الخطبة الأولى: صفات المتقين

روي أنّ صاحباً لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همّام كان رجلاً عابداً، فقال: يا أمير المؤمنين، صف لي المتّقين حتّى كأنّي أنظر إليهم.

فتثاقل عليه السلام عن جوابه، ثمّ قال: يَا هَمَّامٌ، اتَقِ اللهَ وَأحسِنْ فإنَّ اللهَ مَعَ الذينَ اتَقُوا وَالذِينَ هُمْ مُحْسِنُون. فلم يقنع همّام بهذا القول حتى عزم عليه، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ قال:

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ ولَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ.

فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ، مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ، ومَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ
1، ومَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ، غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ، ووَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ، نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ


105


ِفي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ2، ولَولَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ، وخَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ.

عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ والْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا
3 فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وهُمْ والنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ. قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ، وشُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ، وأَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ4، وحَاجَاتُهُمْ خَفِيفَةٌ، وأَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ.

صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً، أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً، تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ
5 يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ. أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا، وأَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا. أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا، يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ ويَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ6. فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً، وتَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً، وظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ. وإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ، وظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وشَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ7، فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ، مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وأَكُفِّهِمْ ورُكَبِهِمْ وأَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ، يَطْلُبُونَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ. وأَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ،


106


أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ. قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ8، يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى، ومَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ، ويَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا9، ولَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ.

لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ، ولَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ، فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ، ومِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ
10. إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ11 خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ، فَيَقُولُ: أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي، ورَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي، اللهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ، واغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ.

فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ، وحَزْماً فِي لِينٍ، وإِيمَاناً فِي يَقِينٍ، وحِرْصاً فِي عِلْمٍ، وعِلْماً فِي حِلْمٍ، وقَصْداً فِي غِنًى
12، وخُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ، وتَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ، وصَبْراً فِي شِدَّةٍ، وطَلَباً فِي حَلَالٍ، ونَشَاطاً فِي هُدىً، وتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ13. يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وهُو عَلَى وَجَلٍ، يُمْسِي وهَمُّهُ الشُّكْرُ، ويُصْبِحُ وهَمُّهُ الذِّكْرُ، يَبِيتُ حَذِراً، ويُصْبِحُ فَرِحاً، حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ، وفَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ والرَّحْمَةِ. إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ14 لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا


107


تُحِبُّ. قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ، وزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى15. يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ، والْقَوْلَ بِالْعَمَلِ. تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ، قَلِيلًا زَلَلُهُ، خَاشِعاً قَلْبُهُ، قَانِعَةً نَفْسُهُ، مَنْزُوراً أَكْلُهُ، سَهْلًا أَمْرُهُ، حَرِيزاً دِينُهُ16، مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ، مَكْظُوماً غَيْظُهُ. الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ، والشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ. إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ، وإِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ17. يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ، ويُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ، ويَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ. بَعِيداً فُحْشُهُ18، لَيِّناً قَوْلُهُ، غَائِباً مُنْكَرُهُ، حَاضِراً مَعْرُوفُهُ، مُقْبِلًا خَيْرُهُ، مُدْبِراً شَرُّهُ. فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ19، وفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ، وفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ. لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ، ولَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ20. يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ. لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ، ولَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ، ولَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ21، ولَا يُضَارُّ بِالْجَارِ، ولَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ، ولَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ، ولَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ. إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ، وإِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ، وإِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللهُ هُو الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ. نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ، والنَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ، أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ، وأَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ. بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ ونَزَاهَةٌ، ودُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ ورَحْمَةٌ، لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وعَظَمَةٍ، ولَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وخَدِيعَةٍ.


108


َقَالََ: فَصَعِقَ هَمَّامٌ صَعْقَةً كَانَتْ نَفْسُهُ فِيهَا22. فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام:

أَمَا واللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ أَهَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا! فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: فَمَا بَالُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟!
23فَقَالَ عليه السلام: وَيْحَكَ! إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ، وسَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ، فَمَهْلًا، لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا، فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ.


109


هوامش

1- ملبسهم الخ، أي أنّهم لا يأتون من شهواتهم إلّا بقدر حاجاتهم في تقويم حياتهم فكان الإنفاق كثوب لهم على قدر أبدانهم لكنّهم يتوسّعون في الخيرات.
2- نزلت الخ، أي أنّهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالأمل في الله كأنّهم كانوا في رخاء لا يجزعون ولا يهنون، وإذا كانوا في رخاء كانوا من خوف وحذر النقمة كأنّهم في بلاء لا يبطرون ولا يتجبّرون.
3- أي هم على يقين من الجنّة والنّار كيقين من رآهما، فكأنّهم في نعيم الأوّلى وعذاب الثانية رجاء وخوفاً.
4- نحافة أجسادهم من الفكر في صلاح دينهم والقيام بما يجب عليهم له.
5- يقال أربحت التجارة إذا أفادت ربحاً.
6- استئثار الساكن هيجه، وقارئ القرآن يستشير به الفكر الماحي للجهل فهو داؤوه.
7- زفير النّار؛ صوت توقّدها، وشهيقها الشديد من زفيرها كأنّه تردّد البكاء أو نهيق الحمار، أي أنّهم من كمال يقينهم بالنّار يتخيّلون صوتها تحت جدران آذانهم، فهم من شدّة الخوف قد حنوا ظهورهم وسلّطوا الانحناء على أوساطهم، وفكاك الرقاب خلاصها.
8- القداح: جمع قدح- بالكسر- وهو السهم قبل أن يرشّ. وبراه: نحته، أي رقّق الخوف أجسامهم كما ترقّق السهام بالنحت.
9- خولط في عقله أي مازجه خلل فيه، والأمر العظيم الذي خالط عقولهم هو الخوف الشديد من الله.
10- مشفقون: خائفون من التقصير فيها.
11- زكى: مدحه أحد.
12- قصد أي اقتصاداً. والتجمّل: التظاهر باليسر عند الفاقة أي الفقر.
13- التحرّج: عدّ الشيء حرجاً أي إثماً أي التباعد عن طمع.
14- إن استصعبت: أي إذا لم تطاوعه نفسه فيما يشقّ عليها من الطاعة عاقبها بعدم إعطائها ما ترغبه من الشهوة.
15- ما لا يزول هو الآخرة وما لا يبقى هو الدنيا.
16- منزوراً: قليلاً. وحريزاً: حصيناً.
17- أي إن كان بين الساكتين عن ذكر الله فهو ذاكر له بقلبه، وإن كان بين الذاكرين بلسانهم لم يكن مقتصراً على تحريك اللسان مع غفلة القلب.
18- الفحش: القبيح من القول.
19- في الزلازل أي الشدائد المرعدة، والوقور الذي لا يضطرب.
20- لا يأثم الخ لا تحمله المحبّة على أن يرتكب إثماً لإرضاء حبيبه.
21- أي لا يدعو باللقب الذي يكره ويشمئز منه.
22- صعق: غشى عليه.
23- فما بالك لا تموت مع انطواء سرّك على هذه المواعظ البالغة، وهذا سؤال الوقح البارد.