفاً مشرقاً ومشرفاً للشعب المسلم في لبنان وبالخصوص في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت الذين أعطوا المقاومة كل ما تريد من أجل أن تستمر في الجهاد والمقاومة. وتلاحم الشعب مع مقاومته الباسلة وصنع هذا التلاحم الرائع ذلك الانتصار المدوي والرائع والإلهي الذي كان مصداقاً لقوله تعالى:
﴿ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ 1، و﴿ إِنَّ


69


  اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ 2، وهكذا صار الشعب اللبناني ومقاومته مضرب المثل في الوحدة والتلاحم، وصار قدوة صالحة لكل الشعوب العربية والإسلامية الطامحة إلى الخلاص من نير العدو الصهيوني الغاشم كما تحررنا نحن وحررنا أرضنا أيضاً.


70


هوامش

1- آل عمران:103
2- الصف:4