الدرس الثاني عشر: الجمهور بالنظر إلى الخطيب

الجهة الثانية: الجمهور بالنظر إلى الخطيب

الجمهور بالنسبة للخطيب متعدّد الآراء متنوّع الأهواء. فلا بدّ للخطيب، كي يؤثّر على الجمهور، من أن يدرس بيئتهم وعاداتهم. فمن السامعين من يحبّ أن يكون الخطيب فصيحاً مفوّهاً ومنهم من يحبّه ذا أسلوب مبسّط إلى العاميّة أقرب ومنهم من يحترم الخطيب ويقدّره غاية التقدير فيعطيه كامل اهتمامه وخالص إصغائه، ومنهم من لا يعطيه أدنى اهتمام، فلا يتوجّه لما يقوله ولا يتهيّأ لسماع كلامه وكأنّ الخطاب ليس موجّهاً إليه، وفي مثل هكذا حالة لا بدّ من مراعاة بعض الأساليب الخطابيّة الخاصّة لجذب اهتمامهم وإلزامهم بالإصغاء والتوجّه.

فمن هذه الأساليب: أن يبتدرهم الخطيب بفعل غريب وغير مألوف عنهم، كأن يقوم بعمل مخالف لما اعتادوا عليه سابقاً. فإذا كان المتعارف عليه عندهم صعود المنبر إلى أعلى درجة صعد هو إلى بعضه أو بالعكس. أو يخطب فيهم واقفاً إن جرت العادة أن يخطب فيهم من جلوس. وربما لزم الأمر أن يأت بكلمات غريبة في مستهلّ الخطبة لإثارة اهتمامهم كما يذكر بعض المفسّرين أنّ ذلك قد حصل


97


مع رسول الله صلوات الله عليه وعلى آله حينما: ﴿قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ1.

فربما صفّقوا وربما صفّروا وربما غلطوا فيه ليغلطوا النبيّ في تلاوته فأنزل الله تعالى في مستهلّ بعض السور الحروف المقطّعة التي كانت تثير استغرابهم مثل:
﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيه و﴿كهيعص ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا و﴿عسق و﴿حم وما شابه ذلك فإنّهم كانوا حينما يلغون ويصفّقون كي لا يسمعوا، يبدأ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة هذه الحروف تدريجيّاً فيجدون أنفسهم في وضع جديد وغريب فلا يملكون أنفسهم عن الإنصات وهم يحسبون أنّ محمّداً قد فقد عقله فيأتيهم كلام الله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ...2.

ومنها:
أن يثير الخطيب في مستمعيه انفعالاً نفسيّاً أوّل الأمر كالخوف أو الغضب أو الفرح والسرور أو الانزعاج والتذمّر أو أن يخبرهم خبراً مشوّقاً ومثيراً ثمّ يعدهم بالتفاصيل و أنّه سيوضح لهم الأمر خلال الخطبة. فينتظرونه بشوق.

أو أن يروي لهم حادثة طريفة تضحكهم فتقبل أنفسهم على الاستماع إليه.

وقد يبدأ الخطيب بما يزعج المستمعين وهذا قليل ولا يحصل النفع منه إلّا إذا كان الخطيب أمير القوم وقائدهم ممّا لا بدّ للجمهور من الاستماع إليه والانصياع لأوامره، وذلك كما كان يصنع الحجّاج بن


98


يوسف الثقفيّ حيث كان يبدأ خطبته بقول الشاعر:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا                متى أضع العمامة تعرفوني3

والأسلوب الأكثر نفعاً في مسألة الانفعالات النفسيّة استعمال ما يسمّى عند علماء الخطابة بالأقاويل الخلقيّة وهي "الأقاويل التي تحملهم على أن يتخلّقوا بأخلاق ما وإن لم تكن فيهم، وتتصوّر أنفسهم بصورة أهل العلم بالشي‏ء، وتفعل أفعال من له تلك الأخلاق وتلك العلوم وإن لم يكن لهم شي‏ء من ذلك"4.

"وذلك يحصل بادعاء المتكلّم أنّ قوله إنّما يتضح لذوي الفكر الثاقب والذهن السليم عن وساوس المضلّين، مثل ما كان يستعمله جالينوس الذي يتكلّم بالطب"5.

أو أن يقول لهم الخطيب أوّل كلامه أنّه متعجّب من نفسه فهذه أوّل مرّة يخطب في قوم وترتاح نفسه هكذا ارتياح، "ولا أظنّ ذلك إلّا لأنّ الذين أقف بين أيديهم خطيباً هم من أهل العلم والوعي والإيمان والتديّن وممن يعرفون قيمة العلم والمعرفة".

ومنها:
إظهار أنّ الأمر الذي يتكلّم فيه أمر عظيم ومهمّ وذلك بأن يقدّم في مستهلّ كلامه مقدّمة تحتوي على تعظيم الأمر الذي فيه وتفخيمه وتصغير ضدّه وتهوينه"6.

و أمّا الجمهور الذي يحبّ المدح والإطراء فلا بأس بأن يمدحهم


99


الخطيب بما يتناسب مع غرضه، كأن يثني على علمهم وحبّهم للمعرفة إذا كان يخطب فيهم يحثّهم على العلم والتعلّم أو يمدح شجاعتهم وأخلاصهم إن كان يريد منهم التوجّه إلى ساحة الحرب أو يمدح وطنيّتهم وحبّهم للوطن وتفانيهم من أجله إن كان يريد أن يحملهم على موقف سياسيّ معيّن وهكذا.

وليس أفسد على الخطيب من ابتداء كلامه بذم ّالجمهور والحطّ من قدره وتعنيفه ولو كان ذلك حقّاً وصدقاً فإنّ استقبالهم بالذمّ يذهب من نفوسهم حبّ التوجّه ورغبة الاستماع.

فإن كان لدى الخطيب حاجة في تأنيبهم على أمر بدر منهم يمكنه أن يستعمل في مطاوي كلماته أسلوب التعريض دون التصريح "وذلك بأن ينسب الفعل إلى واحد والمراد غيره"7فيتكلّم عن جماعة من الناس دون تسميتهم ويصفهم بأنّ فيهم الخصال التي يريد أن يذمّها ويظهر قبحها. وأنّ هؤلاء قد يكون بعضهم ضمن الحاضرين، أو ربما لا يوجد أحد منهم، و أنّهم قلّة، و أنّهم لا قيمة لهم ولا وزن عند الناس"8.

والخلاصة أنّ التجاوب النفسيّ بين الخطيب والجمهور أمر أساسيّ ولا بدّ منه. فلو حصل من الخطيب ما ينافي ذلك من أذيّة أو تضجير فإنّه لن يجني من خطبته إلّا الفشل والخيبة والخسران. ولمهارة وبراعة الخطيب هنا مجال واسع حيث يمكنه قبل الشروع بالخطبة الاستعلام عن حال الجمهور والاطلاع على خصائصه وعاداته وما يحبّ وما لا يحبّ وأن يرسم خطّته للدخول إلى قلوب مستمعيه قبل الوقوف على المنبر حتى إذا وقف عليه أخذ يطبّقها على أكمل وجه.

ولا أزال أذكر أن أحد العلماء خطبنا بخطبة في أيّام عاشوراء


100


من إحدى السنوات وكان لها الأثر الكبير في نفوسنا ولا أزال أذكر أنّه حينما اعتلى المنبر كان الجوّ السائد غير ملائم على الإطلاق، وشوشات وضحكات، ذهاب وإياب، وهمس ودندنة في كلّ اتجاه ولكنّه وقف صامتاً لا يأتي بأيّ حركة سوى النظر في وجوهنا صامتاً كأنّه ينتظر نزول الوحي حتى أخذ منّا العجب من هذا الخطيب مأخذه فأنصت المجلس أيّما إنصات وعلامات الفضول على وجوهنا نسائل أنفسنا ماذا دهى هذا الشيخ؟ حتى إذا وجد الجوّ ملائماً بدأ كلامه مفتتحاً بالحمد والثناء ثمّ قدّم مقدّمة عن أهميّة الذكرى وأهميّة الحسين عليه السلام وكم يجب أن نحترمه ونحترم ذكراه ومجلسه وهكذا أكمل مستمرّاً بأسلوب سلس وعبارة واضحة حتى أخذ بمجامع قلوبنا وأوصلنا إلى الهدف الذي حدّده لنا.

ولا يظنّن خطيب أنّ بإمكانه أن يصل إلى مبتغاه في إقناع المخاطب ما لم يراع هذه الجوانب التي هي على قدر كبير من الأهميّة.


الجهة الثالثة: الجمهور بالنظر إلى الإلقاء

ليس للأسلوب الذي يتبنّاه الخطيب درجة معيّنة من القبول عند أنواع الجمهور بل لكلّ جمهور ذوق خاصّ وحالة مميّزة تجعله يقبل أسلوباً ويرفض آخر. فالأسلوب الحماسيّ يضحك الشيوخ ويثير تهكّمهم وسخريتهم، والأسلوب الرصين يضجر الشباب والناشئين. فلا بدّ من معرفة أخلاق وأهواء الجمهور وأذواقه وما هو المقبول لديهم وما هو المرفوض عندهم وما هو المؤثّر عليهم دون سواه كي يتمكّن الخطيب

على ضوء ذلك من تهيئة وإعداد ثمّ إلقاء خطابه بالشكل الذي يتناسب معهم كي لا يكون كطاحن الماء أو ناقل الهواء.


101


هوامش

1- فصّلت:26.
2- الميزان في تفسير القرآن، الطباطبائيّ، ج18، ص7 بتصرّف.
3- تاريخ ابن عساكر، ج4، ص52.
4- الخطابة، الفارابيّ، ص14.
5- الحكمة العروضيّة، ابن سينا، 21 و22.
6- الخطابة، الفارابيّ، ص35.
7- مختصر المعانيّ، الفارابيّ، طوفا، ص140.
8- المنطق، الشيخ المظفّر، ص421.