مجلس شهادة الإمام عليّ الرضا عليه السلام

فتَجَلْبَبَتْ أَقْمارُها بِدُجُونِ
ودُهِي الزَّمانُ وأَهْلُهُ بِمَنُونِ
شَمْسُ الهِدايَةِ مِنْ بَنِي ياسِينِ
مِنْ بَعْدِهِ قُلْ لِلرَّزايا هُونِي
الـسَّبْعَ الطِّباقَ فَأَعْوَلَتْ بِرَنِينِ
يُدْعَى بِعَكْسِ الحالِ بِالمَأْمُونِ
سُمّاً بِكَأْسِ عَداوَةٍ وضُغُونِ
نَالَ العِدَى مِنْهُ قَدِيمَ دُيُونِ
أَلِفَتْ شَبا بِيضٍ وقِبَّ بُطُونِ
خَطَّتْ لَكُمْ ضَيْماً عَلَى العِرْنِينِ
قَدْ غَيَّبَتْ مِنْكُمْ شُمُوسَ الدِّينِ
أَجْداثُ مَنْ هُم عَلَى التَّكْوِينِ
أَبْكَى الأَمِينَ عَلَيْهِ أَيُّ خَؤُونِ1

ماذا أَصابَ عَوالِمَ التَّكْوِينِ
هَلْ قامَتِ الأُخْرَى فَأَظْلَمَ نُورُها
أَمْ غابَ عَنْها بَدْرُها أَمْ حُجِّبَتْ
لِلَّهِ رُزْءٌ هَدَّ أَرْكانَ الهُدَى
لِلَّهِ رُزْءٌ لابْنِ مُوسَى زَلْزَلَ
يَوْمٌ بِهِ أَشْجَى البَتُولَةَ خَائِنٌ
يَوْمٌ بِهِ أَضْحَى الرِّضا مُتَجَرِّعاً
فَمَنِ المُعَزِّي المُرْتَضَى أَنَّ الرِّضا
وَمَنِ المُعَزِّي في نِزارٍ أُسْرَةً
هُبُّوا مِنَ الأَجْداثِ إِنَّ عِدَاكُمُ
فَبِطَيْبَةٍ وثَرَى الغَرِيِّ وكَرْبَلا
وبِأَرْضِ سامُرَّا وبَغْدادٍ لَكُمْ
وبِطُوسَ قَبْرٌ ضَمَّ أَيَّ مُعَظَّمٍ


 109


شعبي:
جودي على الرّضا بالدّمع يا عيون        يوم الطلع من مجلس المأمون
راسـه معصّــب ومــتغيّــر اللــون        وصــل داره يونّ وتهمل العين
على الرّضا من عدل رجليه               تشاهد ويل قلبي واسبل ايديه أويلي
روحه خلصت ومـا ظل نفـس بــيـه       أتــاري مــات ويــلي وغيّبه البين


ما أروع ما عبّر به المحدّث الجليل الشيخ عبّاس القمّي في منتهى الآمال، حيث قال: "ليست فضائل الإمام أبي الحسن الرّضا عليه السلام ومناقبه، ممّا يندرج في حيّز البيان، أو ينالها الإحصاء، وإلّا فهل يمكن إحصاء نجوم السّماء". ولقد أجاد أبو النّوّاس في قوله:

قِيلَ لِي أَنْتَ أَوْحَدُ النَّاسِ طُرّاً           في عُلُومِ الوَرَى وشِعْرِ البَدِيهِ
لَكَ مِنْ جَوْهَــرِ الكَــلامِ نِـظامٌ            يُثْمِرُ الدُّرُّ في يَدَيْ مُجْتَنِيهِ
فَعَلاَمَ تَرَكْتَ مـَدْحَ ابــْنِ مُــوسَى         والخِصَالِ الَّتي تَجَمَّعْنَ فِيهِ؟
قُلْـتُ لا أَسْــتَطِيعُ مَــدْحَ إِمــامٍ           كانَ جِبْرِيلُ خادِماً لِأَبِيهِ


 110


يقول المحدّث القمّيّ: لمّا استقرّ الأمر بالمأمون، بادر بإرسال الرّجاء بن أبي الضّحّاك، على رأس وفد من خاصّته إلى الإمام الرّضا عليه السلام بالمدينة، يدعوه للقدوم إلى خراسان، فلمّا انتهى وفد المأمون إليه، امتنع عن الاستجابة إليهم، وبالغ في الامتناع، لكنّه أمام إصرارٍ جاوز حدّ الاعتدال، نزل عند رغبتهم مجبراً، على هذا السّفر المحنة.

روى الشّيخ الصّدوق عن مخوّل السّجستانيّ، أنّه قال:

لمّا ورد البريد بإشخاص الرِّضا عليه السلام إلى خراسان، كنت أنا بالمدينة، فدخل المسجد ليودّع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مراراً، كلّ ذلك يرجع إلى القبر، ويعلو صوته بالبكاء والنّحيب، فتقدّمت إليه، وسلّمت عليه، فردّ السّلام، وهنّأته، فقال: "ذرني، فإنّي أخرج من جوار جدّي صلى الله عليه وآله وسلم، فأموت في غربة، وأدفن في جنب هارون".

ولمّا استقرّ المقام بالإمام الرِّضا عليه السلام من خراسان، التفت المأمون ذات يوم إلى الرِّضا عليه السلام، وقال: إنّي قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك وأبايعك، فقال له الرِّضا عليه السلام:

"إن كانت هذه الخلافة لك، وجعلها الله لك، فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت


 111


 الخلافة ليست لك، فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك!" فقال له المأمون: لا بدّ لك من قبول هذا الأمر، فقال: "لست أفعل ذلك طائعاً أبداً"، فما زال يجهد به مدّة شهرين، والرّضا عليه السلام يمتنع، لمعرفته بما يرمي إليه المأمون بذلك.

ولمّا يئس المأمون من قبوله، قال له: إن لم تقبل الخلافة، ولم تحبّ مبايعتي لك، فكن وليّ عهدي, لتكون لك الخلافة بعدي. فقال له عليه السلام: لقد حدّثني أبي، عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنّي أخرج من الدّنيا قبلك مقتولاً بالسّمّ مظلوماً، تبكي عليّ ملائكة السّماء، وملائكة الأرض، وأدفن في أرض غربة إلى جنب هارون الرّشيد.

فبكى المأمون، ثمّ قال له: ومن الّذي يقتلك، أو يقدر على الإساءة إليك، وأنا حيّ؟ فقال عليه السلام: أما إنّي لو أشاء أن أقول من الّذي يقتلني لقلت، فقال المأمون: إنّما تريد دفع هذا الأمر عنك، ليقول النّاس إنّك زاهد في الدّنيا.

فقال الرّضا عليه السلام: والله، ما كذبت منذ خلقني ربيّ عزّ وجلّ، وما زهدت في الدّنيا للدّنيا، وإنّي لأعلم ما تريد، فقال المأمون: وما أريد؟ قال: تريد أن يقول النّاس: إنّ عليّ بن موسى لم يزهد في الدّنيا، بل زهدت الدّنيا فيه! ألا


 112


ترون كيف قبل ولاية العهد، طمعاً في الخلافة؟

فغضب المأمون، ثمّ قال: إنّك تتلقّاني أبداً بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم، لئن قبلت ولاية العهد، وإلّا أجبرتك على ذلك، فإن فعلت، وإلّا ضربت عنقك.

فقال الرّضا عليه السلام: قد نهاني الله عزّ وجلّ أن ألقي بيدي إلى التّهلكة، فإن كان الأمر على هذا، فافعل ما بدا لك، وأنا أقبل ذلك، على أنّي لا أولّي أحداً، ولا أعزل أحداً، ولا أنقض رسماً ولا سنّة، وأكون في الأمر من بعيد مشيراً، فرضي منه بذلك.

ثمّ رفع الرّضا عليه السلام يديه إلى السّماء، وقال: أللَّهمّ إنّك تعلم أنّي مكره مضطرّ، فلا تؤاخذني، كما لم تؤاخذ عبديك ونبيّيك يوسف ودانيال، إذ قبل كلّ واحد منهما الولاية من طاغية زمانه، أللَّهمّ لا عهد إلّا عهدك، ولا ولاية إلّا من قبلك، فوفّقني لإقامة دينك، وإحياء سنّة نبيّك، فإنّك أنت المولى والنّصير، ونعم المولى أنت، ونعم النّصير.

وروى الطّبرسيّ: عن أبي الصّلت الهرويّ، قال: دخل دعبل بن عليّ الخزاعيّ على الرّضا بمرو، فقال له: يا بن رسول الله، قد قلت فيكم قصيدة، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحداً قبلك، فقال عليه السلام: هاتها. فأنشد:


 113


مَدارِسُ آياتٍ خَـلَتْ مِنْ تِــلاوَةٍ         وَمَنْزِلُ وَحْيٍ مُقْفِرُ العَرَصاتِ

فلمّا بلغ إلى قوله:
أَرَى فَيْأَهُمْ في غَيْرِهِمْ مُتَقَسَّماً        وَأَيْدِيَهُمْ مِنْ فَيْئِهِمْ صَفِراتِ


بكى أبو الحسن عليه السلام، وقال له: لقد صدقت يا خزاعيّ. فلمّا بلغ إلى قوله:
إِذَا وُتِرُوا مَدُّوا إِلَى وَاتِرِيهِمُ         أَكــُفّاً عـَنِ الأَوْتارِ مُنْقَبِضاتِ

جعل الرّضا عليه السلام يقلّب كفّيه، ويقول: أجل والله منقبضات، فلمّا بلغ إلى قوله:
لَقَدْ خِفْتُ في الدُّنْيا وَأَيَّامِ سَعْيِها     وَإِنِّي لَأَرْجُو الأَمْنَ بَعْدَ وَفاتِي
 
قال الرّضا عليه السلام: آمنك الله يوم الفزع الأكبر، فلمّا انتهى إلى قوله:
َوَقَبْرٌ بِبَـغْدادٍ لِنَفْــسٍ زَكِيَّــةٍ          ضَمَّنَها الرَّحْمنُ في الغُرُفَاتِ

المصيبة:
قال الرّضا عليه السلام: أفلا ألحق لك بهذا الموضع بيتين بهما تمام قصيدتك؟ فقال: بلى يا بن رسول الله، فقال:


 114


وَقَبْرٌ بِطُوسٍ يا لَـها مِـنْ مُصِـيبَةٍ    أَلَحَّتْ عَلَى الأَحْشاءِ بِالزَّفَراتِ
إِلَى الحَشْرِ حَتَّى يَبْعَثَ اللهُ قائِماً    يُــحَــوِّلُ عــَنَّا الهــَمَّ وَالكُـــرُباتِ


فقال دِعبل: يا بن رسول الله، هذا القبر الَّذي بطوس، قبر من هو!؟ فقال عليه السلام: قبري، ولا تنقضي الأيّام والليالي، حتّى تصير طوس مختلف شيعتي، ألا فمن زارني في غربتي، كان معي في درجتي، يوم القيامة.

وقال: وروى ابن فضّال، عن الرّضا عليه السلام، أنّه قال له رجل من أهل خراسان: يا بن رسول الله، رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، كأنّه يقول لي: كيف أنتم، إذا دفن في أرضكم بضعتي، واستحفظتم وديعتي، وغيّب في ثراكم نجمي؟ فقال له الرّضا عليه السلام: أنا المدفون في أرضكم، وأنا الوديعة والنّجم، أَلا فمن زارني، وهو يعرف ما أوجب الله تعالى من حقّي وطاعتي، فأنا وآبائي شفعاؤه يوم القيامة، ومن كنّا شفعاءَه نجا، ولو كان عليه مثل وزر الثّقلين: الجنّ والإنس.

وعن الهرويّ، قال: سمعت الرّضا عليه السلام يقول: والله، ما منّا إلّا مقتول شهيد، فقيل له: فمن يقتلك يا بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: شرّ خلق الله في زماني، يقتلني بالسّمّ، ثمّ يدفنني في دار مضيعة، وبلاد غربة.

روى الصّدوق، بإسناده عن أبي الصّلت: أنّ عليّ بن


 115


 موسى الرّضا عليهما السلام، قال له: غداً أدخلُ على هذا الفاجر، فإن خرجتُ وأنا مكشوف الرّأس، فتكلّم أكلّمك، وإن خرجت وأنا مغطّى الرّأس فلا تكلّمني. قال أبو الصّلت: فلمّا أصبحنا من الغد، لبس ثيابه، وجلس في محرابه ينتظر، فبينا هو كذلك، إذ دخل غلام المأمون، فقال له: أجب أمير المؤمنين. فلبس نعله ورداءَه، وقام يمشي، وأنا أتبعه، حتّى دخل على المأمون، وبين يديه طبق، عليه عنب، وأطباق فاكهة بين يديه، وبيده عنقود عنب، قد أكل بعضه، وبقي بعضه، فلمّا بصر بالرّضا عليه السلام، وثب إليه وعانقه، وقبّل عينيه، وأجلسه معه، ثمّ ناوله العنقود، وقال: يا بن رسول الله، هل رأيت عنباً أحسن من هذا؟ فقال له الرّضا عليه السلام: اعفني. فقال له: لا بدّ من ذلك، ما يمنعك منه؟ لعلّك تتّهمنا بشيء، فتناول العنقود، فأكل منه الرّضا عليه السلام ثلاث حبات، ثمّ رمى به وقام، فقال له المأمون:

إلى أين؟! فقال: إلى حيث وجّهتني، وخرج عليه السلام مغطّى الرّأس، فلم أكلّمه حتّى دخل الدّار، ثمّ أمر أن يغلق الباب، فأغلق، ثمّ نام على فراشه، فمكثت واقفاً في صحن الدّار، مهموماً محزوناً، فبينا أنا كذلك، إذ دخل عليّ شاب حسن الوجه، قَطَط الشّعر, أشبه النّاس بالرّضا عليه السلام، فبادرت


 116


 إليه، فقلت له: من أين دخلت، والباب مغلق!؟ فقال: الّذي جاء بي من المدينة في هذا الوقت، هو الّذي أدخلني الدّار، والباب مغلق، فقلت له: ومن أنت؟! فقال: أنا حجّة الله عليك، يا أبا الصّلت، أنا محمّد بن عليّ، ثمّ مضى نحو أبيه، فدخل، وأمرني بالدّخول معه، فلمّا نظر إليه الرّضا عليه السلام، وثب إليه وعانقه، وضمّه إلى صدره، وقبّل ما بين عينيه، ثمّ رمى بنفسه على أبيه الرّضا عليه السلام..

شبح عينه ونظر صوب المدينة     جــنه يــومي عــليــها بيـمينه
أولن ابنه دخل ليـه ابو نيـنــه      هوى فوقه يشمّه على الخدّين
هوى فوقه الجواد بقلب ملهوف    اوگام ايقبله واللّون مخطوف

يگله يبويه موتكم بسموم وسيوف

عظّم الله أجوركم, أدير برأس إمامنا إلى القبلة، ثمّ نادى: في أمان الله... وكأَنِّي بالإمام الجواد عليه السلام.

نهض عنه الجواد وجذب ونِّــه               يــتيــم بـــعد أبـوه النّوح فنّه
يويلي عگب ما غســّله وفرغ منّه           إجــوه أهـل البلد كــلــهم محـزنين
ترى محلى الأبو لو قال بوي يا بوي        ومحلى الأخو لو صاح خوي يا خوي


دخل النّاس على الجواد، يقولون له: عظّم الله لك الأجر


 117


 بأبيك.ولكنّ الإمام زين العابدين، من الّذي قال له: عظّم الله لك الأجر؟

يگله بوي أنا الصار بيه ما جرى بنّاس    ترى شاهدتك جسد بالخيل تنداس
يا بويه وتالي الوقت نزلتك بلا راس      الجسد والرّاس صارن لي ابمجانين
يا مَيِّتاً تَرَكَ الأَلْبابَ حائِرَةً                  وبِالعَراءِ ثَلاثاً جِسْمُهُ تُرِكَا


 118


هوامش

1 -قصيدة للشّيخ عبد الحسين شكر.