الفصل الأوّلّ:الخطيب
تتعرّف في هذا الفصل على:
منزلة الخطيب عند المخاطب
سلوك الخطيب في نظر المخاطب
مقدّمات إلقاء الخطاب
الواجب فعله حال إلقاء الخطاب

11


الدرس الأوّل: الجهة العامّة للخطيب

وهي التي تبحث عن الحالة العامّة للخطيب بمعنى أنّها لا تختصّ بحال الخطاب وإلقاء الكلام بل تتعرّض لحالات الخطيب عموماً وماذا يجب عليه أن يفعل قبل حال الخطابة كي يستطيع التأثير على الجمهور بالشكل المطلوب، ويبحث فيها عن نقطتين رئيستين:

النقطة الأوّلى: منزلة الخطيب عند المخاطب

ممّا يزيد في تأثير هذا الأسلوب أي الخطابة على الجمهور منزلة الخطيب في نفوس سامعيه1. فلمعرفة شخصيّة الخطيب الأثر البالغ في التأثير على المخاطب. وذلك فيما إذا كان له شخصيّة محترمة سعى في إيجادها قبل أن يخاطب الناس ويطلب منهم الاقتناع بما يقوله. فلمعرفة منزلته تأثير كبير في سهولة انقياد المستمعين إليه والإصغاء له وقبول قوله، فإنّ الناس


13


 تنظر إلى من قال لا إلى ما قيل. وذلك بديهيّ، إذ أنّهم إذا عرفوا أن الخطيب الذي يتحدّث إليهم هو العالم الفلانيّ أو القائد الكذائيّ أو الوجيه الفلانيّ فإنّهم ينصتون أكثر ممّا ينصتون لرجل عادي وتؤثّر كلماته فيهم بشكل أكبر من تأثير كلمات أخطب الخطباء فيما لو كان مجهولاً إلّا ما ندر من الحالات ممّا هو على خلاف ذلك.

والمنزلة الجيدة يكتسبها الخطيب في الحياة العامّة من كسب علم أو منصب أو نبوغ في ميدان من الميادين الحياتيّة المحبّبة إلى الناس.

ثمّ إنّ معرفة هذه المنزلة أو فلنقل تعريف المخاطب على هذه المنزلة(وهي أمر مهمّ و إلّا لا يتحقّق المطلوب)تحصل بإحدى طريقتين:

الطريقة الأوّلى:

الأسلوب الذي كان متّبعاً قديماً. وهو أن يبدأ الخطيب بتعريف نفسه، حسبه ونسبه إن كان له ما يتشرّف به منهما. أو يثبت لنفسه فضيلة يكون بها أهلاً لأن يصدّق، كما قال تعالى حاكياً عن هود عليه السلام2:
﴿وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ3.

فإنّ ذلك يستدعي احترام المستمعين وإقبالهم عليه. وكذلك


14


 لو أثبت لنفسه فضيلة لا يمكن لأحد نكرانها. أو نفي سيئة عنها ما نجا منها إلّا أصحاب الفخر والفضل كأن يقول: "أيها الناس، اعلموا أنّي أنا من لا يعرف الفرار ولا النكوص". ونحو ذلك.

ولذلك نجد كثيراً من الخطباء القدامى كانوا يبدأون خطابهم بقول: "أيّها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرّفه بنفسي. أنا فلان بن فلان، فاعل كذا وكذا، تارك كذا وكذا... وهكذا".

ولنعطك على ذلك أمثلة حيّة. استمع إلى قول السيّدة الزهراء عليها السلام في خطبتها الشهيرة التي ألقتها في مسجد الرسول صلى الله غليه وآله وسلم في المدينة بحضور الخليفة الأوّل تطالبه بحقّها من ميراث أبيها، حيث قالت في مستهلّ كلامها: "أيّها الناس، اعلموا أنّي فاطمة، وأبي محمّد صلى الله غليه وآله وسلم أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً"4.

ومن ذلك أيضاً قول بعلها عليّ بن أبي طالب عليه السلام في مستهلّ خطبة يعظ بها الناس ويبلغهم فيها أحكام الله: "تالله لقد علمت تبليغ الرسالات وإتمام العدات وتمام الكلمات وعندنا أهل البيت أبواب الحكمة وضياء الأمر"5.

فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ المخاطب بعد أن يعلم أنّ المتحدّث إليه


15


 لا يقول غلطاً أو يعلم أنّ المتكلّم معه خبير في تبليغ الرسالات، وعنده العلم بالأحكام، سيتوجّه إلى استماع ما يقوله غاية التوجّه وبالتالي يكون مجال إقناعه بما يراد إقناعه به أكبر وأسهل.

الطريقة الثانية:

وهي الطريقة المتّبعة حاليّاً، وهي أن يأتي شخص آخر يسمّى بالمعرِّف أو عريف الحفل فيُطلع الحاضرين على مكانة وقدر المتكلّم ويبيّن لهم منزلته وعظم أمره ويعدِّد له فضائله ويشوّقهم إلى ما سيقوله لهم ثمّ يمدح الموضوع الذي سيتكلّم الخطيب فيه. وبكلمة أخرى يمهّد للخطيب أرضيّة الإلقاء المثمر. ولكن هذا الأسلوب يكاد يهجر لأنّ المعرِّف بات يهتمّ بتبيين منزلة الخطاب أكثر من اهتمامه بتبيين منزلة الخطيب بل ربما لا يشير إلى الخطيب إلّا بذكر اسمه أو لقبه.

والمعرِّف لا بدّ له من إجادة الخطابة أيضاً كي يتمكّن من تقديم الخطيب إلى الناس بالشكل المطلوب الذي يترك فيهم التأثير ويهيئهم للاستماع إليه والإقبال عليه. ولا بدّ للمعرِّف من أمور:

1- أن يكون صوته جهوريّاً عاليّاً مسموعاً لجميع الحاضرين.
2- أن يتكلّم بهدوء وكأنّه يلقي الشعر على مسامعهم.
3- عليه أن يهتمّ بمخارج الحروف وإتقان التلفّظ بالكلمات بشكل سليم وواضح وقوي.


16


4- أن يستعمل العبارات الجزلة الفخمة حتّى كأنّه يقول شعراً إذ أنّ التعريف أشبه شيء بالشعر الحديث فلا بدّ أن يشتمل على تشابيه وكنايات واستعارات بشكل مناسب.
5- عليه أن يُلبس كلامه ثوباً من البديع بأن يطعّمه بشيء من السجع العفويّ المطلوب أو بقليل من الجناس وما شابه ذلك.
6- عليه أن لا يطيل الكلام وألاَّ يكون قد أخذ دور من يقوم بتقديمه للجمهور لإلقاء الخطاب، فإنّ هذا يثير اشمئزازهم.

النقطة الثانية: سلوك الخطيب في نظر المخاطب:

إنّ قناعة المستمع بسلوك الخطيب لها مزيد التأثير في إمكان إقناعه وعدمه فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ الخطيب إذا أراد أن يثبت أمراً ما ويقنع به الناس لا بدّ أن يكون مقتنعاً به أوّلاً وقبل الآخرين. فإذا كانوا يعلمون أنّ سلوكه على خلاف ما يقوله فسوف لن يكون لكلامه أيّ تأثير فيهم. إذ كيف يقنعهم بحسن قول الصدق والابتعاد عن الكذب مثلاً في حال أنّهم يعلمون أنّه من أوّل الكذّابين. أم كيف يقنعهم بضرورة الاستبسال في الحرب وهو المعروف عندهم بأنّه جبان. وكيف يطلب منهم أن يزهدوا في الدنيا وهو مقبل عليها؟ فإنّ هكذا خطيب لن يحصد


17


من كثرة كلامه إلّا التعب والنصب، هذا إن لم يستهزئوا به بل ربما ضربوه ببعض ما تيسّر لهم من القمامة.

وأحسن مثال يضرب لتبيين تناسب سلوك الخطيب مع كلامه ومدى تأثيره عليهم خطبة الحجّاج بن يوسف الثقفيّ في أهل العراق، وما جاءت به من أثر عجيب أدّى إلى إذعان الجميع لأمره وأمر خليفته بعد أن عجزت الدولة الأمويّة عن ضبط أمور العراق وكبت الفتن والمشاكل التي ما تكاد تخبو حتى تهبّ من جديد.

فقد جاء في تاريخ ابن عساكر6 ، وفي صبح الأعشى7 ما حاصله:

"قدم الحجّاج أميراً على العراق وقد دخل المسجد معمّماً بعمامةٍ قد غطّى بها أكثر وجهه متقلّداً سيفاً متنكّباً قوساً يؤمّ المنبر، فقام الناس نحوه حتى صعد المنبر فمكث ساعة لا يتكلّم وهم لا يعرفونه، فقال الناس بعضهم لبعض: "قبّح الله بني أميّة حيث تستعمل مثل هذا على العراق".

حتى قال عمر بن ضامئ الرجميّ: "ألا أحصبه8 لكم"؟

فقالوا: "أمهل حتى ننظر".

فلمّا رأى عيون الناس إليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال:


18


أنا ابن جلاّ وطلاّع الثنايا               متى أضع العمامة تعرفوني

يا أهل الكوفة أمّا والله أنّي لأحتمل الشرّ بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله وإنّي لأرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإنّي لصاحبها وإنّي لأنظر إلى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى، قد شمّرت عن ساقيها فشمّر9.

فإنّ كلامه هذا مع ما كان قد اشتهر عنه من الظلم والقسوة، و أنّه من أشدّ الناس حبّاً لسفك الدماء، وأنّه من أقسى الناس قلباً، حتى قيل أنّه لم يأخذ ثدي أمّه ليرضعه حينما كان طفلاً إلّا بعد أن لُطِّخ بدم شاة، قد عمل فيها عمله وأخافهم من بطشه وسطوته المعروفين.

وممّا يدلّ على مدى تأثيره فيهم ما جاء في كتاب قصص العرب10 بعد إيراد خطبته المتقدّمة من أنّه قال: "يا غلام، اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين".

فقرأ: "بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين... سلام عليكم...".

فلم يقل أحد منهم شيئاً فقال الحجّاج: "أكفف يا غلام".

ثمّ أقبل إلى الناس فقال: "سلّم عليكم أمير المؤمنين فلم تردّوا عليه شيئاً، هذا أدب ابن نهية11 أمّا والله لأؤدبنّكم غير هذا


19


 الأدب أو لتستقيمنّ، اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين".

فلمّا بلغ إلى قول سلام عليكم لم يبق أحد في المسجد إلّا قال: "وعلى أمير المؤمنين السلام".

وهذا يدلّ بشكل واضح على مدى تأثير كلامه عليهم وما ذلك إلّا لما ذكرنا من التناسب بين السلوك والقول، ولذلك ترى أن خطبه الوعظيّة لم يكن لها ذلك الأثر على أحد، بل كانت موضع اشمئزاز وتعجّب، استمع إلى ما ورد من مثال لعدم التناسب بين سلوك الحجّاج وخطبه الوعظيّة.

خطب الحجّاج يوماً فقال: "أيّها الناس، قد أصبحتم في أجل منقوص وعمل محفوظ..." إلى أن قال: "هذه شمس عاد وثمود وقرون كثيرة بين ذلك، هذه الشمس التي طلعت على التبابعة والأكاسرة وخزائنهم السائرة بين أيديهم وقصورهم المشيدة ثمّ طلعت على قبورهم. أين الملوك الأوّلون؟ أين الجبابرة المتكبّرون؟ المحاسب الله، والصراط منصوب، وجهنم تزفر
وتتوقّد، وأهل الجنّة ينعمون في روضة يحبرون، جعلنا الله وإيّاكم من الذين إذا ذكِّروا بآيات الله لم يخرّوا عليها صمّاً وعمياناً".

فكان الحسن البصريّ يقول: "ألا تعجبون من هذا الفاجر؟ يرقى عتبات المنابر، فيتكلّم كلام الأنبياء وينزل فيفتك فتك الجبّارين. يوافق الله في قوله، ويخالفه في عمله"؟12


20


وبما أنّ الحسن البصريّ وغيره من أهل العراق وساكنيه ممّن حضر خطبته لم يكونوا ليجرؤوا على معارضة الحجّاج والردّ عليه لم يجيبوه بما يستحقّه من الجواب ويسخروا منه. أمّا لو كان المتكلّم غيره لكان لقي جزاءه موفوراً كما حصل للضحّاك بن قيس حين خطب في أهل الكوفة أنفسهم فقال: "بلغني أنّ رجالاً منكم ضُلاَّلاً يشتمون أئمّة الهدى ويعيبون أسلافنا الصالحين، أمّا والذي ليس له ندٌّ ولا شريك، لئن لم تنتهوا عمّا بلغني عنكم لأضعنّ فيكم سيف زياد، ثمّ لا تجدوني ضعيف السورة، ولا كليل الشفرة. أمّا أنّي لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فكنت أوّل من غزاها في الإسلام، وشرب ماء الثعلبيّة ومن شاطئ الفرات، أعاقب من شئت وأعفو عمّن شئت. ولقد ذَعرْتُ المخدَّرات في خدورهنّ وإن كانت المرأة ليبكي ابنها فلا ترهبه ولا تسكته إلّا بذكر اسمي. فاتقوا الله يا أهل العراق. أنا الضحّاك بن قيس أنا قاتل عمرو بن عميس".

فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد الأزديّ فقال: "صدق الأمين وأحسن القول. وما أعرفنا والله بما ذكرت. ولقد لقيناك بغربيّ تدمر فوجدناك شجاعاً مجرّباً صبوراً.

ثمّ جلس وهو يقول: " أيفخر علينا بما صنع ببلادنا أوّل ما قدّم؟ وأيم الله لأُذكِّرنه أبغض مواطنه إليه".

ويعني بأبغض مواطنه أنّه حينما أغار الضحّاك على الحيرة


21


 أرسل له عليّ عليه السلام جنوداً كثيرين منهم عبد الرحمن بن عبيد هذا فهرب الضحّاك فأدركوه وقتلوا أصحابه ثمّ أوغل في الفرار فلم يلحقوه.

فسكت الضحّاك قليلاً وكأنّه أخزى واستحى ثمّ قال وبكلام ثقيل: "كان ذلك اليوم بآخره"13 ثمّ نزل.


22


خلاصة الدرس


23


الدرس الثاني: الجهة الخاصـّة للخطيب

يقع البحث عمّا يجب على الخطيب فعله حال الإلقاء أو قبله، والكلام فيها من جهتين أو فلنقل في موضعين:

الموضع الأوّل: مقدّمات إلقاء الخطاب وهي ثلاث مقدّمات رئيسيّة:

الأوّلى: الاطلاع على أصول فنّ الخطابة وحفظ قواعده والسعي لتطبيقها أثناء إلقاء الخطاب مهما أمكن، فإنّ ذلك أمر أساسيّ لمن يريد أن يصبح خطيباً ناجحاً. و أمّا أولئك الذين يخطبون في الناس دون أن يسيروا على هدى من أمرهم ودون أن يعرفوا ما يجب فعله وما يجب تركه فأولئك سيبقون خطباء فاشلين مدى عمرهم. وإن وصلوا فسوف يصلون متأخرين بعد أن يكونوا قد أفنوا كثيراً من عمرهم في التعلّم من التجارب.

الثانية: كثرة المطالعة والتمعّن في كلّ ما يقرأ وحفظ أكبر


25


 قدر ممكن من القرآن ونهج البلاغة مع الاطلاع التامّ على معنى ما يحفظ، وعلى المناسبة التي نزلت فيها الآية، وألقيت فيها الخطبة، وعلى ما ورد فيها من محطّات بيانيّة أو مفردات لغويّة فصيحة أو تراكيب بليغة إلى ما هنالك من أمور تساعد من يطّلع عليها في طلاقة اللسان وحسن التعبير عن المقصود، ويعطيه مخزوناً من الألفاظ والمعاني الجميلة التي لا غنى في هذا المضمار عنها.

وقد أكّد ابن الأثير على ذلك في كتابه "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر" حيث قال: "إنّ في الاطلاع على أقوال المتقدّمين من المنظوم والمنثور فوائد جمّة، لأنّه يعلم منه أغراض الناس ونتائج عقولهم، يعرف به مقاصد كلّ فريق منهم وإلى أين ترامت به صنعته في ذلك. فإنّ هذه الأشياء تشحذ القريحة وتقوّي الفطنة... فإنّه إذا كان مطّلعاً على المعاني المسبوق إليها قد ينقدح له من بينها معنى غريب لم يسبق إليه"14.

ثمّ إنّ من يريد أن يكون خطيباً ناجحاً فعليه أن يطّلع على مقدار جليل من العلوم خصوصاً السيرة والتاريخ والأخلاق والتفسير وأصول الفقه والسياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس والمنطق، بالإضافة إلى جمع المعلومات المتفرّقة الذي يحصل بالإكثار من مطالعة المجلّات التي تحتوي على مباحث دقيقة


26


 وإحصائيّات ذات أرقام موثوقة وأخبار العالم الإسلامي وحتى غير الإسلامي، فإنّ الخطيب يحتاج إلى كثرة الاطلاع من جهة، وإلى حفظ أهمّ ما يقرأه من جهة أخرى، وقد نقل الجاحظ في البيان والتبيين عن الخليل بن أحمد الفراهيديّ أنّه قال: "تكثّر من العلوم لتعرف، وتقلّل منها لتحفظ"15.

وكلّما ازداد المخزون الثقافيّ عند المرء ازدادت قدرته على اكتساب ثقة الناس الذين يستمعون لكلماته.

الثالثة: المران والممارسة. فإنّه ما من علم إلّا ويحتاج صاحبه للممارسة والتمرين و إلّا فسوف يأتي عليه يوم يرى نفسه فيه وحيداً نضب ما كان له من ماء علم، وجفّ ما كان لديه من معين فنّ. وربما أعطت الممارسة ما لا يمكن أن تعطيه المطالعة أو الدراسة، إذ قد يتوصّل المتمرّس إلى قواعد جديدة ونظريّات حديثة، ويحصل على ملكات خطابيّة لا يمكن تحصيلها إلّا بكثرة التجارب في هذا الحقل.

ولا أدلّ على ذلك ممّا نشاهده ونلمسه من أن الإنسان الذي يقف على المنبر لأوّل مرّة يرى فيه ارتباك واضطراب ظاهران، ولا يقدر على أداء ما لديه من معلومات بشكل مطلوب ولو كان عالماً متبحّراً.


27


و أمّا من تمرّس على صعود المنابر وإلقاء الخطب وتعوّد على مقابلة الناس والتحدّث إلى الجماهير والإقبال عليهم بوجهه فنراه يهدر كالسيل الجارف، بل لا يكاد يتمّ عبارة جيدة إلّا ويبدأ بأخرى أجود، وهكذا إلى أن يشغف الجمهور بقوله ويأنس بكلامه ويتمنّى المستمعون لو أنّ خطبته تلك ليس لها نهاية.

وقد أطلعني أحد المعارف العلماء أنّه بينما كان يحضر حفلاً خطابيّاً قد دعي إليه كبار الخطباء في إيران جاءه أحد الأشخاص سائلاً إيّاه عن تفسير إحدى الآيات. فشرحها له بما حضره وما هي إلّا دقائق حتى ارتقى ذلك الشخص المنبر وبدأ خطاباً حول معنى تلك الآية وما يرتبط به من أمور، وهو يتدفّق كالشلّال بأسلوب رزين وحركات محكمة ونظرات موزّعة والناس مشدودون إليه وكأنّ على رؤوسهم الطير، حتى أنّني قد أعجبت به وكدت أشكّك في نفسي بأنّ الذي فسّر الآية لم يكن إيّاي. وهذا يشير بوضوح إلى أهميّة الممارسة والمران.

أمّا أمثلة تأثير الممارسة على متعلّم الخطابة فكثيرة نكتفي بمثالين:

المثال الأوّل:

ديموستين أحد أخطب اليونانيّين القدامى وقد قيل إنّه حينما حاول التكلّم على المنبر لأوّل مرّة أثار في سامعيه غريزة الضحك وأخذوا يسخرون منه، إلّا أنّه صمّم على أن يكون خطيباً وأخذ


28


 يتمرّن على الخطابة إلى أن وصل إلى مرتبة من التمكّن منها أمكن معها القول أنّه خطيب اليونانيّين الأوحد.

المثال الثاني:

ما يحكى عن فضيلة الشيخ أحمد الوائليّ وهو من مشاهير الخطباء المسلمين المعاصرين في ميدان الخطب الدينيّة بل بعض أنواع المحاضرات العلميّة أيضاً فقد نقل أنّه قال عن نفسه أنّه حينما حاول الخطابة لأوّل مرّة ضحك منه زملاؤه الذين كانوا يشاركونه درس الخطابة. ولكنّنا نرى أنّه بالممارسة والمثابرة وصل إلى مرتبة يغبط عليها، ومدح من كبار العلماء.
و أمّا بالنسبة لما قيل من لزوم وجود ما سمّي بالإستعداد الفطريّ للخطابة عند من يريد أن يصبح خطيباً فليس لذلك أساس من الصحّة، إذ يمكن لأيّ إنسان وطّد نفسه على أن يصبح خطيباً وعزم على تحمّل المشاق من أجل خطب ودِّها وسعى لذلك دون يأس أو ملل محاولاً جهده تعلّم فنونها وتطبيق قواعدها، فإنّه سينالها لا محالة ولو لم يكن عنده ذلك الإستعداد المزعوم.

الموضع الثاني: ما يجب فعله حال إلقاء الخطاب.

أوّلاً: لا بدّ من ذكر ثلاث توصيات نقدّمها للخطيب كي ينتفع بها في هذا المجال وهي:

الأوّلى: من المستحسن للخطيب ألاّ يكون جائعاً فارغ المعدة


29


 ولا شبعاناً متخماً. فإنّ لكلّ منهما أثراً سلبيّاً عليه. فالشبع يمنعه من أن يتمتّع بصوت عال ونفس طويل، بل قد تتلبّد أفكاره ويأخذه النعاس فيتثاءب وحينئذٍ يفقد الخطاب رونقه وتأثيره على الناس، كما أنّ الجوع يمنعه من التمادي في الكلام، ومن تناسق الصوت، فإنّ البدن يعطي جهداً حال الخطاب خصوصاً إذا كان هناك حاجة للصوت العالي. فلو كانت المعدة خالية لا يمكن للجسم أن يتحمّل جهداً كبيراً كما هو ظاهر وواضح.

الثانية: يحسن به أيضاً أن يكون مرتدياً ما يناسب جوّ الحفل من البرودة والحرارة و إلّا أخذته رعشة القرّ فمنعته عن حريّة التكلّم أو أصابه الحرور فتصبّب عرقاً ممّا يجعل المستمعين يعدّون ذلك خجلاً منه وارتباكاً، وهما عيبان في الخطيب.

الثالثة: يحسن به أيضاً قبل حال التكلّم أن يدخل إلى بيت الخلاء ويقضي حاجته كي لا تصيبه المدافعة حين التكلّم فيضطر أن يقصّر خطبته فيخلّ بالمطلوب أو يضطرّ إلى أفعال أخرى لا تليق به. وممّا لا يشكُ فيه أن ذلك له تأثير قويٌّ على التفكير.

ثانياً: أمّا ما يجب فعله حال الخطاب يمكن حصره في سبع مسائل:


30


المسألة الأوّلى: يجب أن يكون الخطيب مستحضراً كلّ النقاط التي يريد أن يتعرّض لها فيما لو كان خطابه ارتجاليّاً وذلك بأن يكون قد نسق أفكاره التي يريد أن يطرحها ورتبها مسبقاً. فلا بدّ أن يقدم ما حقّه التقديم ويؤخّر ما حقّه التأخير ويهيّئ لذلك بعض الألفاظ المعيّنة يستعين بها حال الإلقاء تكون كمخزون لغوي عنده. ولا بدّ أن يكون مستذكراً الكلام الذي يريد إلقاءه كي لا يأخذه حصر الكلام فيصيبه العيّ كما حصل مع كثيرين أمثال مصعب بن حيّان حين دعي لإلقاء خطبة في مناسبة عقد نكاح ولمّا وقف للتكلّم أخذه العيّ وارتبك وتشتّت أفكاره فنسي ما كان يريد قوله فإذا به يقول: "لقنّوا موتاكم شهادة أن لا إله إلّا الله".

فغضبت أمّ العروس أشدّ الغضب وقالت له: "عجّل الله موتك ألهذا دعوناك".

فضحك الناس جميعاً16.

ولو لم يكن الخطيب مستعدّاً ومستحضراً أفكاره لواجه أحد أمرين:

1. أن يقول ما لا يريد قوله، وقد يكون ثمن ذلك غالياً، بأن يتلفّظ بألفاظ لا يريدها تضع من شأنه ، أو يتلفّظ بما يكون مستمسكاً عليه لخصومه فيفسح لهم المجال للحطّ من قدره وسمعته، أو يتكلّم بما يثير السخرية والاشمئزاز كما حصل لأحد الخلفاء العبّاسيّين حينما صعد المنبر


31


 لإلقاء خطبة الجمعة وقد كان على نزاع مع زوجته إثر خلافات وقعت بينهما فخرج وهو يفكّر بطلاقها، وحينما استوى على المنبر قال: " أمّا بعد..." فانعقد لسانه ونسي ما كان يريد أن يقوله فما نطق إلّا بقول: "زوجتي فلانة طالق". فضحك الناس منه ضحكاً شديداً.

2. أن يترك المنبر دون أن يتكلّم بشيء وسط جوّ من اشمئزاز الجمهور وسخريته. اللهم إلّا إذا كان حادّ الذهن متوقّده فإنّه قد ينجو بنفسه بأن يورد كلاماً أخر غير ما كان يريد قوله أوّلاً.

وقد اتفق ذلك لكثيرين من الخطباء المشهود لهم17 ومنهم ثابت قطنة18 أحد أمراء سجستان حيث صعد المنبر يوم الجمعة فنسي ما كان يريد قوله وارتجّ عليه وظهر ذلك للناس فتدارك قائلاً: "سيجعل الله بعد عسر يسراً وبعد عيّ بياناً، وأنتم إلى أمير فعّال أحوج منكم إلى أمير قوال: وأنشد:

فإلّا أكن فيكم خطيباً فإنّني             بسيفي إذا حدَّ الوغى لخطيب19

ويقال أنّه لمّا وصل نبأه إلى خالد بن صفوان قال: "والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه".


32


خلاصة الدرس





 

 


33


الدرس الثالث: ما يجب فعله حال الإلقاء: 1

المسألة الثانية: الإهتمام بالمظهر الخارجي

الاهتمام بالمظهر الخارجيّ للخطيب بحيث يظهر أمّا مهم بما يدعو إلى تقديره واحترامه والوثوق بقوله وبما يتناسب مع ما يريد أن يقوله. وذلك يحصل بأمرين:

الأمر الأوّل: لباسه وهندامه.

من اللازم على الخطيب أن يعرف نفسيّات المجتمعين وما يجب على مثله أن يظهر به بينهم. فقد يقتضي المقام أن يظهر الخطيب بأفخر لباس وأحسن بزّة ما يليق به.

وقد يقتضي أن يظهر بمظهر متواضع كزاهد أو ناسك. وذلك يختلف باختلاف الدعوة التي يدعو إليها وباختلاف طباع الحاضرين. فكثير من الواعظين يتأثّر الناس بهم بمجرّد النظر إليهم قبل أن يتفوّهوا بكلمة.

ألا تعتقد أنّ خطيباً على الهيئة التي يصفها نوف البكاليّ


35


حيث يقول في مستهلّ خطبة من خطب أمير المؤمنين عليه السلام قبل أن يرويها: "خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بالكوفة وهو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزوميّ وعليه مدرعة من صوف وحمائل سيفه ليف وفي رجليه نعلان من ليف وكأنّ جبينه ثفنة بعير"20.

ألا تعتقد أنّ الخطيب الذي على هذه الهيئة سيؤثّر في سامعيه وعظه وحثّه لهم على الزهد والتقوى والتقشّف.

وكم من خطيب في مجالس ذكرى عاشوراء يدفع الناس بمجرّد مشاهدة هيئته إلى البكاء وقبل أن ينبسّ ببنت شفة.

ولا بدّ أيضاً للخطيب أن يظهر بما يليق به أمّا م الجمهور كي لا يثير تهكّمهم واشمئزازهم.

فمثلاً: لو كانت عمامة الخطيب مائلة أو كانت عباءته مقلوبة أو كان ثوبه ممزّقاً أو قميصه وسخاً وما شابه ذلك، فسوف لن يكون الأقدر على الإقناع ولا الأقوى في الحمل على الانقياد والاستماع.

الأمر الثاني: سحنة وجه الخطيب.

قال الفارابيّ: ومنها أي من الأمور التي لا بدّ منها للخطيب "سحنة وجه الإنسان أو شكله وشكل أعضائه ومنظره أو فعله عندما يتكلّم مثل أن ينذر بورود أمر مخوف قد قرب فيرى وجهه


36


 وجه خائف أو هارب"21.

وقد قال أبو عليّ ابن سينا في هذا المضمار: "و أمّا الحال المحسوسة غير القول كمثل من يخبر ببشارة، وسحنة وجهه سحنة مسرور مبتهج، أو يخبر بأطلال آفّة وسحنة وجهه سحنة مذعور خائف، أو ينطق عن تقرير بالعذاب أو الثواب"22.

فملامح وجه الخطيب وتقاطيع جبينه ونظرات عينيه وحركات يديه أمور معبّرة ومؤثّرة في السامعين فيما إذا استطاع أن يحسن التصرّف بها حسبما يريده البيان.

وبعبارة أكثر صراحة يجب على الخطيب أن يكون ممثّلاً في مظهره الخارجيّ وحركات حاجبيه ويبدو حزيناً في موضع الحزن وغليظاً فظّاً في موضع الشدّة.

بل ربما يجب عليه في بعض الأحيان أن يبكي أو يتباكى فيما لو دعت الحاجة إلى ذلك. ويبدو مسروراً مستبشراً في موضع السرور. ويبدو بمظهر الواثق من قوله المؤمن بدعوته في موضع يتطلّب ذلك.


37


خلاصة الفقرة:

 

 


المسألة الثالثة: ما يجب فعله حال الالقاء مدح القبيح وذمّ الحسن:

لا بدّ للخطيب أن يكون قد تدرّب على تطويع العبارات والاستفادة من الأمور بحسب الحاجة وتسخير كلّ الأدلة لصالحه حتّى لو كان ظاهر الدليل غير موافق لمطلوبه.

وذلك بأن يتمكّن من أمرين:

الأمر الأوّل: مدح القبيح.

قد تدعو الحاجة لإظهار وجه الحسن في من اشتهر بالقبح.


38


فمثلاً قد تدعو الحاجة إلى مدح فاسق فينظر الخطيب إلى النواحي الأخرى غير الفسق ويختار منها ما يمكن مدحه به. فيقول مثلاً: " أنّه سمح سهل غير متزمّت ولا متعنّت، منفتح على الآخرين لطيف المعاشرة خفيف الروح يخدم الناس... الخ" وما شابه ذلك.

وقد يمدح الأبله الأحمق بأنّه بسيط صافي النفس بريء براءة الأطفال لا تشوبه شائبة الغدر والمكر، ولا يهتمّ بأمور الدنيا مهما عظمت وتعقّدت، و أنّه لا يزال على فطرته التي فطره الله عليها لم تغيّرها الخطايا والذنوب...

وقد يمدح الهمَّاز النمَّام الذي يتتبّع عورات الناس فلا يكاد يرى عيباً إلّا ّ وينشره في المجتمع، فيخبر به القاصي والداني بأنّه صادق وصريح ولا تأخذه في الله لومة لائم، و أنّه يقول الحقّ ولو على نفسه. و أنّه لا يمكنه السكوت عن قبيح الفعال، ولا يستطيع أن يغضّ طرفه حينما يرى شرّاً لما فيه من علوّ الهمّة وكبر النفس، ولأنّه ليس بشيطان أخرس... إلى ما هنالك.

الأمر الثاني: ذمّ الحسن.


قد يقتضي الأمر إظهار بعض مساوئ أمر معلوم الحسن. فقد يذمّ الإنسان المؤمن المحافظ على دينه بأنّه جاف متزمّت رجعيّ لا يمكن الكلام معه، وليس عنده للحلّ الوسط مجال ولا يقتنع بشيء ولا يقبل نصيحة أحد... الخ.


39


وقد يذمّ الشجاع بأنّه متهوّر طائش يرمي بنفسه في كلّ مخوفة، ويبحث عن الشرّ ويلقي بيديه إلى التهلكة... الخ.

وقد يذمّ الكريم بأنّه مسرف جاهل بحقّ المال وقيمته، ويعطي من يستحقّ ومن لا يستحقّ، وأنّ الناس يستفيدون من طيب قلبه ويأخذون أمواله بحجّة أنّه كريم وهو لا يعرف أنّهم يستحمقونه، وبأنّه سوف يأتيه يوم يلتفت فيه إلى نفسه ويدرك خطأه وذلك حينما يجد نفسه محتاجاً لما في أيدي الناس حيث لن يجد من يساعده بدرهم.

وقد يذمّ الحليم الذي يصفح عمن آذاه أو تصابى معه أو تكلّم معه بما لا يليق به، يذمّ بأنّه جبان لا يجرأ على دفع الاعتداء عن نفسه حتى تطاول عليه الكبار والصغار.

وأنّ فيه ذلّة، و أنّه متعوّد على استماع السباب والشتائم فلم تعد تؤثّر فيه شيئاً... إلى ما هنالك من أمثلة لمدح القبح وذمّ الحسن ممّا لا يخفى على القارئ الكريم. فإنّ التدرّب على هذه الأمور تطوّع الاستعمالات والعبارات بين يدي الخطيب وتجعل ذهنه متوقّداً مستحضراً لكلّ سؤال جواباً مهيّئاً لكلّ شخص ما يناسبه من الكلام.

واعلم أنّ ما قدّمناه لك ليس دعوة لاعتماد أسلوب الكذب في الخطاب أبداً وليس تشجيعاً على التعرّض للآخرين بالنقد والتجريح كما قد يسبق إلى أذهان البعض ممن تخفى عليهم


40


 النكات العلميّة وإنّما هو توضيح لفكرة أدبيّة وجلاء لقاعدة خطابيّة، لو أتقنها الخطيب لأخذت بيده إلى إظهار الحقّ والدفاع عنه وكشف زيغ المبطلين وتفنيد كلام من لا يستعين على مراده إلّا بالكذب، والنفاق فيسلّط الضوء على نقاط ضعفه ومواضع زلاته كي لا يعود إلى استحماق الناس للتسلّط عليهم.

واعلم أيضاً أنّه ليس فيما ذكرنا شيء من الكذب بل هو صدق ناصع غاية ما في الأمر أنّه تصوير قبيح للصورة الحسنة أو تصوير حسن للصورة القبيحة وذلك يحصل بالسكوت عن المحاسن وذكر ما هو موجود من المساوئ، وهذا أمر شائع بين الفصحاء ممن يعرفون مواضع الكلم ولم ينكر من الشرع، ولنعطك على ذلك شاهداً حيّاً:

ورد في البيان والتبيين أنّ رسول الله صلى الله غليه وآله وسلم سأل عمرو بن الأهتم عن الزبرقان بن بدر وهو حاضر فقال عمرو: " أنّه مانع لحوزته مطاع في أذينة".

فقال الزبرقان: "يا رسول الله، إنّه ليعلم منّي أكثر ممّا قال ولكنّه حسدني يا رسول الله في شرفي فقصّر بي".

فقال عمرو بن الأهتم حينئذ: "وهو والله زمر المرؤة23 ضيق الصدر لئيم الخال حديث الغنى".

فنظر النبيّ صلى الله غليه وآله وسلم في عينيه فقال: "يا رسول الله، رضيت فقلت


41


 أحسن ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت، وغضبت فقلت أقبح ما علمت. وما كذبت في الأوّلى ولقد صدقت في الآخرة".

فقال رسول الله صلى الله غليه وآله وسلم: "إنّ من البيان لسحراً"24.

وحتّى تطمئن نفسك إلى ما قلناه لك ولا يبقى في نفسك منه شيء سنضرب لك مثالاً حيّاً على مدح القبيح وآخر على ذمّ الحسن.

ورد عن الحجّاج أنّه حينما مرض وفرح أهل العراق بذلك وأرجفوا بموته وبلغه ذلك تحامل حتى صعد المنبر فقال: "إنّ طائفة من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نزغ الشيطان بينهم فقالوا: "مات الحجّاج". ومات الحجّاج فمه؟ وهل يرجو الحجّاج الخير إلّا بعد الموت؟ والله ما سرّني ألّا أموت وأنّ لي الدنيا وما فيها. وما رأيت الله رضي بالتخليد إلّا لأهون خلقه إبليس. قال:
﴿قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ25.

كما روى ابن سلام الجمحيّ في طبقات الشعراء أنّه اجتمع جرير والفرزدق عند سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ خليفة، وأتى بأسرى من الروم، وكان في حرسه رجل من بني عبس قد علم أنّ سليمان سيأمر أصحابه بضرب أعناقهم.

فأتى الفرزدق فقال: "إنّ أمير المؤمنين جرى بأن يضرب هؤلاء الأسرى". وحثّه على أن يكون هو الضارب لهم. وأتاه بسيف


42


 كليل كهام"26. فقال الفرزدق: "ممّن أنت"؟

قال: "من بني ضبّة أخوالك".

وأمره سليمان بضرب عنق بعضهم. فتناول السيف من العبسيّ ثمّ هزّه فضرب به عنقه فما حصّ27 شعرة ولم يؤثّر به أثراً. فضحك سليمان والناس وقال: "هذه ضربة سيقول فيها هذايعني جريراً وتقول فيها العرب".

فقال الفرزدق (متخلّصاً من سيئته مصوِّراً لها بصورة حسنة)28:

فهل ضربة الروميّ جاعلة لكم            ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم
أباً عن كليب أو أباً مثل دارم             إذا أثقل الأعناق حمل المغارم

فانظر كيف بدّل السيئة بالحسنة وعبّر عن عجزه عن قتل الروميّ بأنّه قد تعوّد على فكّ الأسرى ولم يتعوّد على قتلهم. وهذه مفخرة ما بعدها مفخرة وتعريض بالخليفة وتفاخر عليه.

وقد نسب أبو حيّان التوحيديّ في كتابه البصائر والذخائر إلى سقراط تعريفاً للخطابة ورد فيه هذا القول: "قيل لسقراط الفيلسوف. - وكان من خطبائهم - ما صناعة الخطيب؟ قال:.
أن يعظّم الأشياء الحقيرة ويصغّر شأن الأشياء العظيمة".

وهذا تعبير آخر عن مدح القبيح وذمّ الحسن".


43


خلاصة الفقرة:



44


الدرس الرابع: ما يجب فعله حال الإلقاء: 2

المسألة الرابعة: الوقوف على مرتفع

لا بدّ للخطيب أن يقف على مرتفع يطلّ به على الجمهور كي يروا وجهه ويتأثّروا بكلماته وإشاراته. ولقد جرت العادة قديماً وحديثاً بأن ينصب للخطيب منبر من خشب، ولو لم يكن هناك منبر وكانت الخطابة في الفلاة يعمل له منبر بسيط من الحجارة كما مرّ في وصف نوف البكاليّ لعليّ عليه السلام ، أو من رحل الدواب كما حصل لرسول الله صلى الله غليه وآله وسلم ، في خطبة الوداع حين نصّ على خلافة عليّ عليه السلام ، أو أن يقف الخطيب على مرتفع عال، أو يصعد إلى هضبة كما حصل مع الرسول صلى الله غليه وآله وسلم حينما صعد الصفا وقال: "يا صباحاه".

فاجتمعت إليه قريش. فأخبرهم بنزول آية:
﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ29.

ويحسن في الخطيب أن يقف معتمداً على إحدى رجليه فإذا


45


 تعبت اعتمد على الأخرى. فإنّ ذلك يعينه على تحمّل طول الوقوف إلى إتمام خطبته وإن طالت.

و أمّا الإشارات فهي أمر مهمّ للخطيب ولا يمكن الاستغناء عنها في إثارة مشاعر مستمعيه. قال الجاحظ: "الإشارة واللفظ شريكان ونعم العون هي له، ونعم الترجمان هي عنه، وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وتغني عن الخطّ"30.

ولا بدّ في الإشارة من أمور:

الأمر الأوّل:

ألّا تكون مبتذلة متصنّعة يشعر المخاطبون أنّها مقصودة وأنّ الخطيب يتعمّدها فإنّ ذلك يذهب بتأثيرها ويفقدها رونقها، فلا بدّ أن تبدو عفوية قد صدرت منه من غير قصد و أنّه لم يتصنّع فيها ولم يتكلّف.

الأمر الثاني:

ألّا تكون على نسق واحد بحيث يكون تكرّرها واضحاً للناظرين وذلك كما لو ظلّ يحرّك يده بحركة واحدة وعلى نسق واحد طيلة الخطبة إنّ ذلك يجعل الخطيب في موضع انتقاد الجمهور ولا يعطي النتائج المطلوبة في المساعدة على الإقناع. فلا بدّ أن تكون الحركات متنوّعة بتنوّع أسلوب الكلام من الأخبار والإنشاء ومن التعجّب والاستفهام وما شابه ذلك ولا بدّ أن تكون كثيرة كفعل الممثّلين و إلّا لم تكن "نعم العون".


46


الأمر الثالث:

يجب على الخطيب أن لا يتنقّل على المنبر ولا يعتمد الإشارات المضحكة ولا الحركات الخفيّة كي لا يتحوّل إلى ممثّل أو إلى مهرّج. فعليه مثلاً أن لا يهتزّ ولا يستدبر ولا يلتفت بكلّ بدنه من جهة إلى أخرى، ولا يحرّك رجله ولا يهزّ برقبته ولا يغمز بعينيه ولا يخرج لسانه ولا يقلّد الآخرين بأفعالهم وأقوالهم فكلّ هذه الأمور تفسد الجوّ العامّ للخطبة.

وهناك بعض الحركات تعدّ من آفات الخطيب، وهي أن يكثر من السعال أثناء الإلقاء، أو من الالتفات يمنة ويسرة، أو بأن يقصر نفسه عن إتمام الجملة التي بدأها فيستعين بنفس ثان لإتمامها، وأن يفتل أصابعه، أو أن ينشغل بالعبث بلحيته، أو يكثر من المسح عليها أو على شاربيه، فإنّ كلّ ذلك من العيب الذي لا بدّ للخطيب أن يتخلّص منه فيعوّد نفسه على النفس الطويل، ويسعى جهده للتخلّص من السعال في الخطابة، ويقلع عن العادات الأخرى المشار إليها.

وقد جمع أحدهم هذه الحركات ببيت من الشعر فقال:

مليء ببهر31 والتفات وسعلة              ومسحة عثنون32 وفتْلِ الأصابع
33


47


خلاصة الفقرة:



48


المسألة الخامسة: مقتضيات الإلقاء

هناك أمور يقتضيها الإلقاء تختلف باختلاف أنواع الخطب وتتلخّص في ستّة أمور:

الأمر الأوّل: كيفيّة الوقوف على المنبر.

لا بدّ للخطيب الذي يكون في موضع الحماس ويريد أن يدبّ الشجاعة في قلوب سامعيه أن يقف وقفة متأهّب مستعدّ وكأنّه سينزل إلى ساحة الحرب بعد لحظات، وأن تكون أعصابه مشدودة والتفاتاته سريعة وخاطفة وحركات يديه عصبيّة ونظراته إلى المستمعين محرقة تخرج من عين تتأجّج فيها النّار حماساً وقوّة. فإنّ كلّ ذلك مهمّ في الخطب العسكريّة وهو أدعى لحملهم على الاستبسال ولدبّ الشجاعة والجرأة في قلوبهم.

ولا بدّ لمن كان في مقام الوعظ والإرشاد وأمر الناس بالتقوى وترك المعاصي أن يقف بارتخاء نوعاً ما، ويحرّك يديه بحركات خفيفة بطيئة في موضع الخشوع، وبحركات الحذر في موضع إثارة الخوف، فيفتح فاه قليلاً بما يعبّر عن ذلك فيما لو تعرّض لذكر أمر مخيف كما لو تكلّم عن جهنّم أو عذاب القبر أو شدّة الألم وما شابه ذلك. وهكذا في سائر أنواع الخطب يراعي ما يناسبها.


49


الأمر الثاني: طريقة النطق بالكلمات.

تارة يقتضي أمر الخطابة أن تخرج الكلمات من الفم مشدودة متراصّة وكأنّ هناك من ينتزعها من الفم بقوّة فيصدر للحرف صوت يتناسب معه شدّة وضعفاً، وتارة يقتضي أن تخرج هادئة ناعمة تكاد تشبه النجوى. فإنّ ذلك أبلغ في إيصالها الخشوع إلى قلوب السامعين، وتارة تقتضي أن تخرج عاديّة لا شدّة فيها ولا ضعف، كما في الخطب العلميّة. كلّ ذلك يرجع إلى معاني الكلمات وما يتناسب معها.

الأمر الثالث: نظرات الخطيب.

لا بدّ من توزيع النظرات على المستمعين كلّ بحسبه. فالذي يكون مشدوداً للكلام متوجّهاً لما يقال، ينظر إليه وكأنّه المستمع الوحيد فيزداد أنساً واستماعاً وإقبالاً، والذي يكون في سهو وغفلة عمّا يقوله الخطيب يتوجّه الخطيب إليه وكأنّه يسأل عن أمر عرض له في أثناء الكلام، ثمّ ينصت قليلاً ليتوهّم المستمع أنّه يسأله عن الجواب وأنّه ينتظر منه الإجابة، وبما أنّه غير ملتفت إلى السؤال ولا يعرف بماذا يجيب تدخل الرهبة في قلبه في اطلاع الحاضرين على غفلته أو جهله بالإجابة فيضطرّ حينذاك للتوجّه وتركيز ذهنه على فهم ما يقوله الخطيب كي لا يقع في ذلك مرّة أخرى وحينئذ يسهل إقناعه. ولا بدّ للخطيب أن ينظر في عيون السامعين كيّ لا يشعروا أنّه بعيد عنهم فيما لو


50


 ركّز نظراته في السقف كما يفعل كثير من المبتدئين في الخطابة خوفاً من أعين الناظرين.

وهناك كثير من الخطباء ليس لهم الجرأة على مواجهة المستمع والنظر في عينيه كما حصل للجنرال كرافت حيث كان يخشى من ذلك فنصحه أحد علماء الخطابة بالنظر في أنوفهم كي يتوهمّوا أنّه يتظر إلى أعينهم فلا يشعرون بأنّه بعيد عنهم34.

وكذلك عليه أن لا ينظر من خلال النافذة إلى الخارج ولا يلهو عن مستمعيه بمراقبة كتاب أو أيّ شيء آخر.

الأمر الرابع: خروج الكلام من القلب.

يجب على الخطيب أن يشعر السامع بأنّ ما يقوله يخرج من قلبه وأنّه من جملة اعتماداته التي لا تقبل الشكّ والترديد. وذلك بأن يتفادى قدر الإمكان التوقّف بين الكلمات والتلكّؤ في النطق بها، فإنّ ذلك ممّا يجعل المستمع مشتّت الذهن ومتردّداً في الاقتناع بما يقال أو على أقل تقدير لا يجد في نفسه ما يشدّه للاقتناع به.

وقد قيل قديماً: "الكلام الذي يخرج من القلب يدخل إلى القلب، والذي يخرج من اللسان لا يتجاوز شحمة الأذن".


51


الأمر الخامس: تناسب المعاني وطريقة التلفّظ.

على الخطيب أن يحرص على أن تكون طريقة التلفّظ بالعبارات مناسبة لمعانيها، فمثلاً الجملة الاستفهاميّة تحتاج إلى نمط خاصّ من التلفّظ مغاير لنمط تلفّظ الجملة الخبريّة والجملةالمنفيّة تختلف طريقة تلفّظها عن الجملة المثبتة، وكذلك سائر أنواع الجمل. وأوضح ممّا ذكرنا أسلوب تلفّظ الجملة التعجبيّة فإنّ لها أسلوباً خاصّاً لا يقوم مقامه غيره ولا يمكن توضيحه للقارئ الكريم بالعبارة إلّا أنّ الإنسان يدرك ذلك بطبعه السليم وسليقته الصحيحة في التلفّظ بالكلام العربيّ، بل إنّ ذلك لا يختلف من لغة إلى أخرى وهو مشترك بين جميع الناس.

فلو تلفّظ الخطيب بالجملة التعجبيّة أو الاستفهاميّة كما يتلفّظ بالجملة الخبريّة لدلّ ذلك على أنّه غير ملتفت إلى معناها ولما حصل للمستمع تلك الفائدة المرجوّة منها.

وأكثر ما يقع الخطيب بهذا النوع من الخطأ فيما لو كان يقرأ خطابه عن الورقة، إذ يجد نفسه قد بدأ بجملة على النهج الخبريّ مثلاً ولا يلتفت إلى أنّها تعجبيّة إلّا بعد أن يتمّها، خصوصاً إذا كان يقرأ الخطبة لأوّل مرة.

وهذا لا يحصل لمن يخطب ارتجالاً إلّا نادراً كذلك يمكن تجنّبه إذا حضَّر خطبته وطالعها مراراً قبل إلقائها.


52


الأمر السادس: مراعاة أمّا كن الوقف والدرج.

حينما تنتهي الجملة لا بدّ من التوقّف هنيهة ليعلم المخاطب انتهاءها ولا يتوهّم اتصالها بما بعدها. و أمّا في وسط الجملة فلا بدّ من وصل الكلام مع بعضه البعض حتى لا يصبح مقطعاً خالياً عن الفائدة التامّة المرجوة من الكلام. ولا يصحّ الدرج في أمّا كن الوقف ولا الوقف في أمّا كن الدرج، فلا بدّ من مراعاة كلّ منهما بحسب المقام.

ولا بدّ أن تكون أمّا كن الوقف شافية بيّنة. ولا يمكن معرفة ذلك وإدراكه من خلال القراءة بل لا بدّ من تتبّع استعمالات الخطباء والاستماع إلى خطبهم والتأمل في ال أمّا كن التي يقفون عليها وال أمّا كن التي يدرجونها.


53


خلاصة الفقرة:


 


54


الدرس الخامس: ما يجب فعله حال الإلقاء:3

المسألة السادسة: التحلّي بخصلتين:

لا بدّ للخطيب أن يتحلّى بخصلتين مهمّتين في باب الخطابة هما:

الأولى: حضور الذهن.

يجب أن يكون الخطيب حاضر الذهن حال الإلقاء. ملتفتاً إلى كلّ ما يقوله، وإلى ما يمكن أن يرد عليه من اعتراضات وكيفيّة التخلّص منها والإجابة عنها. فإذا فاجأه أحدهم باعتراض ردّه برد حسن لين دون إظهار عجز أو جهل أو تأفّف. وإذا سأله بعضهم عن أمر يتعلّق بخطبته يكون معدّاً له الجواب الشافي و إلّا وجد نفسه في مأزق لا يعرف الخروج منه وينقض بذلك غرضه فلا يتمكّن من إقناع الجمهور بفكرته ولا تلقينهم عقيدته. ولنعطك على ذلك مثالاً:

دار بين السيّدة زينب بنت عليّ  عليه السلام  وعبيد الله بن زياد


55


 حوار بعد خطبة ألقتها بحضوره أظهرت فيها نقصه وعدم تديّنه وأحصت عليه عيوبه وذنوبه، فقال رادّاً عليها، يقصد إبطال قولها أمّا م الحاضرين:
"من هي هذه المتنكرة"؟

فقال بعض من حضر: "هي زينب بنت عليّ".

فقال لها بمكر وخبث محاولاً إظهارها مستحقّة لما وقع بهم من السبي والإذلال فيكون بذلك بريئاً ولم يفعل ذنباً يستحقّ عليه التوبيخ: "الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم".

فقالت الحوراء عليها السلام: "الحمد لله الذي أكرمنا بالنبوّة وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا".

فلمّا سمع هذا التعريض به أمّا م مناصريه سلك طريقاً آخر لإفحامها: "هل رأيت ما صنع الله بأخيك الحسين"؟

فقالت له ببيان فصيح: "ما رأيت إلّا جميلاً، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن الفلاح يومئذٍ، ثكلتك أمّك يا بن مرجانة".

فأطرق عبيد الله بن زياد لا يحير جواباً وقد أفحم واسود وجهه35.


56


وليس هناك أوضح دلالة على أهميّة حضور الذهن حال الخطاب ممّا جاء في آخر خطبة المتقين للإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، حينما صعق همّام العابد فاعترض رجل من الحاضرين على الإمام بقوله: "فما بالك يا أمير المؤمنين"؟

يقصد أنّه هو الذي كان السبب بموت همّام.

فأجابه عليه السلام: "ويحك، إنّ لكلّ أجل وقتاً لا يعدوه وسبباً لا يتجاوزه، فمهلاً لا تعد لمثلها فإنّما نفث الشيطان على لسانك"36.

الثانية: حسن التخلّص.


إنّ من الأمور المهمّة للخطيب أن يجيد التخلّص من الخطأ لو حصل ووقع فيه، ويحسن الاعتذار عن ذلك، فإنّ كلّ إنسان معرّض للخطأ لا محالة، ولعلّه من المواقع الصعبة عليه أمّا م الجمهور الذي كان يقف فيه ملقّناً ومسدّداً يظهر بظهر المحتاج إلى من يعلّمه ويقوّم اعوجاجه ويصلح خطأه. فإن كان الخطيب ماهراً يعرف كيف يدير دفّة الخلاص، نجا بنفسه إلى شاطئ الأمان باعتذار حسن أو بطريقٍ خفيّ يسلكه للهروب من ورطة الغلط، ويظهر نفسه كأنّه تعمّد ما صدر منه وأنّ ذلك لم يكن خطأ وإنّما قصده لعلّة في نفسه، ثمّ يبِّرر تلك العلّة ويوضّح


57


السبب الذي دعاه إلى ذلك بوجه سليم بسيط لا يدع للمستمعين شكّاً ولا ريباً.

وسنضرب لك مثالين لتوضيح حسن التخلّص والاعتذار:

الأوّل:


في فتح بلاد خراسان كان قتيبة بن مسلم قائداً لجيوش بني أميّة وكان وكيع بن الأسود التميميّ أحد قادة جنوده، وقد صعد وكيع هذا يوماً لوعظ الناس وإرشادهم فقال في ضمن خطبته: "إنّ الله خلق السماوات والأرض في ستّة أشهر". فانبرى له رجل من الحاضرين قائلاً: "إنّما كان ذلك في ستّة أيام"37.

فقال وكيع بلهجة البصرة الواثق من نفسه وكأنّه لم يصدر منه أيّ خطأ: "وأبيك لقد قلتها وإنّي لأستقلّها"38.

أيّ أنّه يرى أنّ ستّة أشهر قليل على خلق السماوات والأرض فكيف بستّة أيام؟ فما ذلك إلّا لأنّ الله قويّ عزيز فلا بدّ من إطاعته وعدم التعرّض له بالمعصية.

المثال الثاني:

روي أنّ الشيخ محمّد تقي فلسفيّ صاحب كتاب الطفل بين الوراثة والتربية، وهو من مشاهير الخطباء الإيرانيّين المعاصرين، كان يخطب في مناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة المرحوم آية


58


 الله البروجرديّ الذي كان مرجعاً للشيعة آنذاك، فقال في طيّ خطابه هذه العبارة: "إنّ آية الله البروجرديّ دامت بركاته...".

وهذا خطأ منه إذ كان عليه أن يقول قدس سرّه أو رحمه الله أو "أسكنه الله فسيح جنّاته" أو ما شابه ذلك من العبارات التي تقال في هكذا مقام فالتفت إلى خطأه وتابع قائلاً: "نعم دامت بركاته لأنّه وإن ذهب للقاء ربّه إلّا أنّ بركات أفعاله الخيّرة دائمة ولا تزال بيننا".

خلاصة الفقرة:


 


59


المسألة السابعة: قدرة السيطرة على المجلس

لا بدّ أن يتحلّى الخطيب بالقدرة على السيطرة على المجلس من جهة إصغاء الحاضرين جميعاً. فإن حاول بعضهم التشويش عرف كيف يتوجّه نحوه وهو يتابع كلامه بصوت عال وكأنّه يقول له: "لا تتكلّم أثناء كلامي".

وإذا أحسّ بأنّ هناك من يتكلّم مع جالس بجانبه عرف كيف يورد في ضمن كلامه وعلى نحو الجملة الاعتراضيّة ما يعرّض فيه بهما ممّا يجعلهما يقلعان عن ذلك ويؤدّب بذلك الباقين فلا يحاول أحد خلق ضوضاء أثناء الإلقاء.

وقد يكون من المناسب أن يصمت قليلاً بشكل ملحوظ ليسمع الناس الحاضرون صوت الذي يتكلّم مع زميله فيخجل ويمسك ولا يعود لمثلها.

وكلّما كان الخطيب متفاعلاً مع خطابه وكان خطابه مؤثّراً في المستمعين كلّما سيطر على الحفل أكثر، و إلّا فسوف لن يتمكّن من كبح جماح الضوضاء التي قد تزداد حتى تتغلّب عليه وتلزمه الصمت.

وقد ورد في كتاب الخطابة لمحمّد أبو زهرة كلام لديكوب، وهو أحد علماء النفس الفرنسيّين وكان نائباً في البرلمان الفرنسيّ، يصف به الخطيب النيابي الفاشل الذي لا يعرف كيف يسيطر على المستمعين: "إذا استوى على المنبر أخرج من محفظته أوراقاً


60


 فنشرها أمّا مه على الترتيب وشرع يخطب مطمئنّاً، وهو يفخر في نفسه بأنّه سيبثّ عقيدته لتسكن روح سامعيه، لأنّه وزن أدلّته وحرّرها وأعدّ شيئاً كثيراً من الإحصاءات والحجج وأيقن أنّ الحقّ في جانبه وأنّ معارضه لا يثبت أمّا م الحقيقة التي يأتي بها.

وهكذا يبدأ معتمداً على صواب رأيه واصفاً إخوانه باعتقاده أنّهم لا يطلبون إلّا الحقّ. وبينما هو يخطب إذ تأخذه الدهشة من اضطراب الحاضرين ويتقزّز من الضوضاء الناتجة من ذلك الاضطراب ويتساءل؟

- "لماذا لا يسود السكون"؟

- "وما السبب في هذا الاضطراب"؟

- "وما السبب القوي الذي يحمل ذلك على ترك مجلسه"؟

فيفرك حاجبيه والحيرة تعلو جبينه ويمسك عن الكلام فيشجّعه الرئيس، فيعود بصوت مرتفع فيزيد الأعضاء في عدم الإصغاء، فيجهر ويهتزّ فتزداد الجلبة من حوله ويعود لا يسمع نفسه فيمسك عن الكلام مرّة أخرى. ثمّ يخشى أن يدعو سكوته إلى أصوات الأقفال فيرجع إلى الخطابة بما فيه من قوّة وهناك تعلو الجلبة ويختلط الحابل بالنابل ممّا لا يقدر على وصفه الواصفون"39.

ومن كلّ ما تقدّم خلال المسائل السبع، نستخلص أنّه يجب


61


 على الخطيب أن يكون سائقاً ماهراً يعرف مقصده وهدفه جيّداً. فيسير بمن معه من المسافرين الذين يقلّهم إلى النقطة التي حدّدها لنفسه عالماً بمكان تحرّكه وابتدائه عارفاً بموضع وصوله وانتهائه. يسرع بهم طوراً ويبطئ أحياناً ويذهب بهم شمالاً مرّة ويميناً مرّة أخرى حتى إذا تعب الركّاب من السفر وشعروا بالملل من طول الجلوس عرف كيف يعرج بهم على واحة مريحة يتناولون قسطاً من الراحة في ظلالها فيورد لهم قصّة طريفة أو حكاية مضحكة أو مثالاً غربياً فيستعيدون نشاطهم وتتجدّد عزيمتهم ثمّ يتابع بهم المسير إلى الهدف المحدّد والنقطة المرجوّة وهم في غاية النشاط والسرور والراحة.

خلاصة الفقرة:


62


خلاصة الدروس: (2، 3، 4، 5)


63


هوامش

1- جواهر البلاغة، ص36.
2- تلخيص الخطابة، ابن رشد، ص30.
3- سورة الأعراف، الآية: 68.
4- الاحتجاج، الطبرسيّ، ج1، ص124.
5- نهج البلاغة، من كلام له عليه السلام ، رقم 120، ص176.
6- تاريخ ابن عساكر، ج4، ص53.
7- صبح الأعشى، ج1، ص128.
8- معنى أحصبه هو أرميه بالحجارة ولكنّه هنا كناية عن القول القاسي.
9- هذا مثل يضرب في الحثّ على الجدّ في الأمر، مجمع الأمثال، ج2، ص93.
10- قصص العرب، ج3، ص37.
11- ابن نهية اسم صاحب الشرطة الذي كان قبل الحجّاج في الكوفة.
12- جمهرة خطب العرب، ص301.
13- آخره بثلاث فتحتات يعني آخر الشيء ونهايته، يريد كان ذلك اليوم نهاية أمري، أقرب الموارد، ج1، ص6.
14- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر.
15- البيان والتبيين، ص141.
16- جمهرة خطب العرب، ج3، ص352.
17- راجع باب نوادر الخطباء في أواخر هذا الكتاب.
18- وفي كتب أخرى "ثابت بن قطبة".
19- أمّا لي السيّد المرتضى، علم الهدى، ج4، ص21.
20- نهج البلاغة، خطبة رقم 182، ص260.
21- الخطابة، الفارابيّ، ص10.
22- الشفاء، قسم الخطابة، ص10.
23- زمر المرؤة أي قليلها.
24- البيان والتبيين، ص43 و184.
25- مروج الذهب، ج2، ص142. وشرح ابن أبي الحديد، ج1، ص151
26- السيف الكهام هو الضعيف الشي لا يقطع.
27- حصّ يعني قطع وحلق. يقال حصّ الشعرة أي قطعها.
28- طبقات الشعراء، ابن سلام الجمحيّ، ص93.
29- مجمع البيان، الطبرسيّ، ج4، ص206. والآية من سورة الشعراء ورقمها 214.
30- البيان والتبيين، ص69 من الجزء الأوّل، تحقيق السندوبيّ.
31- البهر يعني انقطاع النفس والإعياء.
32- العثنون هو اللحية وقيل ما ينبت على الذقن خاصّة.
33- البيان والتبيين، ص1.
34- أصول فنّ الخطابة، عليّ باشا صالح، ص29. وكرافت رئيس أميركا عام 1869.
35- معالي السبطين، الحائريّ، ج2، ص112، بتصرّف.
36- نهج البلاغة، رقم 93، خطبة المتقين، ص503.
37- إشارة إلى قوله تعالى:
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ سورة الأعراف، الآية: 54.
38-جمهرة خطب العرب، ج3، ص357.
39- الخطابة لمحمّد أبو زهرة.